
من بين مشاهد الصراعات الدينية والطائفية المركّبة بين مكوّنات المجتمع السوري إثر ثورة 2011 ، يبرز مشهد الطائفة الإسماعيلية في سوريا بوصفه استثناءً لافتًا. إذ نادرًا ما تُذكر هذه الطائفة في الخطابات السياسية الطائفية المتصاعدة، أو تُدرج في معادلات التحشيد السياسي أو العنف الأهلي، كما حصل مع طوائف أخرى. بل على العكس، يبدو أن هذه الطائفة – رغم صغر حجمها وانتشارها الجغرافي المحدود – قد تمكّنت، بوعي تاريخي وتكوين ديني واجتماعي خاص، من ممارسة نوع من “الاندماج الإيجابي” في المجتمع السوري، بل وتقديم نموذج في الانفتاح والتفاعل الوطني.
ما الذي يجعل الإسماعيليين مختلفين؟ وكيف استطاعت هذه الجماعة الدينية تجاوز العقلية السياسية الطائفية التي ابتلعت غيرها؟ وما دلالات ذلك على مستقبل التعايش السوري؟ أسئلة جوهرية يطرحها الحضور الإسماعيلي المتوازن في المشهد السوري، ليس من موقع التأثير السياسي أو العدد الديموغرافي، بل من موقع السلوك المجتمعي والتاريخي.
الطائفة الصامتة الفاعلة
يُقدَّر عدد الإسماعيليين في سوريا بنحو 300 ألف نسمة، يشكّلون نحو 1% من السكان. يتوزعون في مدن مثل سلمية ومصياف والقدموس ونهر الخوابي، إضافة إلى دمشق ومدن سورية أخرى. ولئن شاب تاريخهم بعض الغموض والمظلومية، نتيجة التشويه الممنهج في روايات الطوائف الكبرى، فقد حافظوا على خصوصية متميزة، وأسسوا بنية دينية وتنموية فعّالة، تجسّدت خصوصًا في “المجلس الوطني الإسماعيلي الأعلى” و”مؤسسة الآغا خان”، اللتين شكّلتا رافعتين أساسيتين في مجالات التعليم والصحة والمساعدات والتنمية على امتداد الجغرافيا السورية.
لكن الأهم من المؤسسات هو الوعي الجمعي. فالإسماعيليون، رغم طابعهم المذهبي، لم يسعوا إلى فرض حضور طائفي، ولا إلى تشكيل علاقتهم بالمجتمع بناءً على معايير الاصطفاف المذهبي. بل تميّزوا عن الطوائف الأخرى بخطاب ديني عقلاني، يركّز على مركزية العقل والتأمل. وبذلك، تشكّلت لديهم مناعة ذاتية ضد الخطابات التعبوية التي تمزّق المجتمعات.
بين التحييد السياسي والفاعلية الاجتماعية
لا يعني اندماج الطائفة الإسماعيلية وتحييدها للطائفية السياسية أنها طائفة “صامتة” بالمطلق. بل على العكس، تشير الوثائق إلى انخراط واسع لأبنائها في الحياة السياسية السورية منذ الاستقلال السوري 1946، سواء من خلال الأحزاب التقليدية كحزب الشعب، أو عبر الانخراط الكبير في القوى اليسارية كالحزب الشيوعي وحزب البعث في مراحله الأولى. وبرز منهم مثقفون وسياسيون معروفون، كما سُجِّلت لهم مواقف معارضة صريحة لنظام الأسد، كان أبرزها اعتقال المئات من أبناء سلمية في ثمانينيات القرن الماضي بسبب انخراطهم في أحزاب معارضة مثل “العمل الشيوعي” و”المكتب السياسي” و”البعث الديمقراطي – جناح صلاح جديد”. وأحزاب أخرى معارضة.
هذا التحييد السياسي للطائفية لم يكن خضوعًا، بل خيارًا واعيًا أسهمت في ترسيخه مجموعة من العوامل، أبرزها النزعة العقلانية في العقيدة الدينية، والانفتاح التعليمي، وطبيعة العلاقات المجتمعية المنفتحة، إضافة إلى دور القيادة الدينية المتمثلة بالآغا خان، التي شددت دائمًا على الانخراط في المجتمعات والولاء للوطن، لا للطائفة.
في الثورة: الانحياز للحرية
ربما يُعدّ موقف الطائفة الإسماعيلية من الثورة السورية عام 2011 من أقوى الشواهد على ابتعادها عن العصبيات الطائفية. فعلى الرغم من تعقيدات الجغرافيا المحاطة بتجمعات علوية وسنية، ورغم محاولات النظام تصوير كل حراك احتجاجي على أنه “مؤامرة طائفية”، لم تتردد مدينة سلمية، مركز الثقل الإسماعيلي، في الانخراط في الاحتجاجات منذ الأسابيع الأولى.
خرج شبابها في مظاهرات الحرية، وفتحوا بيوتهم للمهجّرين من حماة وحمص، ورفعوا شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” في لحظة كان فيها النظام يمعن في القمع. وكان لافتًا أن التحريض الطائفي الذي حاولت أجهزة النظام بثّه بين الإسماعيليين والسنة قوبل بوعي مجتمعي أبطله تمامًا، بل وقوبل بشجاعة ورفض واضحَين.
ومع انتقال الثورة إلى العمل المسلح وظهور “داعش” على حدود مدينة سلمية، وجدت الطائفة نفسها بين مطرقة النظام الاسدي وسندان تنظيم داعش المتطرف . اضطرت للانكفاء أحيانًا، وللهجرة – خاصة شبابها – إلى تركيا وأوروبا، خصوصًا بعد ارتكاب تنظيم داعش مجازر مروّعة في بلدتي المبعوجة وعقارب. ومع ذلك، لم تنجرّ الطائفة إلى صراع طائفي، بل حافظت على تماسكها، رغم ما تعرّض له شبابها من اعتقال وتعذيب وتغريب.
ليسوا أقلية بالمعنى التقليدي
بعكس طوائف أخرى، التي تسعى إلى حماية وجودها عبر خطاب “الأقلية المظلومة”، لا يتبنى الإسماعيليون هذا المنطق. فهويتهم المذهبية لم تكن يومًا عائقًا أمام الانتماء السوري الوطني الجامع، ولا أداةً لطلب الحماية أو التلويح بالخوف من المستقبل. بل إن تجربتهم في التعايش مع الطوائف الأخرى، وخاصة مع السنة، من خلال التزاوج والمصاهرة المتبادلة، تبرهن على قدرتهم العالية على الاندماج، بل وعلى إحداث تأثير إيجابي في محيطهم.
وتُظهر مدينة سلمية نموذجًا فريدًا في ذلك: مدينة مختلطة، تجمع السنة والإسماعيليين والعلويين والشراكسة والعشائر البدوية، وتتفاعل فيها الانتماءات لا لتنتج صراعًا، بل لتشكّل “فسيفساء عقلانية”. ولعلّ من أبرز الدلالات، أن عائلات إسماعيلية بأكملها تحتضن أبناء وبنات من خلفيات سنية وعلوية ولا دينية، دون أن يحمل ذلك أي حساسية أو طعن في “نقاء الانتماء”، كما هو الحال في طوائف أخرى.
نموذج ينبغي تعميمه لا تهميشه
في وقتٍ يتغوّل فيه الانقسام الطائفي في سوريا، وتُقزَّم فيه الانتماءات الوطنية لصالح الولاءات المذهبية، تبرز الطائفة الإسماعيلية كنموذج يجب أن يُحتذى به لا أن يُهمّش. المسألة ليست عددية أو جغرافية، بل تتعلّق بوعي جماعي وإرث ثقافي وخيارات سياسية. نموذج يتبنّى التعددية بلا خوف، والعقلانية بلا تعالٍ، والانتماء الوطني بلا شعارات جوفاء.
ليس مطلوبًا من الطوائف الأخرى أن “تصبح إسماعيلية”، بل أن تتعلم كيف استطاعت هذه الجماعة تجاوز مغريات الطائفية السياسية، وأن تدرك أن التمايز لا يعني التصادم، والانفتاح لا يعني الذوبان.
خاتمة
الإسماعيليون في سوريا ليسوا طائفة صامتة، ولا كتلة معزولة، بل هم مكوّن حي، يحمل تجربة تستحق الإنصات والتحليل. لم يختاروا الاصطفاف المذهبي، ولم ينجرّوا إلى العنف، بل اختاروا طريقًا ثالثًا: أن يكونوا وطنيين بلا طائفية، ومتدينين بلا تعصب، ومنتمين بلا استعلاء.
وفي وقتٍ يحتاج فيه السوريون إلى نماذج تعزز خطاب العيش المشترك والدولة المدنية، تبدو تجربة الإسماعيليين واحدة من أبرز هذه النماذج، بل لعلها النموذج الوحيد الذي هزم الطائفية لا بالقوة، بل بالعقل والانفتاح والاندماج.
المصدر: تلفزيون سوريا