بين الأيديولوجيا والواقعية السياسية: قراءة في المشهد السوري الجديد

علي بكر الحسيني

في خضم الأحداث المتلاحقة التي عصفت بسوريا على مدى أكثر من عقد، وما أفرزته من مشهد متشظٍ سياسياً وعسكرياً واجتماعياً، يبرز اليوم تحول جديد في الوعي الجمعي والسياسي لدى شريحة كبيرة من السوريين الذين باتوا يبحثون عن إستقرار حقيقي بعيداً عن الشعارات، ويريدون قيادة تَعبر بهم من مستنقع الدماء والشتات إلى دولة القانون والمؤسسات.

منذ إنطلاقة الثورة السورية إنقسمت المعارضة المسلحة بين فصائل متعددة، منها ما كان يحمل مشروعاً وطنياً ومنها من تبنى أيديولوجيات عابرة للحدود لا تعترف بحدود الوطن أو بتنوع شعبه، وكان من أبرز هذه الفصائل “جبهة النصرة” التي تحولت لاحقاً إلى “هيئة تحرير الشام”، بقيادة أبو محمد الجولاني حينها. هذه الجماعة مثّلت في وقت من الأوقات الوجه المتشدد للثورة، وساهمت في تشويه صورتها أمام الداخل والخارج وأثارت حفيظة كل من كان يؤمن بسوريا مدنية ديمقراطية وهذه حقيقة لا يمكن المواربة في قولها.

لكن الأحداث لا تبقى على حالها، والسياسة بطبيعتها متغيرة وفقاً للظروف والمعطيات، وقد أثبتت السنوات أن الأيديولوجيا الجامدة لا يمكنها الإستمرار في عالم يمور بالتبدلات الجيوسياسية، هنا تبرز مفارقة مهمة وهي أن كثيراً من الشخصيات والقوى التي كانت في يوم ما من ألدّ أعداء هيئة تحرير الشام، وجدت نفسها لاحقاً مضطرة إلى إعادة قراءة المشهد بعد أن أبدت الهيئة – أو قيادتها على الأقل – تغيراً في الخطاب والسلوك، خصوصاً بعد سيطرتها على سوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع.

التحول الفكري:
هنا سأسمح لنفسي بقول أنني أثق بمن كان يعارض الجولاني لغاية وصوله للسلطة، وأصبح يقف مع الرئيس أحمد الشرع عندما تعهد ببناء الدولة السورية وتعهد بعدم سفك الدماء السورية ونجح لحد كبير برغم من توقعات العالم كله أن الدماء ستملئ شوارع سوريا انتقاماً من قبل الأكثرية، وهم أهالي لأكثر من مليون شهيد سقطوا على يد نظام بشار الاسد.
أنا كنت معارضاً على طول عمر الثورة للنصرة ولاحقاً للهيئة وعند الأيام الأولى بعد النصر أيضاً بسبب السرد أعلاه، لكنني لست أسير أيديولوجيا عمياء لا تُحدّث نفسها ولا تقرأ المحيط الجيوسياسي، أنا أحاول الابتعاد عن التقوقع في فكر مغلق وأحاول أن ينسجم رأيي السياسي حسب مصلحة سوريا وشعبها فلكل زمان معطياته وأحداثه، وما زلت مصراً على أن الرئيس الشرع صمام أمان لهذه المرحلة، كما وأنني أتقبل كل من يختلف معي، وأعرف رأيهم مسبقاً لأنهم أسرى فكر منغلق وأيديولوجيا لم تطور ذاتها.
هذه الكلمات تلخص ما يمكن وصفه بـ”التحول العقلاني”، الذي لا يعني التراجع عن المبادئ، بل مراجعتها في ضوء الواقع والنتائج، فالثورة ليست شعارات، ولا يجب أن تكون رهينة الماضي، وفي السياق ذاته فإن القبول بقيادة سياسية جديدة لا يأتي من باب الإستسلام، بل من باب الواقعية والرغبة في إنقاذ ما تبقى من الوطن.

الرئيس أحمد الشرع – بحسب المؤيدين له وأنا منهم – استطاع أن يُحدث نوعاً من التوازن في منطقة كانت مرشحة للإنفجار، وأرسل رسائل طمأنة إلى المكونات السورية كافة، مفادها أن زمن الإقتتال قد إنتهى وأن ما تحتاجه البلاد اليوم هو دولة تحكمها مؤسسات وقانون، لا سلاح وأحكام عرفية.
وهذا التحول لم يكن ليتحقق لولا نضج سياسي داخل جزء من التيار الإسلامي الذي أدرك خطورة الإقصاء الأيديولوجي وأوهام إقامة “دولة خلافة” على أرض مدمرة ومجتمع متعدد ومنقسم.
غير أن الطريق لا يزال طويلاً، فهناك من يرفض الإعتراف بأي تحول ويعتبر ما يجري مجرد مناورة سياسية، وهناك من لا يزال يعيش في زمن الثنائيات الصلبة: “مع الثورة أو ضدها”، “مع الهيئة أو مع النظام”، دون إدراك أن المعركة اليوم هي من أجل بناء وطن يتسع للجميع، وليس تصفية حسابات على أنقاض وطن محترق.

لقد آن الأوان لأن تُفتح نوافذ العقل السياسي، وأن يُمنح صوت الإعتدال فرصة ليقود المشهد، فالإنتصار الحقيقي لا يكون في السيطرة على الأرض، بل في استعادة الكرامة السورية، وتوحيد القرار الوطني ووضع حد لمعاناة شعب يعيش منذ سنوات بين مطرقة التشدد وسندان الاستبداد.
إن من حق السوريين أن يتعبوا من الشعارات والدماء، وأن يبحثوا عن الأمان لا في شعارات رنانة، بل في مؤسسات حقيقية، ومن الواجب على الجميع أن ينفتحوا على فكرة التغيير الإيجابي، حتى لو جاء التغيير من جهات كانت في السابق على الضفة الأخرى فالوطن أولاً… والدم السوري أغلى من كل الرايات …

أتمنى القليل من الايديولوجيا والكثير من الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى