أخذ الصراع الدائر بين قسد وأحد مجالسها العسكرية بداية، بعداً عشائرياً واضح المعالم، بين قبيلة العقيدات وقوات قسد، بعد دخول الشيخ (إبراهيم خليل عبود الجدعان الهفل العبدالله العلي الظاهر) عبر رسالة صوتية واضحة الدلالة والرسائل، وهو ينوب عن أخيه الأكبر الشيخ مصعب، المقيم في دولة قطر. وما اجتماع مئات من المتحمسين من أبناء القبيلة أمام مضافته في بلدة ذيبان إلا نوع من النخوة العشائرية. حيث شكلت مواجهة قسد فرصة لشد عضد القبيلة والمشيخة في مرحلة تفتت كبير للوجهاء الاجتماعيين والشبكات الاجتماعية التقليدية في سوريا عامة، بعد أن سحبت الميليشيات وقوى الأمر الواقع والنظام معظم رأسمالها الرمزي وأدوارها.
وبحسب ما ورد من معلومات فإن نداء مشيخة العقيدات جاء بعد تمنع قادة قسد والتحالف من الرد على وساطاته بشأن المجلس العسكري وتراكم المطالبات بقضايا خدمية وحدوث اعتقالات تعسفية لأبناء ريف دير الزور بحجة داعش، إضافة إلى الامتناع عن السماح لعدد من المقيمين بمخيم الهول من أبناء قبيلة العقيدات بالخروج منه لتبقيهم قسد أداة ضغط دولية ومتاجرة بين يديها.
ومن المهم توضيح أن هناك الكثير من الخلافات داخل قبيلة العقيدات بين عشائر البوكامل (ممن تنتمي إليهم المشيخة) وعشائر البكيّر ممن ينتمي إليهم (أحمد الخبيل) وهو خلاف له جذوره القريبة، خاصة في مرحلتي داعش والنصرة، حيث كان للنصرة حضور كبير في البوكامل (الشحيل خاصة) فيما ناصر الكثير من أبناء البكيّر داعش. لكن اقتضت المصلحة العامة للقبيلة الآن، الوقوف مع أبناء العمومة ضد قسد واعتداءاتها، ولعل هذا كان واضحاً في عدد من تسجيلات شاهدناها، تؤكد أن الحراك ضد قسد لا يأتي مناصرة لأحمد الخبيل أو المجلس العسكري، (هناك خلاف معهم وعتب شديد عليهم) بل رداً على اعتداءات قسد عامة وتهميشها المنطقة وأبنائها وعشائرها ونهب ثرواتها، ربما يكون سببه الرئيس الاعتداء على عشيرة (أبو خولة).
يشار إلى أن قبيلة العقيدات والعشائر المتحالفة معها في دير الزور، هي القبيلة الأكبر، (نحو نصف مليون)، تعيش على امتداد جزء من نهر الخابور، ونهر الفرات بضفتيه في كامل ريف دير الزور الشرقي (250 كم طولاً تقريباً) مروراً بمنطقتي الميادين والبوكمال. ومشيخة الهفل هي المشيخة المركزية للقبيلة (عيال الأبرز) عبر أكثر من مئتي عام، في عموم سوريا والوطن العربي. وللقبيلة تحالفاتها مع القبائل الأخرى. ولها خلافاتها القديمة مع بعض القبائل، من مثل قبيلة شمر، وما محاولة إدخال فرقة الصناديد من قبل قسد على الخط (وهي من قبيلة شمر)، إلا إذكاء لروح لخلافات عشائرية بين العقيدات وشمر ووقعات عسكرية كان آخرها مطلع ثمانينات القرن العشرين.
يذكر أن التحالف الدولي لديه مجلس عشائر واجتماعات دورية معهم وعلى اطلاع ومعرفة بما يحدث، والحديث عن قسد فحسب، نوع من التغاضي عن تحميل المسؤولية للتحالف الدولي، الذي لولاه لكان إخراج قسد سيتم خلال فترة قصيرة من كل منطقة ريف دير الزور، لأن حجة داعش انتهت، ولا أرضية شعبية لها هناك، ولا مصلحة لها بالبقاء في منطقة تحتاج إلى دولة كي تخدّمها، نظراً لسعة المساحة الجغرافية والطابع العشائري التعاضدي، لكن الأميركيين والغربيين عامة بطيئو التحرك فيما لا يتعلق بهم مباشرة، وينتظرون في مرات كثيرة ما يجري على الأرض ليتحركوا!
هل يمكن الحديث عن انتصار عسكري لعشائر العقيدات أو قسد فيما لو تطور النزاع بينهما؟
من الصعب الحديث عن تكافؤ عسكري بين الطرفين، لأن العشائر المكونة لقبيلة العقيدات لديها أسلحة فردية غالباً، إذ سبق أن جمعت قسد الأسلحة الثقيلة في ما بعد مرحلة داعش، ربما ستنتصر قسد مرحلياً، كونها مدعومة من التحالف الدولي، لكن القبيلة ستكون مصدر إزعاج لقسد والقوات الدولية والإنتاج النفطي، بل إنني أرجح أن عدداً من أبنائها سيمد يديه لقوات النظام بهدف إزعاج قسد والتحالف.
وقتها، ستلجأ عشائر العقيدات، إلى أسلوب المناوشات والاغتيال، خاصة أن الكتلة الصلبة للعقيدات المتمثلة بـ (البوكامل) ممن يقطنون في ذيبان والشحيل وما يحيط بهما مشهورة بشراستها وشجاعتها، ولها سردياتها تجاه الاحتلال الفرنسي والقبائل الأخرى، أما من جهة قسد فسيتمّ إحياء فكرة داعش ثانية لكي تسوغ عنفها ضد السكان المدنيين هناك، لا مصلحة للطرفين بإطالة أمد النزاع هناك وأحيب أن التحالف الدولي سيعلن كلمته ويهدئ الأمور، إذ لا مصلحة له بفقدان القاعدة الشعبية خاصة أن الميليشيات الإيرانية تبعد كيلومترات قليلة.
يُشار إلى أن هناك الكثير من العشائر ممن تنتمي للعقيدات لن تشارك في الصراع مع قسد، نتيجة آثار الخلافات في مرحلتي النصرة وداعش فيما بينها وكذلك وجود تقاطع مصالح مع قسد. أو على الأقل ستتريث كثيراً في المشاركة بخاصة الشعيطات، لو افترضنا أن مرحلة النزاع ستطول، مع ترجيح فكرة أن الأمور ستهدأ، لأن العرف العشائري الراجح عند المشيخة، منذ عشرات السنين يتمثل في التفاوض مع السلطات الحاكمة ومحاولة تحصيل مزيد من الحقوق للمشيخة والعشائر، وتلك السياسة القبائلية في التعامل مع سلطات الأمر الواقع والدولة السورية رسخها الشيخ الأبرز، (جد الشيخ إبراهيم)، الشيخ عبود الجدعان الهفل الذي كان عضواً في مجلس الشعب فترة طويلة، وقد كان حافظ الأسد يستقبله دورياً، وكان مشهوراً بحكمته وحنكته السياسية والقبائلية. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الموقف داخل القبيلة وعشائرها في مراحل الثورة السورية، قد مر بتحولات في مراحل الجيش الحر والحضور الموارب للنصرة (2012-2014) وداعش (2014-2019) وقسد (2019-2023) وقد تضمن الكثير من الاصطفافات وتغير الولاءات بين أبناء الفخذ الواحد. ولا ينسى الأهالي أنه في مرحلة الجيش الحر (2012-2014) قد سيطروا على معظم الآبار النفطية، حيث طردت سلطات النظام السوري من هناك، أو تعمدت الرحيل أحياناً، لعدم قدرتها على إخماد الثورة من جهة، وكذلك لتعزيز الخلافات بين الكتلة الصلبة لعشائر العقيدات نتيجة الخلافات حول الأحقية بآبار النفط وبيعه من جهة أخرى، بهدف إضعافها، وتفتتيتها، وهو ما ترك آثاراً سلبية لاحقاً على العشائر في مرحلة داعش وما بعدها.
يُذكر أن علاقة قسد بالمنطقة وسوء الخدمات واستغلال نفطها عوامل ذات أثر كبير في الحراك العشائري ونداء المشيخة، ولا بد من توضيح أن حقل العمر النفطي الذي كان ينتج أكثر من 150 ألف برميل نفط يومياً، يقع في أراضي فخذ البوكامل (المشيخة جزء منه)، وصكوك الملكية العثمانية فضلاً عن الأعراف العشائرية، تؤكد ذلك، حيث إنه يقع في واجهة أراضيهم من جهة البادية، بل إن اكتشافه منتصف ثمانينات القرن الماضي كان ضمن المناطق السكنية، لكن شركات الإنتاج والحكومة السورية آنئذ فضلت أن يكون الحفر على مسافة كيلومترات قليلة باتجاه البادية. ويتحدث الأهالي هناك عن تصدعات في الأبنية نتيجة انخفاض ضغط الأرض بعد استخراج النفط والغاز منها، وقد سمعتُ إبان زيارتي لأهلي العام الماضي هناك أحاديث كثيرة حول أن نفطنا يأخذه “الكرد” والقنديليون لتنمية مناطقهم، فيما تعاني مناطقنا من انعدام الخدمات والتعليم وانتشار الأمراض الناجمة عن استعمال الأسلحة!
السؤال: هل هذا التحرك يدخل في الوعي العشائري فحسب أم أنه عشائري على طريق الوعي الوطني وما بوصلته؟
من الصعب التنبؤ بمآلات ذلك الحراك ونتائجه، لكن لا يمكننا بناء الكثير من التفاؤل عليه إلا من جهة كونه حراكاً مقاوماتياً فاعلاً في الشخصية السورية التي باتت متمسكة بقيم الحرية والثورة على سلطات الأمر الواقع وغير مستعدة لتحمل الظلم والتجويع. وهذا الوعي العشائري بحاجة إلى متابعة وتوظيف ضمن الأهداف الوطنية السورية لمطلب الحرية، ليأخذ مكانه في سياق الحراك الوطني السوري الثائر ضد النظام ومحاولات إذلال السوريين، كي لا يبقى بصفته نخوة وفزعة عشائرية، مع الإقرار بجمالية تلك الفزعة والنخوة!
ويلاحظ من يزور المنطقة أنه ثمة شوق لدى الأهالي لسلطة الدولة (وليس لسلطة نظام الأسد) لجوانب خدمية واعتبارات اجتماعية والتخلص من وجهاء السلاح والشبيحة، إضافة إلى الرغبة باستعادة التعليم نظراً لوجود جيل كامل من الأطفال والشباب الأميين، وبالتالي صار لدينا “قطيعة أمية” بين جيلين، سأذكر مثالاً عليها، هناك عائلة كبيرة واحدة مكونة من 30 فرداً تنقسم إلى:
من هم فوق الخامسة والثلاثين عاماً، خريجي جامعات.
من هم بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين، متعلمين، متوقفين عن إتمامه.
من هم بين العاشرة إلى الخامسة والعشرين، يغلب عليهم عدم التعلم وبالتالي العودة إلى منظومات بائدة في التفكير ومقاربة الحياة، ووضع هؤلاء مأساوي ويقع في سياق مشكلة الانقطاع عن التعليم سورياً وهي مشكلة اجتماعية مرعبة ستظهر نتائجها السلبية أكثر بمرور الأيام.
أخيراً: هل يمكن أن يصب تحرك المشيخة القبلية والعشائرية (في ريف دير الزور) ضد سلطات الأمر الواقع (قسد) في نفس خانة أهداف تحرك المشيخة الدينية والشعبية في (السويداء) ضد النظام مثلاً؟ وما ممكنات الوعي السياسي وتقاطعاته في المنطقتين؟ وما تحولات موقف كل منهما منذ بداية أحداث الثورة؟
وما حجم ما أصاب كل منطقة منهما من دمار وتهجير؟ وهل ستفجر المطالب الخدمية السورية مرحلة جديدة في عمر الثورة السورية؟
الأكيد أن كل هذا الحراك السوري الثوري، مهما كانت دوافعه ومآلاته، يقدم ألواناً متميزة من الشخصية السورية والمجتمع السوري في مرحلة ثورة عام 2011 وموجاتها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا