التاريخ محال أن يتكرر ، وأحداث التاريخ وتفاصيلها لا يمكن أن تتطابق ، قد يستفاد من التجربة التاريخية لأي حدث ، ولكن طريقة التعامل مع الحدث الحالي واستخلاص الحلول والوصول الى مخرجات له ، لا يمكن أن تكون نسخ ” فوتوكوبي ” عن أحداث أخرى في زمن ٱخر ، ويبقى أن محطات التاريخ لا يمكن تجاوزها او التغافل عنها بالمطلق .. ويرى الفيلسوف الفرنسي جان بودريان ” أن لا شيء مما اعتقدنا أن التاريخ تجاوزه اختفى حقاً ، وأن كل ما ليس قابلا للزوال يغدو اليوم قابلا للتدوير ” ..
وفي هذا السياق فإن ما يجري الٱن في السويداء ، حدث لافت حقاً ، قد يكون أمتداداً لثورة الحرية والكرامة التي انطلقت عام ٢٠١١ ، ولكن حتى يتكلل النجاح للحراك الشعبي ، فإن ما يجب العمل عليه أن يتم الانطلاق في التحليل وصياغة الرؤية لتحقيق المطالب المحقة التي ترفعها الانتفاضة للوصول إلى بر الأمان ، يتطلب نظرة واقعية ، وإبداع للحلول وعدم دفعها الى مساحات لا تستطيع تحملها وقد تقودها الى منزلقات تؤدي الى إجهاضها ..
انتفاضة السويداء على مفترق طرق حاسم ، استمرارها تأكيد لمطالب الشعب السوري وتحقيقاً لانتصاره .. ولكن على من يحرك الحراك أن يتحرك بعقلانية ، ويراعي الظروف والشروط المحلية والتداخلات الاقليمية والدولية وانعكاسها على القضية السورية برمتها ..
وهنا لا بد من التوقف عند المناخ الخاص والعام الذي يحيط بانتفاضة السويداء :
١- لا بد من ملاحظة أن ظروف الثورة السورية عام 2011 والمناخات التي ولدتها – ثورات الربيع العربي – سواء على المستوى الداخلي أم الاقليمي أم الدولي تختلف عن المناخات التي فجرت انتفاضة السويداء .. فالتوازنات والتدخلات الإقليمية والدولية مختلفة ، وطبيعة المجتمع السوري بعد أكثر من 12 عاما من القتل والتدمير والخراب الاقتصادي وهجرة الأغلبية العظمى من الشباب ( وهم وقود اي ثورة او انتفاضة ) يجعل من الصعوبة بمكان أمتداد انتفاضة السويداء الى بقية المحافظات السورية .. إذ لم يعد للمواطنين السوريين في أغلب المحافظات ( والغالبية الٱن من الكهول ويتحملون مسؤولية أسرهم بشق الأنفس ) القدرة على النهوض مرة أخرى وهم يعلمون أنهم سيواجهون بالعنف والسحق من قبل السلطة الأمنية .. وهم يعلمون أن ظروف السويداء لا يمكن القياس عليها في بقية المحافظات ..
٢- النظام كعادته يلعب على الزمن بمواجهة انتفاضة السويداء ، وهو يناور على الوقت من أجل خفض حدة تصاعد الحراك الشعبي .. وهو قد يقدم على الحل الأمني في ضرب الانتفاضة ، لكنه يحسب حسابات معقدة قبل الدخول في مواجهة عسكرية وامنية .. وهو بهذا السياق لا يتعامل مع أي منطقة أو محافظة بحلول واحدة ، وبطريقة واحدة .. فلكل منطقة لها حساباتها وتعامل خاص يختلف من منطقة لأخرى ..
وهو يعرف أن تدخله المباشر في قمع الانتفاضة قد تجر عليه مالا يحمد عقباه وتسقط من يده أمام المجتمع الدولي ورقة الجوكر بأنه ” حامي الأقليات ” ، هذا إذا لم يؤدي تدخله القمعي الى تدخل دولي قد يؤدي الى انفلاش كل أوراق اللعب من بين يديه ..
وهذا لا يعني أن يقف النظام عاجزا أمام الحالة المتفاقمة ضده في السويداء ، وهو يمتلك أوراق يمكن زجها من خلال المؤيدين أو المترددين أو التابعين بالخفاء في اللحظة المناسبة له ، من أجل الدفع بالصراعات أو تحريك الاضطرابات أو عمليات الاختطاف والفديات أو التحريض على حمل السلاح ، للدخول على خط المواجهات باعتباره وسيطاً ، تمهيداً لفرض قبضته على المحافظة من جديد .
٣- مما لا شك فيه أن حالة التضامن والالتفاف من جميع المواطنين بالسويداء وبصوت واحد للتأكيد على مطالبهم المطلبية والسياسية ، تعطي الأمل بصعوبة الاختراق من قبل أجهزة السلطة ..
وهذا يتطلب العديد من الإجراءات التي يجب القيام بها – سأستعرضها لاحقا – ، ولكن قبل ذلك ، يجب على من يدير الحراك أن ينهي مسألة تعدد الوان الرايات او كما يقول عنها البعض بانها ” بياررق ” لكل منطقة من المناطق ، لكنها رايات تعطي الانطباع بالانقسام أو قد تعطي الانطباع مع ما يترافق من البعض الذي يطرح صيغة ” الحكم الذاتي ” قياسا على تبني الأكراد في الشمال الشرقي لهذه الصيغة ، خاصة وان هناك من يروج لها بإمكانية الدعم المادي والمعنوي ويقال بتمويل من ” قسد ” التي تدير مناطقها ومناطق عربية ألحقتها بها بدعم أمريكي ودعم من مختلف القوى النافذة بالملف السوري .. كما ينبغي التصرف بحكمة تجاه قطع الطرقات وإغلاق المؤسسات ، وإيقاف الفعاليات الادارية والاقتصادية .. ذلك لأن المواطنين لهم حداً يمكن تحمله ،، ويضعف هذا التحمل بالتدريج مع مرور الوقت .. فالناس هناك بحاجة للماء والكهرباء والاتصالات والمصارف والرواتب والأغذية بيعا وشراء داخل المحافظة وخارجها .. إذا لا يمكن إغلاق المحافظة على نفسها لفترة طويلة بما يؤدي الى الضرر بالمواطنين ومعيشتهم وضرب مصالحهم، وبما قد يؤدي أيضاً الى انخفاض وتيرة حماسهم ودعمهم ومن ثم انفضاضهم عن الحراك الشعبي تدريجيا ..
٤- مخططات القوى الدولية في تقسيم المنطقة ومن ضمنها سورية لم تعد سراً ، وبالرغم من الموقف الوطني المتميز في إعلان الانتفاضة عن تمسكها بوحدة الجغرافيا السورية ، والتعبير عن إخلاصها الوطني كجزء أصيل من الشعب السوري ، فإن على العقلاء منع إطلاق الشعارات التي لا تتحمل الانتفاضة تبعاتها ، فمن يطلق أكثر الشعارات مزاودةً هو أول من يهرب ويترك المنتفضين لمصيرهم ..
اليوم الدول الكبرى غارقة في صراعاتها ، والحرب الروسية الأوكرانية ثم الصراع الصيني الأمريكي كاولوية للولايات المتحدة الامريكية ، هي صراعات وجود لأمنها القومي ، ولم تعد محط اهتمامها الصراعات الأخرى وعلى الأخص الصراعات الداخلية في الدول ، قد تحرك وكلائها بما يؤدي الى استمرار مصالحها ، ومصلحتها في سورية والمنطقة إذكاء الصراعات الاثنية والطائفية وصناعة الحروب البينية بين الدول وفي داخلها ، لا إقافها أو وضع حد لها ..
ومن هنا على العقلاء في السويداء التصرف بحذر وبحكمة ، وعليهم إيجاد مخرج يليق بانتفاضتهم وتضحياتهم ، والحكمة أن لا تبقى السويداء محاصرة ، فإمكاناتها الذاتية لا تسمح باكتفائها الذاتي ، وهي إما أن تبقى في حضن وطنها ، أو ان يتم – إذا لم تجد مخرجا عقلانيا – الحاقها إما بالنفوذ الأردني أو بالنفوذ الإسرائيلي أو تحت وصاية أي منهما .. وفي كلتا الحالتين تخرج من مطب وتقع في مطب موحل أعمق وأشد ظلاماً ..
والمخرج العقلاني والعملي اليوم يمكن تصوره وفق الخطوات التالية :
١- ان يقوم شيخ العقل ” الهجري ” بدعوة الرموز الوطنية لكافة القوى السياسية والمدنية المشهود لهم بالكفائة والنزاهة والحرص على مستقبل بلدهم ، بتشكيل لجنة منهم للمتابعة والإشراف على المؤسسات والإدارات العامة ، وأن يبقى التظاهر والاعتصام مستمرا في أوقات محددة ، مثلا ساعة في النهار وساعتين او ثلاثة في الليل .. حرصا على أعمال المواطنين وتسييراً لأعمالهم بسلاسة …
٢- تحديد المطالب الموضوعية للحراك الشعبي ، وتحديد الٱلية المناسبة للتفاوض مع النظام ، أعرف مسبقاً أن مجرد طرح ” التفاوض مع النظام ” سيثير غضب الغاضبين ، وحنق المزاودين ، ولكن مصلحة محافظة السويداء التي هي مصلحة وطننا يجب أن تكون فوق أي اعتبار ..
المعارضة السورية وهي في أوج قوتها وحينما كانت أغلب الأراضي السورية تحت سيطرتها دخلت عملية التفاوض السياسي في جنيف .. صحيح أنها لم تجني ثمارا من التفاوض لكن ذلك كان إضافة إلى أسباب دولية واقليمية نظرا لتعقيدات الازمة السورية فإن أحد الأسباب أيضا في تفرقها وصراعاتها مع بعضها ، وارتباط أغلبها بأجندات سارت خلفها ..
التفاوض مع النظام وفق محددات وأسس ، وأساس التفاوض يجب يقوم على تثبيت اللامركزية الإدارية للمحافظة ، وعدم تدخل أمن النظام وقواه العسكرية في شؤون المحافظة ، وأن يتم تشكيل مجلس محافظة لمدة ستة أشهر يقوم على اختيار أعضائه بالتوافق بين القوى السياسية والمدنية تمهيدا بعد ستة أشهر لإجراء انتخابات حرة ونزيهة دون تدخل النظام أو استطالاته الأمنية والحزبية ..
إن تطبيق اللامركزية الإدارية وفق القواعد الصحيحة ، تتحدد فيها صلاحيات الإدارة المحلية بدقة ووضوح، وصلاحيات الحكومة المركزية بالإشراف العام بما يمنع تغول السلطة المركزية نهائيا على استقلالية قرارات الإدارة المحلية ، وبالتوازي مع انتخابات المجلس البلدي ، يتم تحديد من يتولى منصب محافظ الحسكة بالانتخاب المباشر من المواطنين في المحافظة ..
إن الوصول الى اتفاق مع النظام على هذه المحددات وغيرها ، ونجاح محافظة السويداء في إدارتها لنفسها ، سيجعل منها نموذجا فذاً ومثالا يحتذى تدفع بالمحافظات الأخرى الى المطالبة بتطبيق تجربة السويداء على كامل الأراضي السورية في تطبيق فعلي للامركزية الإدارية ..
٣- هذا الاتفاق في فرض اللامركزية الإدارية لا يعني على الإطلاق التخلي عن التغيير السياسي بل يجب الإصرار على تنفيذ القرارات الدولية وعلى رأسها بيان جنيف ١ والقرار ٢٢٥٤ / ٢٠١٥ الذي يحدد خارطة الطريق للانتقال السياسي كمرتكز للتغيير الوطني الديمقراطي ، وعلى الانتفاضة أن تكون رافعة لهذا التغيير بالدعوة الى المؤتمر الوطني الجامع للقوى الوطنية السياسية والمدنية ، وبأن يكون مقر انعقاد المؤتمر الوطني في محافظة السويداء ، من أجل وضع رؤية حقيقية للتغيير السياسي الذي يستند إلى نظام ديمقراطي تداولي ، ويرتكز على دولة المواطنة المتساوية لجميع السوريين ..
ونعود إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي جان بودريان من أن بعض أحداث التاريخ إذا كانت غير قابلة للزوال فإنها اليوم قابلة للتدوير ، والتدوير يبقى أشد وأخطر بكثير من التكرار ، والتكرار لا يمكن حصوله مع تغير الزمان والمكان ، كما ان التدوير لأي حدث يبقى عملية مشوهة تنتج حلولا مشوهة ، و استعصاءات لا سبيل لتجاوزها …