احتجاجات السويداء.. والسيناريوهات المتوقعة

لم تولد انتفاضة السويداء فجأة من فراغ، وهي التي يقطنها غالبية من الموحدين الدروز، بل هي تراكم لمواقفها السابقة، التي بدأت مع بداية الانتفاضة السورية في 2011، إذ نأت المحافظة بنفسها عن الوقوف إلى جانب النظام، وعبّرت عن ذلك برفض إرسال شبابها إلى الخدمة العسكرية، “كي لا يسهموا في قتل أشقائهم من السوريين”، ولكنها بالمقابل لم تبدِ تأييدًا لفصائل المعارضة المسلحة أو للمجلس الوطني أو الائتلاف، غير أن بعض قواها كان له موقفًا أكثر جذرية بعدائه للنظام، وخاصة “ثوار الكرامة” بقيادة الشيخ البلعوس، الذي قتله النظام في 4 أيلول/ سبتمبر 2015، بل إن فصيلًا مسلحًا قد تشكل من أبناء السويداء بقيادة الملازم أول خلدون زين الدين، الذي لم يحصل على ذات الدعم الذي حصلت عليه الفصائل الأخرى، ثم قُتل في إحدى المعارك مع قوات النظام. ورغم أن نشاط السويداء المعارض للنظام كان يتأرجح بين صعود وركود، فقد بدأ بالتصاعد في السنتين الأخيرتين مع تدهور الأوضاع المعيشية إلى حدود لا يمكن تحملها، فالأمل بتحسين ظروف العيش الذي وعد به الأسد السوريين في مناطق سيطرته مع صمت البنادق قد تبخر، وغدا الوضع أصعب مع تدهور مختلف الخدمات، واستمرار الحواجز واستمرار ابتزاز المواطنين، وتوسع الفساد، وتردي نوعية الحياة من كل الجوانب، حيث يصعب تحمل الحياة في ظلّ شروط عيش أدنى من شروط العبودية، وتزايد هجرة شباب السويداء، أسوة بشباب بقية المناطق، وهذا يهدد بإفراغ سورية من سكانها، بينما تنشط إيران لشراء العقارات وعمليات التشييع وتجنيس الأجانب، ما يهدد بتغيير ديمغرافي. كل هذا مع انغلاق أفق أي حلّ سياسي، وفشل مشروع الخطوة مقابل خطوة، ويشعر السوريون أن الفاعلين في الصراع السوري قد وضعوا السوريين في قعر البئر ثم أداروا ظهرهم لهم.

نتيجة لتدهور الأوضاع على هذا النحو، فقد صعّدت قوى معارضة في السويداء من نشاطها في السنتين الأخيرتين، إلى حدّ أنها في الآونة الأخيرة فككت ميليشيات كانت تتبع أجهزة الأمن وإيران، واستمرت تعبّر بأشكال مختلفة عن غضبها بوقفات في الساحات العامة، وقد اكسبت مطالبها بعدًا سياسيًا، ولم تتوقف عند البعد المطلبي.

زيادة رواتب تصب الزيت على النار:

أمام مخاوف الأسد من انفجار المجتمع السوري نتيجة للوضع الكارثي الذي يعيشه السوريون، اندفع وأصدر المرسومين رقم 11 و12/ 2023، القاضيين بزيادة الرواتب للعاملين في مؤسسات الدولة والمتقاعدين وقدرها 100% من رواتبهم الأساسية[1]، من أجل امتصاص نقمة السوريين في مناطق سيطرته. علمًا بأن رواتب العاملين بمؤسسات الدولة في مناطق سيطرة النظام، هي المعيار لرواتب العاملين في القطاع الخاص.

لأن النظام لا يملك موارد حقيقية لهذه الزيادة، بسبب التدمير الذي لحق بالاقتصاد على مدى سنوات الحرب السورية من 2011 حتى 2023، وبسبب العقوبات الغربية القاسية التي فرضت على النظام، وبسبب مناخ الفساد والإفساد الطارد للاستثمارات، وبسبب التضييق الأميركي والعربي على تجارة الكبتاغون التي ينتجها النظام لتكون موردًا ماليًا كبيرًا، وبسبب استمرار حاجة النظام الكبيرة للإنفاق على جيش ما زال كبيرًا، وجهاز دولة كبير، وهذا ما لا يدع أي وفورات لأي زيادات في الرواتب، بينما لا تصله مساعدات كافية من داعميه، إيران روسيا، لجأ النظام، كعادته، إلى رفع أسعار حوامل الطاقة، وقلّص الدعم الذي يُمنح لبعض السلع والخدمات، واضطر للاستغناء عن جزء ممن هم في خدمة الاحتياط في جيشه، فكانت ذات النتيجة التي خبرها السوريون مع زيادات الرواتب على مدى نصف قرن من حكم الأسد، إذ إن أي زيادة في الراتب تعني تراجع في القدرة الشرائية للرواتب والأجور. لذا، كانت رغبة السوريين تعكسها العبارة التي طالما رددها السوريون “لا نريد زيادة رواتب ولكن ثبتوا لنا الأسعار”. وبالتالي، أصبح راتب العاملين في الدولة بعد مرسومي الزيادة يتراوح بين 12 و17 دولارًا في الشهر، بينما كان سنة 2022 نحو 22 دولارًا. مثلًا، أصبح الراتب الأساسي بعد الزيادة لحامل شهادة الدكتوراه 224.2 ألف ليرة سورية (16 دولارًا أميركيًا)، وراتب حامل شهادة الدبلوم 209 آلاف ليرة سورية (14.9 دولارًا) ولحملة الشهادة الثانوية 196 ألف ليرة سورية (14 دولارًا) وحملة الشهادة الإعدادية 190 ألف ليرة سورية (13.6 دولارًا) حيث بلغ سعر صرف الدولار اليوم نحو 14 ألف ليرة سورية.

يقدر موقع نومبيو[2] المتخصص بقياس تكاليف العيش ومستوى الحياة، أن الفرد في سورية يحتاج لأكثر من 4 دولارات في اليوم للعيش بكرامة في الظروف العادية، بمعنى أن الشخص يحتاج أكثر من 130 دولارًا في الشهر، وأن عائلة مكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى 650 دولارًا في الشهر. حتى لو افترضنا أن حاجة الفرد دولاران فقط في اليوم، ضمن الظروف الحالية، فإن عائلة مؤلفة من خمسة أفراد تحتاج إلى 300 دولار في الشهر للعيش بالحد الأدنى، بينما يحصل المشتغل على أقل من 25 دولارًا، وبالتالي؛ يصعب تصور أو شرح كيف تستطيع مثل هذه الأسر الاستمرار بالحياة. وهذا يجعل الوضع السوري قابلًا للانفجار في كل لحظة وفي كل مكان على الأرض السورية، لأن النظام لا يملك موارد لجَسر هذه الهوة في دخول الأسرة السورية وحاجتها للإنفاق، فهو لا يملك أي موارد جديدة سوى رفع الأسعار، أي يسترجع بيده الشمال ما منحه بيده اليمين، ثم يُضاف إليها تدهور خدمات الصحة والتعليم والنقل وشيوع الفساد والجريمة، وهذا ما يجعل نوعية الحياة في دمشق في أسفل سلّم تقييم نوعية الحياة في مدن العالم الرئيسية.

بدلًا من تهدئة الشارع السوري، جعلت زيادة الرواتب، مع زيادة الأسعار بنسبة أكثر منها، حراكَ السويداء أشد قوة هذه المرة، وبمضمون سياسي صريح بـ “رحيل النظام”، وما يزال الحراك مستمرًا بقوته، ولم يقتصر على مدينة السويداء، بل انتشر في العديد من مدن وبلدات المحافظة، مهددًا بالانتشار إلى محافظات أخرى، الأمر الذي يرعب النظام ويربكه بذات الوقت. وأمام خطورة هذه التطورات، فإن وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” سيصل إلى دمشق مساء اليوم (29 آب/ أغسطس 2023) قادمًا من بيروت في زيارة رسمية يلتقي فيها كبار مسؤوليها. وبحسب معلومات جريدة “الوطن” السورية الموالية، فإن الوزير الإيراني سيلتقي غدًا وزير الخارجية والمغتربين السوري فيصل المقداد للبحث في آخر التطورات[3].

كان من اللافت أن حراك السويداء قد اجتذب اهتمام عدد من الفاعلين في الملف السوري، وأبدوا تأييدًا ودعمًا لهذا الحراك، فالمبعوث الألماني الخاص إلى سورية ستيفان شنيك أشاد بشجاعة أبناء محافظتي السويداء ودرعا وخروجهم في التظاهرات المطالبة بالحرية والعدالة، داعيًا النظام السوري إلى الامتناع عن ممارسة العنف ضد الاحتجاجات السلمية، وأشارت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، أشارت خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي، إلى التظاهرات السلمية التي تشهدها المدن السورية في السويداء ودرعا، لافتة إلى أن “هذه المناطق قد شهدت بداية الثورة، ومن الواضح أنه لم تتم تلبية مطالبها السلمية”. وقال المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي لويس ميغويل بوينو: “سورية تواجه وضعًا اقتصاديًا صعبًا بسبب سوء الإدارة الاقتصادية، وبسبب اقتصاد حرب أنشأه النظام وحلفاؤه، وعبر الحل السياسي يمكن أن يتحسن الوضع لجميع المواطنين السوريين. في حين أشادت المبعوثة الفرنسية الخاصة إلى سورية بريجيت كرمي، بتجدّد الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام، وقالت مبعوثة المملكة المتحدة “آن سنو” إلى سورية: “من خلال مشاهدة الاحتجاجات في سورية، فمن الواضح أن السوريين لن يستسلموا أبدًا. وأنا أشيد بشجاعتهم”.

دلالات تحملها انتفاضة السويداء:

تحمل انتفاضة السويداء دلالات متعددة، فرغم أنها تصاعدت على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية وشروط الحياة الكريمة، فإنها لم تتخذ شكل ثورة جياع، بل اتسعت مطالبها لتتحول إلى مطالب سياسية، والمطالبة بحل سياسي وفق القرار 2254، ورحيل النظام، وقد تكرر هتاف المتظاهرين في ساحة الكرامة وسط السويداء “الشعب يريد إسقاط النظام”، ورفض الحراك التفاوض مع مندوبي النظام، وقد انضمت المؤسسة الدينية للموحدين الدروز “مشايخ العقل” مؤيدة انتفاضة السويداء، ورفع المحتجون أعلامًا خاصة بالطائفة الدرزية بشكل رئيس، بينما رُفع علم المعارضة بنجومه الحمراء الثلاث في بعض الأحيان فقط. وقد لقي هذا انتقادًا من بعض أوساط المعارضة، خشية أن يفسر البعض أن يكون عدم رفع أي علم سوري بأنه تعبير عن رغبة مضمرة بالاستقلال. ولكن يُفسر هذا، بحسب شرح بعض المطلعين من أهالي السويداء، بوجود أكثر من رأي حول العلم الذي يجب أن يُرفع: علم المعارضة، أم العلم الرسمي الذي يرمز للنظام! كما يُفسَّر ذلك من جهة أخرى بأنه رغبة في تخفيف استفزاز النظام، والسويداء تحت سلطته، ولكون قطاعات واسعة من السوريين في مناطق سيطرة النظام لا تسرها رؤية علم المعارضة، بغض النظر عن موقفها من النظام.

الدلالة الأخرى هي أن هذه الانتفاضة قلّصت الفجوة ومشاعر الخوف من الآخر التي عمل عليها النظام ووسعها على مدى سنوات الحرب السورية بين الأكثرية السنية ومجموعة الأقليات، من دروز وإسماعيليين ومسيحيين وعلويين وشيعة، فقد بدأت مشاعر العداء بين مكونات الشعب السوري بالتراجع منذ تراجع المعارك بدءًا من سنة 2018، عندما بدأت مستويات المعيشة بالتدهور، وأصبحت الأحوال المعيشية لجميع السوريين تتقارب في مستوياتها المتدنية، عدا قلة من أمراء الحرب وأثريائها على الجبهتين، ومجموعة النخبة الحاكمة والمحيطين بها، وبات الجميع يشعرون بأن الحرب السورية كانت وبالًا على الجميع، وقد جمعت معاناة العيش الصعب بين السوريين وقربتهم من بعضهم، وأصبح الجميع مشغولون بالهموم والمعاناة ذاتها، ولم يعد اتباع المذهب الآخر هو العدو، كما كان متخيلًا قبل بضع سنوات، سوى في بعض الأوساط المتطرفة. وشعر السوريون في كل مكان أنهم تلقوا المصير الأسود ذاته، وأنهم شركاء في الكارثة السورية، مقابل نخبة صغيرة من أمراء الحرب وأثريائها، فهم من انتفعوا.

الدلالة الأخرى، هي أن ما كان يحسب حاضنة للنظام، قد بدأت تنفضّ عنه، ويرى النظام في تمرد ما كان يعتقد أنها حاضنته الأبدية، خطرًا كبيرًا على وجوده، ففي هذه المرة، لا يستطيع الأسد الزعم بأن هناك أيادي خارجية تحركها، رغم أن جزءًا من أجهزته بدأ العمل بهذا الاتجاه، وإن الجميع يعلم أن الدافع هو التدهور المريع في شروط العيش، الذي لا يمكن احتماله، وقد تبينت حاضنة النظام أن كل وعوده بتحسّن مستويات العيش بمجرد انتهاء الحرب كانت وهمًا، بل حدث العكس، ويشير تدهور سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية إلى هذه الأزمة.

يبين الجدول التالي تغيرات سعر صرف الدولار الأميركي منذ عام 2019:

ويستشعر الأسد مخاطر ” ثورة السويداء”، من حيث إنها ترتبط بوعي سياسي وموقف راديكالي من الأسد ونظامه أن “عليه أن يرحل”. فقد أصبحت قطاعات أوسع مما كان يحسب حاضنة النظام تدرك أن الأزمة السورية ستبقى ما بقي الأسد ونظامه في السلطة، وأنها بدأت تعبر عن ذلك بوضوح، وأن أعلى الأصوات يتمركز الآن في السويداء مهددًا بالانتشار في المناطق الأخرى، التي بدأت بوادر تعبيراتها بالبروز المتردد خوفًا من وحشية النظام التي خبروها على مدى 13 عامًا، بل على مدى 50 عامًا.

تحمل انتفاضة السويداء دلالة أخرى بأنها تعبر عن مكنون معظم السوريين، وإن لم يشاركوا بها بقوة بلدات ومدن أخرى حتى الآن، ولكن الجميع يشعر ويعلم مدى غضب السوريين في مناطق سيطرته، بمن فيهم حاضنة النظام، فمعظمهم بات يحمّل مسؤولية أوضاعهم المزرية لبشار الأسد والنخبة الملتفة من حوله، وفسادهم وفشلهم في إدارة شؤون البلاد، وهذا ما يفقد الأسد شرعيته بنظرهم، فلا يبقى له ما يزعم أنه “شعبه الذي يحبه ويريد بقاؤه”. فالحاكم تسقط شرعيته عندما يعجز عن توفير كل مقومات الحياة الكريمة، فما بالك به حين يكون عاجزًا عن توفير حتى الغذاء والأمان لشعبه، فضلًا عن أن النظام قمع الحريات، منذ اعتلى حافظ الأسد السلطة عام 1970، وما بشار سوى نسخة مقلّدة من والده.

الدعوة لإدارة محافظة السويداء بعيدًا عن النظام:

كان من اللافت دعوة بعض الضباط المتقاعدين من أبناء محافظة السويداء والمؤيدين لانتفاضتها، وعلى رأسهم العميد نايف العاقل، إلى تشكيل “مجلس إدارة مؤقت” لإدارة شؤون المحافظة وفتح معبر حدودي مع الأردن. وأكّد بيان الضبّاط المتقاعدين على دعم مطالب الحراك الشعبي حتّى تحقيق أهدافه، مشيرًا إلى أنّهم “جزء أساسي منه”، كما شدّدوا على وحدة سورية أرضًا وشعبًا، وحلّ كل القضايا عبر دعم الحلّ السياسي السلمي وفق (القرار الأممي 2254)[4].

لقيت هذه الدعوة نقد معارضين كثر، إذ تحمل في طياتها نوعًا من إقصاء المحافظة عن بقية الهمّ السوري المشترك، وتوحي وكأنها دعوة ضمنية لتكوين كانتون خاص بالسويداء، وربما مع درعا، كما أثارت تكهنات لدى البعض بأنها دعوة “مدفوعة من الخارج” أو بالتنسيق معه، ولكن بقيت هذه الدعوة صوتًا ضعيفًا لم يلقَ صدىً بين المحتجين. في حين أن الرئاسة الروحية للموحدين الدروز في السويداء، لم تتبن هذه الدعوة، واعتبرتها آراءًا شخصية، وقد قال الشيخ حكمت الهجري أمام أهالي شهبا: “إن فكرة الانفصال مرفوضة”[5].

خشية الأسد من اتساع الاحتجاجات:

أشد ما يخشاه الأسد هو امتداد رقعة الاحتجاجات إلى مدن أخرى في مناطق سيطرته، فهو يعلم أن بقية مناطق سيطرته تعيش المعاناة ذاتها. وإضافة إلى ذلك، فالمناطق الأخرى في حمص وحماه وحلب ودير الزور ودرعا والقنيطرة، لها ثأر مع النظام الذي قصفها وقتل عددًا كبيرًا من أهاليها، وشرد عددًا كبيرًا آخر واعتقل وغيب عشرات الآلاف.

ورغم أن المناطق الأخرى لم تخرج في تظاهرات حاشدة كما في السويداء، فثمة إرهاصات تنذر بانفجار محتمل في أي لحظة، وذلك بما يشبه الوضع الذي ساد في شباط قبيل الانفجار في آذار 2011. وبالتزامن مع احتجاجات السويداء، خرجت تظاهرة في منطقة جرمانا قرب دمشق، تنديدًا بتدهور الأوضاع المعيشية. وفي محافظة درعا وفي 17 آب/ أغسطس تم إغلاق محلات تجارية وإشعال إطارات في مدن وبلدات نوى وطفس والشيخ سعد والشجرة. وفي 18 آب/ أغسطس، قامت تظاهرات في بلدات الكرك الشرقي والجيزة ومدينة بصرى الشام والحراك وإنخل ونوى. وفي 19 آب/ أغسطس خرجت تظاهرة بجانب المسجد العمري بدرعا البلد. وفي 22 آب/ أغسطس رُفعت لافتات في بلدة خربة غزالة دعمًا للاحتجاجات في محافظة السويداء. وفي 23 آب/ أغسطس، خرجت تظاهرات في أحياء الفردوس والسكري وصلاح الدين في مدينة حلب وسط استنفار أمني. وفي 24 آب/ أغسطس أعلنت عشائر بدو السويداء انضمامها للمتظاهرين في مدينة السويداء. وفي ريف دير الزور الغربي خرجت تظاهرة في 24 آب/ أغسطس تضامنًا مع درعا والسويداء. ولكن كلها بقيت احتجاجات صغيرة تختفي بسرعة.

أشد ما يخشاه النظام على الإطلاق هو انتشار الاحتجاجات إلى منطقة الساحل، حيث تتمركز حاضنته، وقد بدأت بوادر الاحتجاج المكتوم بقوة هناك تظهر إلى السطح؛ إذ في 17 آب/ أغسطس، خرجت رسالة من داخل مدينة جبلة الساحلية تضامنًا مع أبناء السويداء، ورسالة من التجمع الشبابي في حركة الشغل المدني[6] (وهي مجموعة من الشبان والشابات المنخرطين بالعمل المدني والثقافي في الساحل السوري). كما تعالت أصوات فردية عديدة جريئة في الساحل تنتقد بشدة الوضع الحالي، وتنتقد بشار الأسد ذاته وتطالبه بالرحيل. مثل الصحفي كنان وقاف، الذي فرّ خارج سورية، وفي الآونة الأخيرة دعا القاطنين في مناطق النظام للاعتصام والإضراب. والناشط “أيمن فارس” من طرطوس، وقد وجه انتقادات لبشار الأسد وزوجته (بمقطع فيديو تم تداوله)، واتهمهما بتجويع أهالي الساحل، وطالبه بالرحيل، وعلى إثر ذلك أصبح ملاحقًا من قبل أجهزة أمن النظام. إضافة إلى فراس الأسد الذي ينتقد نهج النظام في التعامل مع الأصوات التي تنتقد الواقع الاقتصادي المذري[7].

 خشية الأسد هي انتقال الاحتجاجات إلى الساحل السوري، فالتظاهر في الساحل هو الأخطر، إذ إن جزءًا كبيرًا ممن قاتلوا لحمايته وقدموا أكثر من 100 ألف قتيل، هم أبناء الساحل، ومنهم الجنود الذي يتولون حماية نظامه الآن، وقد عض معظمَهم الجوعُ بأنيابه، فإن انضموا للاحتجاجات، فلن يكون لدي الأسد من يحميه، وسيؤدي هذا إلى انقسام في الطائفة العلوية التي طالما استغلها لحمايته، ووقفت خلفه طوال مدة الحرب السورية، وسيضطر حينها إلى اللجوء إلى الميليشيات الإيرانية، مثل حزب الله والحشد الشعبي العراقي والميليشيات الباكستانية والأفغانية، وستظهر حينها إيران كقوة احتلال استدعاها الأسد لحمايته من شعب سورية. لذا، نرى النظام يلاحق ويعتقل كل من يظهر من أهل الساحل خاصة في تسجيل مصور يدعو لرحيل الأسد.

تعامل النظام مع انتفاضة السويداء:

لن يستطع النظام استعمال العنف مع المحتجين، فثمة قيود واعتبارات، فالعنف ضد السويداء يكسبه عداء دروز لبنان جميعهم، والأهم دروز إسرائيل بما يملكونه من تأثير على حكومة إسرائيل، ويخشى أن يثير استخدام العنف ضد السويداء عنفًا مضادًا سيحرض عنفًا مضادًا آخر ، كما جرى في 2011، وخاصة احتمال تضامن الجارة درعا، التي أبدت الكثير من التأييد للسويداء، وقد تنضم القنيطرة، وهما محافظتان حدوديتان، مع حدود طويلة مع الأردن وإسرائيل، في وقت يتصاعد فيه غضب الأردن من النظام، وقد يستفز استعمال العنف الأميركان والأوروبيين فيزيدون ضغوطهم على النظام. خاصة ضمن توتر الأجواء بين الأميركان والروس في شرق سورية.

وقد يرى النظام في استمرار التظاهر لبعض الوقت أداة نافعة للضغط على حلفائه الإيرانيين والروس لزيادة المساعدات المقدمة له، لتلبية بعض احتياجات السوريين في منطقة سيطرته من أجل امتصاص غضبهم.

يستخدم النظام التجاهل والإنكار ذاته، إذ تتجاهل وسائل إعلام النظام التظاهر ومطالبه، ولا تتحدث عنه سوى لمامًا، بينما تنكر بعض الأحيان قيام تظاهرة مثلًا، جريدة الوطن السورية الموالية ترد على خروج التظاهرات في حلب بأن الأجواء هادئة في حلب ولا يوجد أي تجمعات. أيضًا وسائل الإعلام العربي حتى التي كانت مؤيدة لانتفاضة الشعب السوري، أصبحت تتجاهل حراك السويداء وتتجاهل الأزمة السورية. بينما تناولت الحراك وسائل إعلام دولية مثل ال (CNN)، كما أن مجلة (الغارديان) البريطانية نشرت مقالًا أشادت فيه باحتجاجات السويداء وقالت: “إنها أيقظت الأمل في نفوس السوريين، وإن محتوى الاحتجاج هو سياسي” وأشارت إلى أنها ليست ثورة جياع، “فالمحتجون لم يهاجموا البنوك والمحلات، بل هاجموا مقر حزب البعث رمز السلطة، وأزالوا صور بشار الأسد”، وأضافت الصحيفة “إن العالم يعتقد أن بشار الأسد قد انتصر بعد إعادة قبوله في جامعة الدول العربية، لكن أولئك الموجودين على الأرض هم الذين يقررون أهو حاكم شرعي أم لا”[8].

يلجأ الذباب الإلكتروني الموالي إلى تشويه سمعة الحراك بأنه مدفوع من قوى خارجية، ويشيع بأن الحراك ينوي انفصال السويداء، وقد هاجم اليوتيوبر الموالي “بشار برهوم” دعوات العصيان المدني قائلًا “بدنا نجوع ونشوّب، والساحل لن يكون مطية لمخططاتكم ولا تابعًا للسعودية وتركيا”. ويوجه النظام الغضب باتجاه أعضاء مجلس الشعب أو الحكومة والمطالبة بترحيلهم من أجل تبرئة الأسد، مع العلم أن القرار في سورية محصور بيد الأسد.

لإظهار أن للنظام مؤيدين، لجأ النظام في 23 آب/ أغسطس إلى تنظيم مسيرات تأييد بالسيارات “دعمًا لسيد الوطن بشار” فقد نظموا مسيرات بسياراتهم الفارهة في طرطوس وأخرى في دمشق تأييدًا للأسد، ولكن هذه المسيرات أعطت مفعولًا عكسيًا، وقد أثارت غضبًا شديدًا في أوساط الحاضنة في دمشق وطرطوس والساحل وغيرها من مدن، فبينما معظم السوريين لا يجدون ما يطعمون به أطفالهم، يخرج هؤلاء بسياراتهم الفارهة لتأييد الأسد، وقد ردّد الكثيرون عبارة “أمن أجل هذا استشهد أبناؤنا؟”. وقد كانت مسيرة فاضحة، إذ بيّنت أن هؤلاء وحدهم من بقي مؤيدًا بإخلاص للأسد ونظامه.

لن يغيب الحلّ الأمني، وهو المفضل لدى النظام، عن بال بشار الأسد، ورغم عدم استعمال الحل الأمني حتى الآن، فهو يستعد له، ففي 21 آب/ أغسطس صدر أمر من وزير الدفاع السوري، بمنع الإجازات لكل الضباط وصف الضباط والأفراد في الجيش، وذلك اعتبارًا من تاريخ صدور الأمر بتاريخ 21 – 8 – 2023، وحتى إشعار آخر. ولضبط الحراك في السويداء وعدم انتشاره، يستخدم النظام حلّه الأمني لمواجهة أي بذور للتظاهر في أي محافظة أخرى. ففي 22 آب/ أغسطس، بعد خروج تظاهرة في مدينة نوى بريف درعا، استهدفت قوات النظام المدينة بقذائف الهاون المدينة، بالتزامن مع اشتباكات عنيفة في محيط فرع المنطقة ومقر الأمن العسكري في المدينة. وبحسب ناشطين من حلب، شنت قوات أمن النظام حملة اعتقالات في حيي الفردوس والسكري عقب تظاهرات خرجت من هذه الأحياء، حيث استعانت قوات الأمن بشبيحة من بلدة عنجارة من بيت بدوي وهم من سكان حي الفردوس، وكذلك استعانت بشبيحة من عشيرة الهيب، حيث كان يحمل هؤلاء الشبيحة السلاح الفردي إضافة إلى بواري حديدة، كما قام النظام بقطع خدمة الإنترنت عن كامل أحياء مدينة دير الزور مع تكثيف الدوريات العسكرية والأمنية لمنع خروج تظاهرات يوم الجمعة 25 آب/ أغسطس تحت شعار (اختنقنا). وقد طالب اللواء المتقاعد رياض عيسى شاليش، وهو ابن عمة بشار الأسد، ومن أكثر ضباط الجيش فسادًا، طالب النظام على صفحته في الفيسبوك بالضرب بيد من حديد وعدم التهاون مع الوضع في درعا والسويداء. وقد تم اعتقال الناشط “أحمد إبراهيم إسماعيل”، ابن مدينة جبلة، بسبب انتقاده للنظام وحكومته، ومصيره غير معروف[9]. واعتقل الناشط المعارض أيمن فارس ابن الساحل السوري، أثناء محاولته الالتجاء إلى السويداء. وبالتالي؛ تبدو سياسة النظام هي عدم استخدام الحل الأمني في السويداء حتى الآن، واستخدامه بالحدود المطلوبة لمنع انتقال الاحتجاج إلى أي من المحافظات الأخرى.

بدلًا من الحلّ الأمني، يعوّل النظام على تعب المتظاهرين في السويداء بعد حين يأمل ألا يطول، وفي الوقت ذاته يعمل على تهدئة المحتجين، عبر تقديم بعض العروض، ولكن كل مساعي النظام للتهدئة لم تفلح، وبقيت مطالب المحتجين “رحيل النظام”. وقد غرد د. يحي العريضي، وهو أستاذ جامعي في الإعلام من السويداء، بأن محافظ السويداء قدّم وعودًا باسم القيادة، ولكن تم رفضها لأنها “خلبية” أي فارغة، فكان التهديد المبطن بداعش… ولا ندري ما سيظهر غدًا[10]. وفعًلا، فقد نشر المدعو حسين مرتضى، وهو من مرتبات حزب الله اللبناني، فيديو حذّر فيه من عمليات إرهابية في السويداء بترتيب أميركي، وزعم “أن قاعدة التنف الأميركية شرق سورية قد أدخلت عددًا من الانتحاريين والإرهابيين إلى منطقة السويداء كي يقوموا بتفجير أنفسهم داخل بعض الأحياء واتهام الدولة السورية بقصد تفجير الوضع”. ولا ندري إن كان النظام سيقدم على تنفيذ مثل هذا التهديد.

خاتمة:

إذا نجحت مساعي النظام في التهدئة هذه المرة، فإن الحكاية لن تنتهي، فالنظام غير قادر على قمع انتفاضة السويداء، وغير قادر على تلبية مطالبها أو مطالب السوريين، ولا على تحسين مستوى معيشتهم. وسيبقى الوضع قابلًا للانفجار، ما دام وضع المعيشة متدهورًا إلى حدّ الجوع، ولا يوجد لدى الأسد أو لدى إيران مخرج، وسيعود السوريون في السويداء وفي غيرها للتظاهر من جديد. إنه الاستعصاء السوري.

مع غياب المعارضة السورية عن المشهد، وغياب القيادة، وهو مرض المعارضة المزمن، جاء صوت حراك السويداء، ليكون صوت السوريين المعارض، المطالب بحل سياسي وفق القرار الدولي 2254، وتحقيق انتقال سياسي ورحيل النظام، وينتظر هذا الحراك أن يكون الشرارة التي تطلق حراكًا سلميًا آخر في المدن السورية الأخرى، بما يُخرج الأزمة السورية من حالة الاستعصاء، ويضعها على طاولة الحل السياسي الذي انتظره السوريون طويلًا، ودفعوا أثمانًا غالية من أجله.

[1] زيادة على الرواتب والأجور بنسبة 100% https://tinyurl.com/3cyy2dk6

[2] NUMBEO: https://tinyurl.com/464ktwv6

[3] https://2u.pw/XFALKjM

[4] https://2u.pw/W7F2K5O

[5] https://tinyurl.com/4jtyanbw

[6] https://tinyurl.com/yk8dzxmk

[7] https://tinyurl.com/2p8yz9n7

[8] https://2u.pw/n8pIcfd

[9] https://tinyurl.com/3bt5f52e

[10] https://tinyurl.com/2atdxwvs

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى