أولا: بداية لا بد من التحدث قليلا عن ميشيل سورا: الباحث الفرنسي الذي جاء إلى سوريا ولبنان ودرس فيهما وقام بكتابة أبحاث عدة عنهما، وذلك في أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، وأنه عاصر التغيرات العاصفة التي حدثت في سوريا حيث الصراع بين النظام السوري وحركة الإخوان المسلمين، والحراك الشعبي السياسي والمدني السوري ضد النظام السوري وقتها، ويضاف له الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات من القرن الماضي، ودور النظام السوري كطرف دخل إلى لبنان وأصبح حاكمها المطلق بعد ذلك لعقود، ودور النظام السوري بالنسبة للقوى اللبنانية كلها، وكذلك اتجاه الوجود الفدائي الفلسطيني وكيفية محاصرته ومحاربته وطرده بعد ذلك من لبنان. كل ذلك عاصره ميشيل سورا من موقع المطلع وعالم الاجتماع والسياسة، وسرعان ما بدأ يكتب عنه على شكل نصوص متكاملة تباعا، وينشر باسم مستعار، توضح ما يحصل، وتؤدي لفضح النظام السوري وبنيته ودوره السيئ في سوريا ولبنان، ولكن النظام السوري سيكون وراء خطفه كما خطف غيره من الأجانب الأكاديميين أو السياسيين الغربيين، ويختفي لوقت طويل، وتكتشف جثته في عام ٢٠٠٥ في لبنان، وكان قتل بعد خطفه في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
أن ميشيل سورا دفع ثمن جرأته وفضحه النظام السوري وهو في عقر دار النظام متنقلا بين سوريا ولبنان.
ثانيا: إن الكتاب- بين أيدينا- كتب على شكل نصوص متفرقة، ونشرت بأوقات متتالية في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، لكن النصوص كلها تربط بخيط واحد وهو: تحليل النظام السوري وبنية المجتمع السوري والحركة الإسلامية فيه، وواقع الصراع مع النظام وظروفه ومساره، وكذلك الدور السوري في لبنان ومع الثورة الفلسطينية، ويختم النصوص ببحث عن مدينة طرابلس اللبنانية من خلفية اجتماعية وسياسية وتطوراتها في تلك الفترة، ضمن شبكية الظروف اللبنانية والوجود السوري وانعكاس الصراع مع الحركة الإسلامية والفلسطينيين فيها.
ثالثا: يتحدث الكاتب عن الدولة المتوحشة وواقع الصراع بين النظام السوري وبين جماعة الإخوان المسلمين- والملاحظ أنه لم يفرق بين الطليعة المقاتلة وبين حركة الإخوان نفسها، ويبدو وكأنهم عند الباحث واحد، ويتبادلون الأدوار- ويتابع فعل النظام السوري القمعي بحق الاخوان، حيث يقوم بحملة اعتقالات واسعة وينتقل إلى اجتياح المدن والبلدات ويرسل سرايا الدفاع إلى سجن تدمر حيث يقومون بمجزرة يذهب ضحيتها ما يزيد عن الألف من المعتقلين الإسلاميين، ويتحدث عن اجتياح حماة والضحايا بالآلاف. يغوص الكاتب عميقا في بنية السلطة السورية، ويعود إلى جذور السلطة البعثية التي استولت على الحكم في آذار ١٩٦٣، وكيفية تدرج هيمنة الجناح العسكري في البعث على الجناح المدني، وبلورة الهيمنة الطائفية في السلطة، حيث تهيمن الطائفة العلوية على قيادات الجيش والامن، وما تصفيات حافظ الأسد لمحمد عمران وبعده لصلاح جديد (العلويين)، إلا حالة هيمنة مطلقة لحافظ الأسد نفسه، لكنه يستند إلى بنية طائفية علوية مهيمنة على مفاصل كل الدولة وخاصة الجيش والأمن، سيرصد الكاتب لعبة الازدواجية بين ادعاء حكم البعث كحزب للدولة السورية، وواقع سيطرة الأسد وفريقه على كل شيء، ويستخدم البعث نفسه وكل المنظمات التابعة له من اتحاد عمال الفلاحين وطلبة وشبيبة ..الخ ، ليصنع لنفسه جيشا من الاتباع المجبرين على الانصياع والطاعة والتمثل لإرادة الحاكم المطلق الأسد وعصاباته الطائفية.
رابعا: بالمقابل سيرصد الكاتب أيضا، بدايات العمل العسكري لجماعة الإخوان المسلمين ضد السلطة البعثية، واتهامها من قبلهم بأنها سلطة طائفية علوية، وتبدأ الجماعة بعمليات عسكرية في مواجهة النظام؛ مثل اغتيال لبعض الضباط أو الأكاديميين أو المسؤولين، وكانت كلها دون تأثير جدي على النظام، وكانت ذروتها محاولة اغتيال الأسد نفسه، ومجزرة مدرسة المدفعية في حلب التي راح ضحيتها حوالي المئة من الجيش السوري وكلهم من الطائفة العلوية، يتذرع حافظ الأسد وذراعه العسكري والأمني وعلى رأسهم رفعت الأسد بذلك، لتبدأ حملة أمنية لاستئصال الإخوان المسلمين وكل القوى المعارضة السورية، عبر اجتياح المدن وخاصة حماة وحلب وجسر الشغور، واعتقال الكوادر الناشطة من القوى الوطنية الديمقراطية، التي كانت قد أعلنت عن نفسها بمسمى التجمع الوطني الديمقراطي، وطالبت بالتغيير الديمقراطي، وتحركت بالتزامن مع عمليات الإخوان، ونزل إلى الشارع أهم الاتحادات: المحامين والأطباء والجامعيين… الخ، وظهر أن النظام ارتبك من اتساع المطالبة ومداها، لكن النظام استجمع قواه وبدأ حملته الأمنية التي انهت الإخوان المسلمين كفصيل مسلح، ووضع أي منتمٍ له تحت قانون الإعدام لمجرد الانتساب، وزوج أغلب الناشطين الوطنيين الديمقراطيين بالسجن، والباقي آثر الصمت، أو هرب خارج البلاد، ومن يومها دخلت سوريا في مرحلة موات سياسي، ودخل الشعب في مرحلة قطيعية سياسية.
خامسا: يدرس الكاتب الحركة الإسلامية في سوريا تفصيليا، حيث يركز على مرحلة استلام البعث للسلطة في ١٩٦٣ إلى ١٩٨٢. حيث يرصد بداية تشكل الحالة الإسلامية في سوريا، متأثرين بحركة الإخوان المسلمين المصرية وكيف امتدت إلى سوريا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكيف أنها كانت متوافقة مع الواقع الاجتماعي السياسي، وكيف دخلت السياسة من باب الجمعيات، ودخلت في لعبة الديمقراطية في سوريا الحديثة الاستقلال، وكيف أنها فرزت بعض قادتها التاريخيين، وظهر مصطفى السباعي كأحد المفكرين التنويريين المتميزين. وكيف تنافس الإخوان المسلمون والشيوعيون والبعثيون على المجلس النيابي في خمسينيات القرن الماضي، لكن حصول الوحدة المصرية- السورية وإلغاء الأحزاب الذي انعكس على الكل، ثم حركة آذار ١٩٦٣ التي رسخت البعث في السلطة، بعد أن أنهي الناصريون، وبعد إنهاء التيار المدني البعثي؛ ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وهيمنة اللجنة العسكرية وتصفية الجناح الدرزي فيها، والهيمنة المطلقة للثلاثي محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد العلويين على السلطة، وتبلورها برأي الإخوان المسلمين إنها سلطة طائفية علوية، والصراع على الدستور والاعتداء على مسجد في حماة واعتقال مروان حديد القيادي الاخواني، اختلفوا على ذكر دين الدولة في الدستور، والتي حلها حافظ الأسد بذكر دين رئيس الجمهورية إنه الإسلام في الدستور، لكن ذلك لن يرضي الإخوان المسلمين الذين يعلنونها حربا على النظام لإسقاطه وبناء الدولة الإسلامية، تعمق الكاتب في دراسة الوثائق الفكرية لجماعة الإخوان، وخططها للمستقبل، وكلها تستند على كون السلطة طائفية وغير اسلامية وحق الاغلبية السنية بالحكم، ولذلك حصلت الحركة ضد السلطة غير الإسلامية، لكن واقع الحال ان النظام لن يعطي هذه الفرصة للإخوان، حيث يقوم بحملة قمع واعتقال وقتل واسعة تنهي الاخوان والقوى السياسية الأخرى في سوريا كلها.
سادسا: يدخل الكاتب في فصول أخرى في دراسة البنية المجتمعية السورية، على مستويات متنوعة. فهو يدرسها من حيث هي مدينة وريف وبدو، وأن واقع الحال ان هذه البنى مازالت قائمة وفاعلة وأن التداخل بين هذه البنى حاصلة وأحيانا بشكل صراعي، وأن ما حصل من تطور هو ترييف المدن وليس انتقال الريف الى التمدن، وأن البداوة انتهت كوظيفة على الأرض لكنها مستمرة كشبكة علاقات وولاء، وتحدث عن البنية الدينية في سوريا، توسع في الحديث عن المسيحيين فيها، وجودهم وأحوالهم وتنوعهم المذهبي، ودورهم الاجتماعي والسياسي والمجتمعي، ودورهم التنويري في بداية القرن الماضي وأيام الاستقلال، وكيف كانوا أقرب إلى الانتماء السياسي الوطني منه للديني، وكيف أصبحوا أخيرا ضحايا تهجير قسري أو تطوعي، كنتيجة للواقع السياسي القمعي السوري، وتحدث عن الطوائف الإسلامية الأخرى، وركز على العلويين وماضيهم الملتبس أيام الدولة الحمدانية ومظلوميتهم من العثمانيين أيام دخولهم بلاد الشام، وتمركز العلويين في الجبال، وتحدث عن دورهم أيام الاستعمار الفرنسي، وتشتتهم بين من يطلب دولة علوية خاصة ومن يرغب بالالتحاق بدولة سوريا المركزية، وكيفية اعتماد الفرنسيين على الأقليات في بنية جيش البلاد المستعمرة، فكان العلويون والدروز والشراكس، وحدات عسكرية في الجيش السوري ايام الاستعمار، وكانت نسبتهم تفوق نسبة أعدادهم المجتمعي، وتحدث عن مرحلة الاستقلال وحق أي أحد بالالتحاق بالجيش؛ الذي شجع الأقليات وخاصة العلويين والدروز والإسماعيلية بدرجة اقل على ذلك، لأجل فرصة عيش وسلطة وموقع اجتماعي، سيتدعم هذا بعد حركة ١٩٦٣ وسيطرة البعث، وستصبح مقتصرة على العلويين بعد تفرد حافظ الأسد بالحكم بعد ١٩٧٠، طبعا بوجود بعض الافراد من السنة وبقية الطوائف لا تلغي التحليل السابق، وهذا سيدفع الإخوان المسلمين للقول بطائفية السلطة في سوريا وسيطرة العلويين عليها، ليقوموا بحركتهم في سبعينيات القرن الماضي التي ستنتهي بشكل كارثي على المجتمع السوري كله.
سابعا: تحدث الكاتب عن الاكراد بكثير من الاسهاب متناولا حالتهم منذ إسقاط الخلافة العثمانية، وبناء دول سايكس بيكو في فلسطين والعراق والأردن وسوريا والدولة التركية. واكد ان الاكراد هم الوحيدون الذين لم يحظوا بأي دولة قومية، رغم وجودهم العددي الكبير وامتداد وجودهم على ارض واسعة من ايران وتركيا والعراق وسوريا، وأنهم سيعيشون هذا المأزق المعنوي والحياتي بشكل مؤلم في كثير من الأحيان، حيث كانوا ضحية حكومات دولهم تارة، واستخدموا من الغرب كثيرا لخدمة مصالحه، دون تحقيق أي تقدم جدي لمصالحهم. ويركز الكاتب على الأكراد السوريين، أماكن تواجدهم وحياتهم، وكيف أصبحوا ضحية سياسة تمييز ضدهم ايام وصول البعث إلى السلطة وما بعد، حيث التضييق الثقافي ومنع تعلم اللغة الكردية، ومصادرة الاراضي، وزرع الحزام العربي للعرب الذين أخذت أرضهم لحوض سد الفرات في مناطقهم، سيكون الأكراد جاهزين موضوعيا للدعوات القومية والأحزاب اليسارية، وخاصة أن بعضهم كان ضحية عدم التجنيس، واستخدموا من قبل الأطراف الإقليمية والنظام نفسه في لعبة التأثير على المنطقة وفي حياتهم. حيث أسس حافظ الأسد بعد ذلك منهم وفيهم حزب العمال الكردستاني ب ك ك، الذي سيكون وعبر عقود أداة تجييش كردي داخلي سوري، كفصيل مقاتل يستنزف ويسيء للدولة التركية والأكراد أنفسهم، خاصة في مناطق تواجد الأكراد في سوريا وتركيا.
ثامنا: يتناول الكاتب كل المكونات السورية الدينية المسيحية واليهود والإسلام بتنوعهم الطائفي كما ذكرنا، والتنوع الاثني أكراد وآشوريين رغم قلتهم وهجرة اغلبهم، وكذلك الأرمن والشركس، وأن هؤلاء زرعوا في سوريا، حيث شتت الأرمن ايام الصراع بين العثمانيين والغرب، كان الأرمن ضحية العثمانيين، والشراكس ضحية القيصر الروسي، الأرمن وجدوا في سوريا بلاد للعيش وقرروا عدم الاقتراب من السياسة، التي كانوا ضحيتها، والشراكس توزعوا بإرادتهم في كثير من البلاد ومنها سورية بعد تهجيرهم من بلادهم، وأيام الاستعمار الفرنسي أعيد استغلالهم كأقلية مقاتلة، لكنهم وبعد خروج الفرنسيين سيكونون جزءا من النسيج المجتمعي العام. ويتحدث عن الإسماعيليين ويعود الى نشأتهم وتواجدهم وقلة عددهم الآن رغم كونهم ورثة الفاطميين حيث دولتهم التي امتدت لقرون وطالت الشمال الإفريقي ومصر وبعضا من بلاد الشام، أو امتدادها للحشاشين وقلعة الموت وتمركزهم في القدموس والسلمية ومصياف المشهورين بقلاعهم الحصينة، ويتحدث عن تاريخ صراعاتهم خاصة مع العلويين، وأنهم لا يشكلون كيانا خاصا الآن، فهم منقسمين بين تبعية اغا خان أو قيادات روحية أخرى.
تاسعا: إن الكاتب حين يتوسع في دراسة مكونات الشعب السوري المذهبية والدينية والاثنية، وكذلك البنية الريفية والمدينية والبدو، التاجر والفلاح والراعي المتنقل، وكذلك دخول التطورات العقائدية على سوريا، سواء الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين، أو اليسار الشيوعي على تنوعه أو البعث القومي العربي أو القومي السوري، أو الفكر الليبرالي، وجود سلطة مركزية بعثية تدعي القومية والاشتراكية، وتمارس سلطة عصبة عائلية طائفية علوية استبدادية، أنه يؤكد أن خليط كل ذلك في مجتمع حديث النشأة كدولة حديثة الاستقلال، ستؤدي إلى ما أدت إليه من هيمنة سلطة طائفية قمعية، ورد فعل ديني اسلامي مقاتل، ونشوء اتجاهات سياسية وطنية ديمقراطية، ومحاولة كل مكون أن يجد طريقا ما ليعلن عن وجوده ومصلحته، وحيث لا تكون الدولة ديمقراطية وعادلة، وتكون استبدادية قمعية وفاسدة ومستغلة، ستدفع كل الناس إلى البحث عن خلاصهم الشخصي أو عبر مكوناتهم، وهذا ما كان عشية كتابة الكتاب في بداية ثمانينات القرن الماضي، حيث المجازر واجتياح المدن والاعتقالات والقتل المعمم، ان الكل كان أمام إعادة التفكير بالسؤال المركزي لأي وجود اجتماعي.
: من نحن وماذا نريد وكيف نصل إليه؟
اخيرا: اعترف في قراءة الكتاب انني امام وثيقة تاريخية، أقرب لشهادة عن واقع مأساوي وبطريقة علمية، أدت لكشف حقائق مجتمعية في سوريا وقتها، وكان من أول نتائجها خطف كاتبها وقتله، إننا أمام النص الذي أدى (لاستشهاد) كاتبه، وهنا ميزة الكتاب وتميزه. واعترف أيضا أني لم أتوسع كثيرا في تفصيل محتوى الكتاب- على أهميته- لكوني قد توسعت حول ذات الموضوع وبذات المحتوى في قراءات لكتب اخرى، أهمها الاستخبارات والسلطة السورية لرضوان زيادة الذي نشر على حلقات، ولأن أغلب محتوى الكتاب هذا قد استوعب بغيره من مؤلفات حديثة غطت تلك المرحلة ووصل بعضها الى الفترة المعاصرة، حيث الربيع العربي والثورة السورية وتداعياتها في سوريا والمنطقة.
وفي النهاية قد يكون من السهولة تصديق وتأكيد صحة ما طرحه الكتاب الآن على مستوى سوريا، من حيث السلطة الطائفية والقمع والاستبداد والوحشية التي يمارسها النظام السوري المجرم الآن على الشعب السوري، مستعينا بروسيا وإيران والمرتزقة الطائفيين حزب الله وغيره، التي استباحت سوريا ودمرت أغلبها، وشردت أكثر من نصف شعبها، وقتلت أكثر من مليون انسان ومثلهم مصاب ومعاق، وردود الفعل المواجهة التي بعضها كان ذا وجه إسلامي مجتمعي صرف، والبعض الآخر كان ذا توجه إرهابي يستخدم من قبل الأطراف كلها، كداعش والنصرة.
طبيعي محتوى الكتاب الآن لكنه وقت كتابته كان نبوءة مخيفة سيكون لها تبعيات مأساوية، والتي حصلت فعلا وعبر سنوات.
كل ذلك يؤكد أن الشعوب بحركتهم نحو صناعة دولهم المحققة انسانيتهم وحقوقهم: بالكرامة الانسانية والعدالة والحرية والديمقراطية، تدفع أثمانا باهظة لتصل لما تريد من حياة أفضل.