قراءة في كتاب: دائرة الخوف/2 ||   (العلويون السوريون في الحرب والسلم)

أحمد العربي

ليون ت. غولدسميث كاتب أوربي من نيوزيلندا، والكتاب دائرة الخوف.. رسالة دكتوراه له.

يبدأ الكتاب بتحديد الطريقة التي اعتمدها الكاتب في إنجاز كتابه، حيث اعتمد طريقة استقرائية في البحث، مقابلات، ملاحظات ميدانية، وثائق، وأبحاث منشورة حول ذات الموضوع.

 

٦.حكم حافظ الأسد ١٩٧٠- ٢٠٠٠ م

كانت سيطرة حافظ الأسد على الحكم في ١٩٧٠، هو بداية ترسيخ حكمه المطلق لسوريا، وكانت الطائفة العلوية حاضرة في أجندته، فقد أعطاهم الفرصة كاملة التغلغل في كل مفاصل الدولة وخاصة الجيش والأمن، وقد فهم السوريون وصول علوي إلى الرئاسة بأنه بداية هيمنة الطائفة العلوية، ولو تحت ستار القومية والاشتراكية والعلمانية وحزب البعث، ولو أنه حصل عبر فتاوى الحسيني الشيرازي وموسى الصدر على اعتباره مسلما ولو كان علويا، وقد حاول ترسيخ ذلك من خلال الدستور الجديد، الذي لم يشر لدين الدولة السورية لأول مرة، وكيف كان رد الشارع السوري برفض الدستور، مما اضطر الأسد على تعديل الدستور، وذكر دين رئيس الجمهورية الإسلام، لكن ذلك لم يحل الموضوع، الإخوان المسلمين بدؤوا صراعهم المسلح مع النظام، بصفته علوي وغير اسلامي، وكان رد الأسد على الإخوان ساحقا، فقد ضرب بيد من حديد، قتل واعتقال وهروب، وإصدار قانون الحكم بالإعدام على كل من ينتسب للإخوان، كان الأسد برده هذا قد زاد اللحمة الطائفية حوله، العلويين الخائفين من تكرار مظلوميتهم التاريخية، واحساسها بخسارة دولة تعبر عنهم، بالتالي رضوا بردة النظام القاسية، وكان تتويج ذلك من خلال اجتياح مدينة حماة وتدمير بعض أحيائها، وقتل ما يزيد عن عشرين ألف إنسان فيها، وهذا عنى عند العلويين وعند السنة ،انعدام ردم الهوة بينهم في المستقبل القريب.

يطل الكاتب أيضا على انعكاس تسلم حافظ الأسد للحكم على العلويين، مناطقهم تحسنت نسبيا ، بالكهرباء والماء والمدارس، لكنها لم تستطع مواجهة الجفاف، وأصبحت عرضة للهجرة للمدينة بحثا عن لقمة العيش، كما أن أغلب شباب العلويين قد التحق في سلك الجيش والأمن والوظائف الحكومية، والنظام سهل لهم ذلك، أصبحوا منتشرين في المدن وعلى هوامشها وحياتهم قاسية،  اللاذقية مثلا أصبحت أغلبية علوية، لكنهم يشعرون بأن هذه دولتهم ولهم السلطة المعنوية، وكل يستثمرها في موقعه ليستفيد عبر سلسلة فساد واسعة.

كان حافظ الأسد قد استثمر اخاه رفعت الأسد في كثير من الأعمال القذرة التي كان يجب أن يقوم بها النظام ليستمر له الحكم، وشكل سرايا الدفاع، ذات الأغلبية العلوية، وكان لها دور في القضاء على الإخوان المسلمين، و مجازر حماه وسجن  تدمر. وكان رفعت يعد نفسه لخلافة حافظ الأسد، وحين مرض حافظ في ١٩٨٣، حاول أن يستولي على الحكم وحافظ مريض، لكن حافظ واجهه، وكانت نهايته النفي النهائي خارج سورية، وكانت هذا امتحان للّحمة العلوية، والولاء بين حافظ ورفعت، واستطاع حافظ أن يوحد ولاء العلويين له.

كان حافظ الأسد قد أدرك اللعبة الدولية والتحالفات ومراكز القوى، فقد أنهى عمليا الصراع مع إسرائيل في الجولان عبر اتفاق فض الاشتباك في ١٩٧٤، ومن ثم الدخول إلى لبنان تحت دعوى الحفاظ عليه في مواجهة اسرائيل ١٩٧٥، والحقيقة لضبطه سياسيا لمصلحة النظام، تم محاصرة الثورة الفلسطينية ومن ثم إخراجها من لبنان، وتم اغتيال كمال جنبلاط رأس القوى الوطنية اللبنانية، وتم دعم الشيعة اللبنانيين، وتشكيل حزب الله الشيعي كأداة ايرانية سورية في لبنان، ودعم التواجد العلوي في طرابلس في مواجهة السنة، وتحويل لبنان لمزرعة للنظام السوري.

كما عمل حافظ الأسد على خلق تحالف استراتيجي مع إيران بعد الثورة ١٩٧٩، وتحالفا في دعم حزب الله في لبنان، والوقوف إلى جانب إيران ضد العراق في حربها الممتدة، لقد ظهر ان الحلف السوري الايراني هو حلف ذي جذور علوية شيعية، وترسيخه هذه العلاقة للآن.

كما عمل حافظ الأسد على خلق وريث له في السلطة بعد أن تم استبعاد اخيه رفعت، وبدأ بتجهيز ابنه باسل، لكن باسل مات في حادث سير في ١٩٩٤م واستدعي بشار ليجهز لوراثة الحكم ، حيث سيصبح رئيسا لسورية في ٢٠٠٠م.

كانت فترة حكم حافظ الأسد قد عنت بالنسبة للعلويين السوريين مرحلة رخاء وسلطة بالنسبة لقلة منهم، وكانت فرصة للعلويين جميعا أن يصنعوا حياتهم على كل المستويات بأن الدولة دولتهم.

٧. بشار الأسد والعصبية العلوية، تغيير أم استمرار.

جاء بشار الأسد إلى الرئاسة السورية في ٢٠٠٠م بعد وفاة حافظ الأسد، بشكل سلس، فقد تغير سن الرئاسة -٣٤ سنة- ليكون مناسبا له ورفع إلى قائد للجيش والقوات المسلحة، وامينا قطريا لحزب البعث في يوم واحد، ورشح للرئاسة وانتخب رئيسا بعد ذلك ، وكان قد فتح له الطريق والده قبل ذلك عبر تسليمه كل الملفات، وإبعاد كل المنافسين له.

حاول بشار أن يظهر نفسه إصلاحي، وأعطى ضوءا أخضر للحراك السياسي والمدني والحقوقي، لكن سرعان ما عادت القبضة الأمنية إلى سابق عهدها عندما وجد وأجهزته ان ذلك قد يطيح به وبحكمه . وكانت قد حدثت الضربة على أمريكا في ٢٠٠١، وتداعياتها، احتلال امريكا للعراق ٢٠٠٣، وخوف النظام من الامريكان و وجودهم قريبين من سورية، دعم الجماعات الإسلامية الجهادية الذاهبة إلى العراق، واختلف مع الأمريكان حول ذلك، وكبر الخلاف بين الحريري وبشار الاسد، وتمديد رئاسة لحود في لبنان، ومن ثم قتل الحريري ٢٠٠٥، واتهم النظام السوري، وتم تفعيل المعارضة ضده، بين عبد الحليم خدام والإخوان المسلمين، وتشكيلهم جبهة الإنقاذ الوطني، التي لم تستطع فعل شيء ، وانتهت دون أي فاعلية، ومن ثم اعادة تأهيل دور النظام السوري عبر المساعدة في مواجهة الجهاديين القاعدة وغيرها في العراق وخارجه، وأعيد تأهيل بشار الأسد وظهر أنه ما زال ينفع للغرب وأمريكا.

كل ذلك جعل العلويين في لحظات الضعف يخافون على مستقبلهم في حال سقط نظام بشار الأسد، رغم أنه لم يعطيهم الاهتمام الكافي، تزوج من  فتاة سنّيّة، عمل مع طبقة تجارية سنّيّة مدينية ، شكل حوله طبقة مستثمرين من العائلة، على رأسهم رامي مخلوف ابن خاله، مع ذلك كان أي تهديد يطال بشار الاسد، يجعل العلويين يلتفون حوله خوفا على انفسهم من أي انتقام يطالهم جميعا.

مر نظام بشار الاسد في بعض صراع داخل البيت العلوي الحاكم، وحصلت بعض الاغتيالات والإصابات انتهت بتركيز السلطة بيد بشار الأسد ، وخاصة بعد مقتل غازي كنعان وآصف شوكت صهره.

٨. ربيع سوريا وضرب ثورتها.

لم يكن الواقع السوري يعيش حالة استبداد سياسي من بشار الأسد وعائلته فقط، بل فساد واستغلال وظلم وأفكار وأزمات حياتية على كل المستويات، ولذلك كان الواقع السوري جاهز موضوعيا للثورة على بشار الأسد وحكمه، وكان الربيع العربي مقدمة لذلك ووصل لسوريا، وكان الربيع السوري، ينطلق من مطالب الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، وينتشر في أوساط الشباب المستفيد من التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي، وبعيدا عن الطائفية، وينطلق من تطمين العلويين أن الثورة ضد النظام المستبد الظالم وليست ضد العلويين، لكن الرد العنيف من النظام على الربيع السوري، و وصمه بالإرهاب والطائفية وأنه قاعدة يريد افناء العلويين، مما جعل الطائفة العلوية تلتف حول النظام وتكون أداته في مواجهة ثورة الشعب السوري، عبر الجيش والأمن والشبيحة.

مرة أخرى يستطيع النظام أن يخلق شرخا جديدا بين مجموع الشعب السوري والطائفة العلوية عبر تجنيدها لتكون سلاحه وجنوده في قمع وقتل الشعب السوري.

ينتهي الكتاب مؤكدا مقولة الكاتب منذ البداية أن العصبية الطائفية عند العلويين قد جمعتهم عبر العقود الاخيرة، من خلال سلطة عائلة الأسد، من خلال غريزة الخوف من أن تتكرر عليهم مذابح التاريخ التي عاشوها، أن التهديد والخطر يجعلهم متماسكين ويدافعون عن وجودهم، ويقومون بأعمال ضد الإنسانية وضد مصالحهم، ستكون وبالا عليهم في مستقبل الأيام.

وفي نقد الكتاب نقول:

إننا أمام كتاب مرجعي فيه الكثير من المراجع التي غطت الموضوع بشكل واسع، كما أنه غطى مرحلة تاريخية تمتد لأكثر من ألف ومائتين من السنين، لكنه تورط بمحاولة إعادة تفسير كل ما حصل مع الطائفة العلوية في تاريخها كله من منظور طائفي بشكل أساسي، بصفتهم اقلية علوية في مواجهة أغلبية سنية، وانهم ضحية اضطهاد دائم منهم، بحيث ترسب في ذهنهم عداء للسنة أصبح أقرب العقدة منه نتاج حقائق تاريخية، والواقع أن الحكام الذين حكموا من الأمويين إلى العباسيين ثم المماليك والفاطميين إلى العثمانيين، بغض النظر عن نوع العقائد التي حملوها ليبرروا شرعية حكمهم، لم يكونوا يعبرون عن السنة عندما قالوا انهم ينتمون للإسلام السني، أو يمثلوا الشيعة أو الإسماعيلية عندما حكموا لمئات السنين في مصر والمغرب وإيران.

ان المظلومية  الواقعة على مجموع الناس من الحكام المستبدين بحكمهم الوراثي ونظام الضرائب ونهب مجموع الناس، واحد، ولو انهم قد يكونوا أشد ظلما على المختلف دينيا أو طائفيا، نعم الاختلاف بالدرجة وليس بالنوع، لذلك ليس مسلمة تاريخية العداء العلوي السني ، موضوع يحتاج لإعادة نظر وربطه في كل مرحلة بمجموع الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المصاحبة،  والقوى الفاعلة في كل مرحلة تاريخية على حده.

لم تكن الطائفة العلوية موحدة بهذه الصورة التي يحاول الكاتب أن يركز عليها، فهو يذكر خلافاتهم الداخلية واختلافاتها في قضايا مصيرية، وحتى اعتقادية في صلب افكارها، مثلا حقيقة ولاءاتهم هل للطائفة ام لانتمائهم العشائري، وقد ظهر الانتماء العشائري كان اقوى، وكذلك الموقف من الاحتلال الفرنسي، البعض حاربها  والبعض رحب بها، الموقف من وحدة الدولة السورية، البعض ايده والبعض حاربه، وحتى نموذج حكم حافظ الأسد وابنه بشار بعده، لم يكن حكما علويا، كان حكما لعائلة الأسد واعوانها، والطائفة إحدى أدواتها، واحيانا إحدى ضحاياها، كما حصل من استخدام النظام الأسدي للعلويين في الجيش والأمن لقتل وظلم الشعب السوري، وحيث ينعكس هذا على الطائفة كلها بالسوء. نعترف أن الطائفة العلوية بصفتها المرجعية، لم تكن في يوم من الأيام مالكة زمام امرها، بل هي ضحية اعدائها، أو أداة مستغلة من قبل من يدعي انه يمثلها ويمثل مصلحتها، ولا يشذ عن هذه القاعدة أي طائفة أو دين أو مكون مجتمعي، فأما ان يحصل التمثيل الديمقراطي للناس، أو يكونوا ضحايا الأنظمة التي تستبد بهم وتستعبدهم وتقهرهم، وتحت أي دعوى كانت، قومية أو اسلامية أو شيوعية، والتجربة العربية في الحكم عبر قرن كامل تؤكد ذلك.

كذلك هناك مشكلة في منهجية الكاتب في قراءة الطائفة العلوية في المرحلة المعاصرة، لنقل في القرن الاخير، ان تركيزه على أطروحة ابن خلدون فقط، دون التركيز على الفاعل الخارجي الدولي والإقليمي في أي حدث حصل في القرن الأخير، لا يمكن فهمه ابدا، لا يمكن فهم أي متغير في منطقتنا العربية، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار سقوط الخلافة العثمانية، وتقسيم البلاد العربية بين الدول الغربية، وزرع الكيان الإسرائيلي، ورعاية الدول الملكية أو الجمهورية، أو الصراع معها حسب المصالح العليا لهذه الدول، سقوط الدول وبقائها، ليس بسبب العصبية فقط، بل هي اساسا بمدى استجابة الحكام لمصالح الغرب في بلادنا.

إن وجود واستقرار حكم حافظ الأسد ومن بعده ابنه في سورية، ليس بسبب حنكته السياسية أو مدى العصبية العلوية حوله فقط، بل لكونه كان جزء من الإرادة الدولية السياسية في المنطقة، وبالتالي كان هناك من يحميه عند الحاجة من الدول العظمى، بصفته نظام حليف يخدم مصالحهم، ولو بشكل غير مباشر. وذلك يتضح في ما حصل في الربيع العربي، وكيف تم مساعدة النظام من دول عظمى وإقليمية بكل شيء، وكيف ترك الشعب السوري لقدرة، القتل والتهجير وتدمير البلاد، لمجرد كون نظام الأسد يخدم مصالح هذه الدول أكثر من خدمة مصالح عصبته الخاصة. أمريكا وإسرائيل والغرب وروسيا وإيران ليست بعيدة عن تثبيت النظام السوري المستبد الطائفي، أكثر من دعم الطائفة العلوية له.

أخيرا الكتاب مهم وقيم في المكتبة العربية، التي تحتاج للمعلومات الدقيقة والحقائق التاريخية، لتصل الى استنتاجات صحيحة، تقرأ الواقع بشكل صحيح و تتنبأ بمستقبل، يجب ان نعمل له، مستقبل ينتصر للإنسان بصفته إنسانا متجاوزا دينه وطائفته وعرقه، ينتمي لوطن و مواطن، تحت مظلة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى