مذكرات سلام السباعي داخل المكان خارج الزمان تعيدنا الى سوريا في أواسط ثمانينات القرن الماضي وحتى بداية تسعيناته. متحدثة بلغة المتكلم عن تجربتها الخاصة مع مجموعة من المعتقلات اليساريات السوريات في فروعه الامنية لاشهر وبعد ذلك في سجن دوما للنساء المدني لسنوات خمسة. لا تتوسع سلام بالحديث عن الحزب الذي اعتقلت على خلفيته ولا الواقع السياسي العام في سوريا ذلك الوقت.
وانا هنا ساتابع قراءة مذكرات سلام واترك الحديث عن تلك المرحلة السياسية في سوريا لأهميتها حتى تعقيبي في نهاية القراءة.
اعتقلت سلام ابنة حلب من جامعتها، اقتيدت إلى فرع أمني وحصل معها تحقيق ولاقت ورفيقاتها
تعذيب واذلال كثير. سلام ابنة بيئة يسارية شيوعية عموماً. وليس غريبا انتسابها لذلك التنظيم اليساري الذي كان يؤمن بالعمل الثوري لإسقاط النظام الاستبدادي وبناء دولة العدالة والاشتراكية وإلتحاق سوريا بمنظومة الدول الاشتراكية عالميا…
كان الاعتقال والتعذيب شديدا على سلام ورفيقاتها عند الأمن في حلب، مطلوب من سلام ورفيقاتها تقديم المعلومات التنظيمية التي تكمل ملفات الأمن عن سلام وتنظيمها. وبعد اكتمال التحقيق معها ومن معها احيلت الى فرعي التحقيق وفلسطين الامنيين الاسوأ في سوريا. وهناك أعيد التحقيق مع التعذيب واكتمل ملفهم و أحيلوا وديعة لصالح الأمن في سجن دوما للنساء.
في سجن النساء تبدأ سلام بالتكلم عن نفسها ورفيقاتها ومن حولها. فسلام ليست مهتمة بالسياسة كثيرا في مذكراتها رغم اعتدادها بذاتها وأفكارها وامتلائها النفسي الضمني بأنها مناضلة. بل للأمانة هي منشغلة بكليتها بواقع حياتها مع محيطها داخل السجن…
داخل السجن وجدت سلام ورفيقاتها أنهنّ موضوعات في مهجع مشترك مع نساء متهمات بالانتماء للإسلاميين اخوان مسلمين وكذلك سجينات قضايا مدنية قتل ونصب ودعارة وغير ذلك.
لم يستطيعوا التأقلم مع الاسلاميات. في الحقيقة لهنّ موقف فكري وسياسي متناقض مع تلك النساء. ورغم كون سلام لم تتوسع في ذلك فنحن نعلم ان موقف الرابطة التي كانت تنتمي إليها سلام من الإسلاميين الذين تحركوا في سوريا انهم ارهابيين. وهم اصلا متناقضين مع الفكر الديني بحكم انتمائهم الشيوعي. زاد من ذلك الامتلاء الفكري والنفسي والقناعة بإطلاقية وصحة و صوابية ما تحمل هي ورفيقاتها وحزبها من أفكار ومواقف. هذا غير الموقف المقابل من الاسلاميات تجاه سلام ورفيقاتها . فهن شيوعيات يعني ملحدات والتعامل مهم بالنهاية حرام…
أما التعامل مع سجينات الحق العام فهو ايضا محفوف بالمخاطر خاصة أولئك النساء المتهمات بقضايا دعارة. اللواتي يعشن في بحبوحة ويخرجن ويعدن للسجن بشكل دائم…
لذلك كان لا بد أن تتأقلم سلام ورفيقاتها مع كونهن منعزلات عن الاخريات وان مسؤوليتهم منصبة عليهم وأن مهمتهم ادارة شؤون حياتهنّ داخل السجن…
في السجن جوع وفاقة ونقص موارد. وغياب للخصوصية. انتظروا حتى يعلموا بهم اهلهم واين هم ليحضروا إليهم محملين ببعض المال وبعض الحاجيات التي هم بأمس الحاجة لها. جربوا حياة التشاركية في كل شيء. ولم تنجح معهم بعضهن استهتر وبعضهن اهمل وبالنتيجة لم يرضى أحد بالحال. عادوا الى ضرورة اعطاء الخصوصية والفردية وصاحب الحاجة ميزة عن غيره. ولم تنجح كذلك. اختلفوا كثيرا وتوافقوا كثيرا. واكتشفوا ولو متأخرين انه في أجواء لا إنسانية كواقع سجنهم لا يمكن خلق نمط علاقات انسانية سويّة. تعلموا من تجربتهم أول بأول..
اشهد ان المذكرات مليئة بذاتيات النساء المسجونات وما عاشوا وما حلموا وما أملوا ومما خابت أمانيهم. وكيف كانوا يقعون دوما فريسة امال تُقتل من قبل النظام والسجانين. فهم دائما ينتظرون الفرج والتحرر من السجن. ودائما تأتي الخيبة. سنة وراء سنة تمضي وحياة الجحيم في سجنهم تستمر. نعم خلقنّ من سجنهم واحات صغيرة. جعلتهم يتحملون ما يعيشون مرغمين. لكن لم تجعلهن يتأقلمون مع قيد السجن الأقرب للاستعباد…
مع ذلك بقين يحبون بعضهن بكل صدق، رغم الاختلاف. حاضرات البديهة والنكتة والنهفة والسخرية من السجن والسجان والنظام الظالم…
يعشن انوثتهن باشكال مختلفة، يعايشون الحب المفتقد ولو بأحلامهم. يجدون التواصل مع الخارج عبر الزيارة والأهل مسرب أمل ونور. رغم فاجعة بعضهنّ بمصاب عائلي وفاة اب او ام او قريب او مرض البعض. كما يفرحون للحياة المستمرة لأهلهم في الخارج. من تزوج ومن أنجب، والبعض اصطحب أطفاله ليلتقي بقريبته القابعة في فم الوحش…
هكذا مرت الأيام على سلام ورفيقاتها. ايام ممتلئة بكل ما يحلمن به. محاولات أن يملأن وقتهم بالمفيد. تعلمن اعمال الخرز والمشغولات. حاولن حتى حصلن على الكتب للقراءة، واستطعنّ الوصول لمكتبة السجن. مما جعل لحياتهم معنى واعطاها امتلاء نسبي في السجن، كما حصلن على بعض الكتب من الخارج ايضا.
عايشت سلام ورفيقاتها مراجعات فكرية عميقة. فقد تبددت من اذهانهنّ فكرة الاطلاقية للأفكار والعقائد التي يحملونها. وبدؤوا يؤمنون أن التنوع العقائدي والمعرفي هو قانون الحياة. وقبول الآخر هو مكمل لقبول الذات. الآخر المختلف فكريا و أرومته الاجتماعية والدينية والمذهبية. واحترام التنوع والقبول به هو الاولى والاهم . أدركت ولو متأخرة أن العقائد مهما سمت وتعالت ستتحول على أيدي البشر الذين يستخدمونها في تبرير حكمهم السياسي إلى أدوات استبداد وطغيان. كان لاسقاط غورباتشوف للاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١م بعد سبعين عاما على ولادة الدولة الشيوعية في التسعينات وقعا قاسيا على سلام ورفيقاتها. لقد سقط الحلم الشيوعي في بلاده. رغم كون غورباتشوف أثبت حقيقة كانت موجودة قبل ذلك بكثير… الحكم الاستبدادي مهما حمل من أفكار نبيلة يستخدمها لمصلحته ويغطي استغلالها واستبداده بها… هكذا حصل في العالمي و التاريخ العربي الإسلامي وفي الاتحاد السوفييتي وفي أنظمة الاستبداد العربي عموما.
استعادت سلام توازنها النفسي والفكري عندما أعلنت هي ورفيقاتها ولاءها للناس : حقوقهم بالعدالة والحرية والكرامة. وانها ستبقى وفية لهذه الحقوق و للناس أيضا…
أهم ما قامت به سلام في فترة سجنها انها وثقت حياتها مع رفيقاتها في السجن لحظة بلحظة. بل زادت بتتبع مآلات حياتهم الى ما بعد ذلك…
لن يغيب عن بالنا إننا نقرأ مذكراتها في عام ٢٠٢٣م تاريخ نشره. رغم أنه يتحدث عن وقائع حصلت قبل أكثر من ثلاثين عاما. ولو أنها مرت بشكل عابر على وعود الالفية الجديدة مع الأسد الابن الرئيس الجديد. ووعود التغيير وربيع دمشق والمنتديات وتأمّل ما لا يؤمل من نظام استعبد الشعب واستباحه. كيف انقض على ربيع دمشق وأغلق المنتديات واعتقل الناشطين وعاد النظام دولة أمنية كما كان وكما استمر.
أنهت سلام تدوينها كتاريخ في بدايات الربيع السوري في آذار ٢٠١١م…
تابعت سلام بدأب الكاتب المتقصي وبشعور الرسالية في كتابة جزئيات ما حصل معهنّ في السجن. وكيف كان لهم جريدة حائط سرية. وكيف كتبت اغلب يومياتها هناك. وهربتّها إلى الخارج لتكون مادة مذكراتها الحية أمامنا بكل تفاصيل حياتهنّ التي كانت ستذهب للنسيان. لكنها الآن تعانق الخلود…
حبهنّ لبعضهنّ وخلافاتهنّ . عودة الود دائما. عيش الحياة بكل ضيقها بامتلاء نفسي وحياتي كامل. الإنسان وقدرته على التكيف والنجاح بذلك ايضا. أكدته سلام ورفيقاتها…
نصف صفحات المذكرات تتبع لما جمعته الذاكرة عند سلام. ونصفها الآخر إعادة توثيق الاوراق المهربة التي أعادت الحياة لما عاشته سلام ورفيقاتها يوم بيوم…
سنذهل أمام ما عشنه وكيف خلقّن حياة رائعة في ظروف حياة مهدورة: قصة الليمونة وبعد حرمان طويل من ابسط حقوق العيش والطعام، التي حصلوا عليها بشكل ما واحترامها وتدليلها والخوف عليها لأيام ثم أكلتها احداهن سرا و البكائية التي حصلت بعد ذلك ثم كيف تم تمرير الموضوع بمحبة. انهم ضحية حرمان لا إنساني. او حكاية الطعام الذي وجد به بقايا جرذ وأعقاب سجائر وهم يتضورون جوعا. وكيف تم انتشال “الأعداء” من الطعام والتهامه ، الجوع كافر…
عشرات الحكايا والمتابعات لكل الرفيقات ما قبل السجن وفيه وما بعده… اذهلهنّ انهنّ وبعد سنين سجنهنّ التي استمرت لأكثر من خمس سنوات أدركوا انهنّ لم يكونوا يعرفوا ديانات بعضهنّ أو مذاهبهنّ ، لقد كنّ متوحدات مع عقيدتهم الجديدة متجاوزات الواقع ، مخلصات لما اعتقدنه صحيحا. لكنهنّ أصبحن ضحايا نظام لم يكن يقبل المختلف والخصم المحتمل ضرره وكان يعتمد القتل والاعتقال وتدمير البلدات والمدن ان احتاج ليحافظ على سلطته قبل سجن سلام ورفيقاتها وبعد سجنهنّ والى الآن…
تاريخ سوريا شاهد على ذلك…
تنهي سلام مذكراتها برسالة لم ترسلها الى صديقتها فاطمة التي هاجرت مع امها للخارج تتمنى عليها ان تؤمن لها فرصة للسفر هي وزوجها واولادها الى الخارج لأنها لم تعد تحتمل العيش في سوريا وللعلم فقد تزوجت سلام بعد خروجها من السجن وأنجبت ثلاثة أطفال وامتنعت عن أي نشاط سياسي واكتفت بالمراقبة فقط لقد أدركت ثمن ممارسة السياسة الباهظ في سوريا وابتعدت عنه بالمطلق…
سوريا لم تعد مكانا للعيش للإنسان والحفاظ على أمنه و حصوله على حقوقه التي لم تعد متوفرة او مصانة…
في خاتمة ثانية تتحدث سلام عن الحبيب الذي يخرج من السجن يتزوج حبيبته التي تنتظره لكنه يعجز عن ممارسة الحب معها. تجربة سجنه وما عاشه تعود كل وقت إليه وتصيبه بالعجز… عندما يخرج خارج سورية تعود له قوة الحياة والحب والجنس ويعود إنساناً كاملاً…
929 5 دقائق