د عواد جاسم الجدي روائي سوري متميز، من مدينة دير الزور، ينتمي للثورة السورية، قرأت له سابقاً روايته الاولى صداع في رأس الزمن وكتبت عنها…
رواية الدم الاسود الجديدة ل د عواد لا تبتعد كثيرا عن أجواء روايته السابقة المهتمة بدير الزور المدينة وما حولها من الأرياف وما فيها من هموم ومشاكل، وخاصة أن محافظة دير الزور تحوي أهم منتج لسوريا وشعبها. النفط ومحصول الزراعات الأساسية قمح وغيره…
الدم الاسود تعتمد صيغة السرد الروائي بلغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية فيها المهندس نبيل ابن دير الزور، وكذلك المهندسة ربا ابنة داريا. وكلاهما جزء من فريق علمي مع د عواد وغيره يتابعون شؤون تركيب عنفات كهربائية لتسيير شؤون حقول النفط السبعين الموزعة على أطراف دير الزور باتجاه الشمال حتى الرقة…
يبدأ الحدث الروائي بحضور هذه اللجنة الفنية الى دير الزور لمتابعة موضوع الآبار وتركيب عنفات كهربائية تعتمد على الغاز المستخرج من آبار النفط تلقائيا وموضوع المتابعة هو تقديم الرأي والمشورة لوزارة النفط عن الصيغة الأفضل لاستثمار هذا الغاز وأن ينعكس هذا بالفائدة على اهل المنطقة المحيطة بالآبار بتوليد الكهرباء لهم وتحسين شروط حياتهم. والتكاليف تكاد تكون معدومة، وهكذا يحس أهل المنطقة بأن نفط بلادهم الذي يستخرج من مناطقهم ينفعهم كما ينفع الدولة عموما؛ أو هكذا يجب…
كان يرأس اللجنة مبتعث من قبل الدولة اسمه ابو جعفر. وهو من طائفة النظام. استمر طول الوقت يضع العراقيل امام اي فائدة تعود على أهل المنطقة. كان همه الأكبر أن يضمن تدفق النفط فقط، وأن يأخذ طريقه الى حيث خططت السلطة باعلى هرمها. لا نعلم حقيقة كميات النفط المستخرج في سوريا والمعلن أقل بكثير من الحقيقة. كما ان ثمن النفط المستخرج يذهب الى حساب خاص للقصر الجمهوري، وهذا يعني انه لا يدخل في حسابات الدولة السورية…
كتب المهندسين تقاريرهم حول ضرورة أن يستفيد أهل المنطقة من الغاز المهدور للتنمية وانتاج الكهرباء وغيرها. جاء الجواب من الدوائر العليا أن لا يتم أي تعديل يفيد الناس في المنطقة.
تعرّف المهندس نبيل ابن دير الزور على المهندسة ربا ابنة مدينة داريا ضمن اللجنة الفنية، حصل بينهم توافق فكري حول الموضوعات التي جاؤوا لمتابعتها. وحصل بينهما تواصل نفسي يؤشر لبداية حب سينمو بينهما مع الزمن ومع مزيد من الاحتكاك والتفاعل. نبيل ابن شيخ عشيرتهم والمؤهل ليكون شيخ العشيرة بعد والده. سنتعرف على الأجواء العشائرية للدير وريفه، وأن المشيخة في العشيرة تكاد تكون قيادة مختارة للعشيرة تسيّر امورها بحنكة ودراية وتحافظ على مصالحها، وتفاعلاتها مع جوارها من العشائر الأخرى ومع الدولة ايضا. العقلانية والحكمة والوعي والتضامن الاجتماعي والكرم معالم اساسية في المشيخة وفي العشائر عموما…
الكل يعاني من النظام وهيمنته الأمنية عبر اجهزته وعبر مخبرين كثر استطاع جذبهم إليه عبر مكتسبات من الحزب والواسطة وحتى التعيين في مناصب الدولة وكلها لها علاقة بدرجة الولاء للنظام ممثلا بالسلطة المباشرة والاجهزة الامنية وحزب البعث، لم تسلم العشائر من هذا الاختراق الامني للسلطة السورية.
يدرك مشايخ العشائر ذلك وكذلك وجوه الناس في دير الزور وكلهم يعتمد تقية وحنكة في التعامل مع شؤونهم في مواجهة السلطة المستبدة.
لم تستطع اللجنة الفنية نبيل وربا ود عواد وغيرهم ان ينتزعوا اي مكتسب لصالح الناس المحيطين بهذه الآبار والمحرومين من خيراتها. لكن علاقة نبيل وربا تزداد عمقا. ويعود نبيل بذاكرته لدراسته الهندسة في حلب وتعرفه على زميلته مادلين الحلبية المسيحية هناك وحصول حب بينهما لم يمنع اختلاف الدين من وجوده ونموه في نفسيهما. مع قبول ضمني من أهل نبيل واهل مادلين. لكن خالة لها ستحضر من فرنسا ترفض العلاقة من خلفية دينية وتأخذها معها الى فرنسا حيث تزوجت هناك بعد ذلك. وتمضي الايام يصبح لديها طفل اسمته نبيل ، حياتها الزوجية جحيم. يتذكر كل ذلك نبيل وكيف استطاع أن يحب ربا رغم حضور مادلين في نفسه. تعارف اهل نبيل مع أهل ربا الذين حضروا إلى دير الزور وحصلت شبه خطبة رسمية لربا …
جاء الربيع العربي بداية في تونس، وسرعان ما امتد إلى سوريا بعد أشهر. كانت البدايات في درعا وسرعان ما امتدت الى بقية المحافظات ومنها دير الزور وجوارها. وجد شباب دير الزور ووجوهها أن الفرصة سانحة لإسقاط النظام الطائفي المستبد في سوريا، وبناء دولة ديمقراطية ويسترد الناس كرامتهم و حقهم بالحرية والعدالة والحياة الأفضل.
بدأ التجهيز للحراك في دير الزور وجوارها. لكن النظام كان أسرع من المخططين وعلى علم بالحراك فقد اعتقل اغلبهم قبل البدء بالتظاهر من الجوامع والمواقع المراد التظاهر فيها.
نعم لقد قرر النظام استئصال المتظاهرين والقضاء عليهم قتل واعتقالات . اعتقل نبيل ود عواد وآخرين. شاهدوا داخل المعتقلات ما لا يصدّق: قتل جماعي، لا تحقيق بقدر ما هو تصفيات. التعذيب والتصفيات تؤدي الى موت الكثير كل يوم. حيث تحضر سيارة الزبالة لتأخذ القتلى الذين يصلون للمئات يوميا.
هكذا كان نصيب أغلب الشباب الذين خرجوا للتظاهر سلميا . لكن النظام لم يستطع ان يقمع الثورة التي انتقلت الى الطور العسكري وبدأت تظهر المجموعات المسلحة. وحصلت تدخلات اقليمية ودولية في ولادة هذه المجموعات وفي عملها. وظهر انها تتحرك بداية وفق اجندات ذاتية مصلحية ضيقة، ثم بعد ذلك وفق أجندات خارجية تابعة لدول وتنظيمات دولية مثل القاعدة. التي سرعان ما حضرت من أفغانستان والعراق لتكون جزء من الحراك المسلح في سوريا باسم جبهة النصرة.
انهزم النظام في أغلب دير الزور وما حولها. وبقي فقط بمواقع صغيرة محاصرة المطار والمربع الأمني في المدينة. يأتيه الإمداد من النظام سلاح ومواد غذائية من الجو.
كان هم المجموعات المسلحة كيفية استثمار آبار النفط التي أصبحت تحت سيطرتها. فكل حقل تسيطر عليه مجموعة مسلحة بالتوافق مع العشائر المجاورة. لقد كان لهم استثمارهم المالي الضخم. لقد تاجروا بالنفط مع النظام عبر وسطاء. وبدأ الكثير العودة البدائية لتقطير النفط عبر الحراقات مما هدر اغلبه وانعكس على البيئة بمزيد من التلوث. لكن لا حل . فكل بالمال الذي يأتيه فرح. وتم نسيان قضية الثورة وحتى مواجهة النظام في المواقع المحاصر بها…
ضاعت جهود نبيل و د عواد وأمثالهم. فهم معتبرين عند النظام داعمين للمجموعات المسلحة. اعتقلوا وشاهدوا التعذيب والموت وخرجوا بمعجزة. لكن المجموعات المسلحة المسيطرة من جبهة النصرة لم تتفهم حال نبيل ود عواد بل اعتبرتهم من جماعة النظام وخاصة انهم أعيدوا لدورهم الإشرافي على الحقول. لذلك أعيد التحقيق مع نبيل من جبهة النصرة. وخرج بريء من أي اتهام… ولكن لا أمان بعد الآن.
في ذات الوقت كان لخروج جماعة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش” من سجن أبو غريب في العراق دور بارز بتغيرات ستصل لاغلب سوريا مبتدئة بالدير وما حولها. بدؤوا زحفهم للسيطرة على اغلب العراق وكذلك في شرق سوريا الدير وما حولها… لذلك كان رأي والد نبيل ان لا امل باستمراره بالعيش في سوريا. وكان الحل أن يذهب لاجئا الى تركيا حفاظا على حياته وحتى تستبين الأمور… وبالفعل خرج نبيل ومعه بعض الأصحاب متوجهين إلى تركيا في رحلة لجوء محفوفة بالمخاطر…
وبالمقابل نتابع معرفة حال داريا بلد ربا، البلدة التي قامت بالتظاهر السلمي مطالبة باسقاط النظام المستبد وبناء دولة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل. شبابها واجهوا الجنود بالورود نموذجهم الشهيد غياث مطر. لكن كل ذلك لم يمنع النظام الهجوم عليها ووقوع مذابح أسقطت المئات من النساء والأطفال والشيوخ، وبعد ذلك يحاصرها ويضعها أمام خيار الركوع والتسليم أو التهجير. وهكذا حصلت عملية تهجير جماعي الى الشمال السوري. وهناك وعلى الحدود السورية التركية وحيث يقوم المهربين بتنظيم دخول الهاربين السوريين إلى تركيا. سيلتقي نبيل بفتاة منقبة برفقة رجل مصاب. يساعدهم وعندما يصلون إلى بيت آمن سيتكون الفتاة ربا حبيبته وخطيبته والرجل المصاب اخوها…
هنا تنتهي الرواية..
والكاتب يقول : لم تنتهي الرواية .
في التعقيب على الرواية اقول:
نجحت الرواية بالمزج بين الوقائع الحقيقية التي حصلت في منطقة الدير وما حولها وخاصة فيما يتعلق بموضوع النفط الذي كان في دائرة التغييب والتعتيم رسميا على مستوى سوريا. وأنه كان وبالا على أهل المنطقة ولم ينتفعوا منه رغم إمكانية ذلك وتوفره وقلة تكلفته، بإرادة وقصد من النظام.
النفط وتصريفه وسرقته، من النظام ثم من جبهة النصرة وداعش بعد ذلك ثم حزب العمال الكردستاني ممثلا بال ب ي د وحدات حماية الشعب الكردية الانفصالية بحماية امريكية..
دمجت هذه الوقائع مع الجانب الحياتي المجتمعي للمجتمع الأهلي في دير الزور وكذلك اطلينا بكثير من التفصيل على حال العشائر وآلية عملها. المشورة والتحكيم والقضاة العدول. نظام متكامل يضبط حياة مشتركة ويجعلها تسير بأفضل حال…
كذلك أظهرت تغلغل النظام الطائفي المستبد المجرم في كل التفاصيل المجتمعية والحياتية عبر مخبرية وعبر امنه وعبر اعوانه في حزب البعث الذي لمّ اغلب انتهازي سوريا. واطل على وحشية النظام في القضاء على المتظاهرين وفي التواصل مع الجماعات المسلحة النصرة وغيرها وتسويق النفط منها. وكيف ظهر اختراقها الأمني لهذه الجماعات والنصرة وداعش ايضا. وكيف جعلها جزء من مشروعه ومشروعيته انه نظام يحارب الإرهاب. وهكذا أصبح محميّا اقليميا ودوليا…
كما نجحت الرواية بالدخول في عوالم الثورة السورية بالحديث عن انقى حالة ثورية حصلت في سوريا في داريا ومصيرها المأساوي…
دمج كل ذلك د عواد جاسم الجدي في نسيج روائي مجتمعي رائع جعله بأحد جوانبه وثيقة تاريخية عما حصل. بجوانب اخرى وثيقة اجتماعية عن مجتمع دير الزور وجوارها. كل ذلك مسبوك في جو إنساني اضافة لحب حصل واستمر وينتظر أن يتحقق بزواج نبيل من ربا هناك بعد أن التقيا في تركيا بعد رحلة هروب ناجح…
كل ذلك يندرج برأيي في توثيق ما حصل مع السوريين الذين خرجوا يوما يطالبون بحقهم بالديمقراطية والحرية والعدالة والحياة الأفضل. وان النظام الطائفي المستبد المجرم لم يقبل بذلك، قرر قتل الشعب وتهجيره وتدمير سوريا…
وهكذا حصل.
إنه الآن يندب حاله بمن تبقى معه من أنصاره ومواليه: إفلاس مالي جوع فقر مرض لا كهرباء لا وقود… لا حياة…
مئات آلاف القتلى ومثلهم معتقلين ومغيبين ونصف الشعب السوري مهجر داخل سوريا وخارجها. سوريا مستباحة للروس والإيرانيين في أماكن سيطرة النظام، اما شرق الفرات وشمال شرق سوريا مستباحة للامريكان وال ب ي د فرع حزب العمال الكردستاني الانفصالي الكردي يسرق النفط وخيرات البلاد…. وبعض سوريا محرر في الشمال… وبعضه تحت الحماية التركية…
سوريا تعيش واقع التقسيم الفعلي…
لا أفق ايجابي في سماء سوريا مع الاسف…