إدلب.. ولا عزاء للضحايا

علي العبد الله

لم يكن الاتفاق الروسي التركي، الموقع في الخامس من شهر مارس/آذار الماضي، ملحقا لمذكرة سوتشي التي قضت بوقف إطلاق النار في محافظة إدلب، يحظى بموافقة النظام السوري وداعمه الإيراني، مع تباينٍ في الأسباب والحسابات، فالنظام الذي يواجه تحدّيات كبيرة وكثيرة، بدءا بملف توفير احتياجات مناطق سيطرته من المواد الغذائية الأساسية والنفط والغاز للاستخدامات المنزلية والصناعية وتوليد الكهرباء، والتصدّي لوباء كورونا الذي تسرّب إلى الأراضي السورية عن طريق المليشيات العراقية والإيرانية التي تتحرّك عبر الحدود بقرارها الذاتي، من دون اعتبار للنظام وقراراته، والاستعداد لمواجهة مفاعيل قانون قيصر الذي سيدخل حيز التنفيذ في النصف الثاني من شهر يونيو/ حزيران الحالي، رأت قراءات محللين لفحواه أنه سيكون ثقيل الوطأة على النظام وخياراته السياسية والاقتصادية، ما سيؤثر على حياة السوريين وظروف معيشتهم سلبا وبقوة، مرورا بملف تدنّي سعر صرف العملة السورية، والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الاستهلاكية، ودخول نسبة كبيرة من المواطنين في حالة عجزٍ عن توفير احتياجات أسرهم، وتداعيات الصراع داخل النواة الصلبة للنظام (بشار الأسد – رامي مخلوف) على الإمساك بالقرار الاقتصادي والسياسي. يريد النظام استئناف العملية العسكرية لأنها تمنحه فرصة تجاهل مطالب المواطنين المعيشية والخدمية، خصوصا موالاته، عملا بالشعار الأثير على قلب الأنظمة العربية: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، من جهة. وتفرض، من جهة ثانية، على الدول الداعمة تقديم الدعم المطلوب للعملية، وتأجيل أية مطالب سياسية أو مالية مستحقة. في حين رفض النظام الإيراني الاتفاق، ورأى فيه استبعادا له من تفاهمات أستانة الثلاثية، وتجاهلا لمصالحه في الشمال السوري، وانعكاس ذلك على مشروعه الرئيس: إقامة ممرٍّ برّي يصل إيران بالبحر الأبيض المتوسط، ويحدّ (الاتفاق) من قدرته على تنفيذ خططه للعمل ضد الوجود الأميركي شرق الفرات، على أمل دفع القوات الأميركية للانسحاب من المنطقة، ما يفسح المجال لتدشين الممر بشكل رسمي وعلني. وهذا دفعهما إلى حشد القوات والأسلحة على خطوط التماس، وخرق وقف إطلاق النار من آن إلى آخر، في سعي واضح وصريح إلى نسف الاتفاق والعودة إلى العملية العسكرية.

عارضت روسيا؛ الحريصة، لاعتباراتٍ خاصة، على تنفيذ الاتفاق واستمرار التفاهم والتنسيق السياسي والميداني مع الجانب التركي، هذا التوجه، وضغطت من أجل احترام بنود الاتفاق وتعزيز الهدوء على خطوط التماس، ما أعاق خطط النظام وإيران لتفجير الموقف واستئناف العملية العسكرية، في ضوء إدراكهما أن خوض أية معركة من دون غطاء جوي روسي سيتحول إلى كارثة وهزيمة نكراء؛ لأنهما لن يواجها فصائل المعارضة فقط، بل والقوات التركية التي زادت من حشدها، 10400 جندي، انتشروا في محافظة إدلب، وأقاموا 60 نقطة مراقبة، وتسليحها، 7170 شاحنة وآلية عسكرية تحمل دبابات وناقلات جند ومدرعات وكبائن حراسة متنقلة ورادارات عسكرية ومنظومات دفاع جوي أميركية متوسطة المدى من طراز “هوك إم آي إم -23” وتركية قصيرة المدى من طراز “حصار آي”، وقد ذاقا مرارة المواجهة معها في المعركة الأخيرة. وهذا حوّل خروقهما لوقف إطلاق النار إلى عمليات تسلل ومناوشات محدودة وغير مؤثرة على الاتفاق وبنوده.

غير أن التطورات السياسية والميدانية في الساحة الليبية التي لم تكتف بتغيير الدعم التركي لحكومة الوفاق الليبية، الحكومة المعترف بها دوليا، اتجاهات الصراع وتحويل نجاحات قوات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، الذي يتلقى دعما روسيا، أسلحة وقوات روسية خاصة تعمل تحت اسم مجموعة فاغنر، خلال عام على مهاجمة العاصمة الليبية طرابلس، إلى هزائم، لم تكتف بذلك، بل وكشفت أيضا فشل نظام صواريخ بانتسير الروسي في مواجهة المسيّرات التركية من طراز بيرقدار التي دمرت ثماني منصات في قاعدة الوطية، ودفعت القوات الروسية الخاصة التي تعمل تحت اسم مجموعة فاغنر إلى الانسحاب من جنوب العاصمة الليبية.

جاءت هزيمة السلاح والمرتزقة الروس في لحظة دقيقة ومفصلية في حياة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، السياسية، في ضوء تحضيراته لإجراء استفتاء شعبي على التعديلات الدستورية التي أقرّها مجلس الدوما، وتقضي بتصفير فترة رئاسته، بحيث يصبح في وسعه الترشح لفترتين رئاسيتين جديدتين عامي 2024 و2030، ما جعله بحاجة إلى إنجازاتٍ خارجيةٍ لتعديل المزاج الشعبي الروسي الذي تراجع تأييده له على خلفية فشله في التعاطي مع تفشي وباء كورونا، 450 ألف إصابة و5500 وفاة، وآثاره الاقتصادية الخطيرة، خصوصا أنه جاء مع تراجع أسعار النفط، ما حدّ من قدرة الحكومة على تعويض العاطلين من العمل، والشركات التي تعرّضت لخسائر كبيرة، فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز “ليفادا”، نُشرت نتائجه في وقت سابق من مايو/ أيار الفائت، أن 59% فقط من المستطلعة آراؤهم عبّروا عن استحسانهم أداء بوتين، في أدنى نسبة استحسان منذ توليه زمام السلطة في العام 2000، ما دفع الرئيس الروسي إلى الرد على التمدّد التركي في ليبيا بإرسال طائرات روسية ميغ 29 المحدثة، طائرة اعتراضية مزودة بصواريخ جو- جو من طراز “آر – 37″، إلى ليبيا، 14 طائرة، وسلّم النظام السوري عددا منها، ما دفع معلقين إلى ربط تسليمها بالتحضير للمعركة في إدلب، كي تكون رأس حربة النظام في التصدّي للمسيرات التركية من طراز بيرقدار، لرد الصفعة التركية في ليبيا، ما يعني أن المعركة باتت قريبة، والطائرات أُرسلت لتأمين الجو من خلال الحد من التفوق الجوي التركي، فعمليةٌ عسكريةٌ ليست مضمونة النتائج ستشكل إحراجا كبيرا لروسيا، وفشلا إضافيا لرئيسها، تلاه إطلاقٌ بتحرّك تصعيدي في إدلب، بعودة نشاط الطائرات الروسية فوق منطقة خفض التصعيد الرابعة، وفق اتفاق سوتشي الأصلي، وإغارتها يومي 3 و7 شهر يونيو/ حزيران الجاري على مواقع لفصائل معارضة في محيط قرية تل أعور قرب مدينة جسر الشغور في ريف إدلب، وعلى أراضٍ خالية في محيط قرى وبلدات (الزيارة والسرمانية وزيزون) في سهل الغاب في ريف حماة الغربي، وعودتها إلى أسطوانة الفصائل المتشددة ومحاربة الإرهاب، فـ”مدينة إدلب السورية ليست الملجأ الأخير للمعارضة المعتدلة، كما يطلق عليها بعضهم، إنها معقل للإرهابيين الذين لا يجوز السماح بوجودهم فيها إلى الأبد”، وفق السفير الروسي في دمشق والمبعوث الرئاسي الخاص إلى سورية، ألكسندر يفيموف، في مقابلة أجرتها معه صحيفة الوطن السورية شبه الرسمية يوم 21/5/2020، والذي أضاف أن “اتفاقات وقف إطلاق النار في إدلب لا تلغي ضرورة الاستمرار في محاربة الإرهاب، وإعادة الأراضي إلى سيادة السلطات السورية الشرعية في أسرع وقت”.

لم يكتف الرئيس الروسي، المتمسّك بكرسي الرئاسة، بذلك، خوفا من عدم تحقيق حلمه بالفوز بفترة رئاسية جديدة بأصوات عالية، فعززها بإجراءين إضافيين: توسيع الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية، ووقع يوم 29 الشهر الماضي (مايو/ أيار) مرسوما يفوض وزارتي الدفاع والخارجية العمل مع الحكومة السورية لتوقيع بروتوكول إضافي، يحمل اسم “البروتوكول رقم واحد”، ليكون ملحقاً بالاتفاقية الموقّعة مع النظام السوري في 26 أغسطس/ آب 2015، والتي سمحت بوجود عسكري روسي دائم على الأراضي السورية. البروتوكول أقرّ في الحكومة الروسية، وعلى النظام السوري توقيعه من دون تفاوض على مضمونه، ومرسوما آخر يوم 2 يونيو/ حزيران الجاري تحت عنوان “أسس سياسة الدولة في مجال الردع النووي”، يحدّد سياسة روسيا النووية والحالات التي تستدعي ردا نوويا.

إدلب وجوارها على موعد مع القتل والدمار والنزوح؛ وضحايا، ليبقى بوتين جالسا على عرش القياصرة، متمتعا بالسلطة والثروة والجاه، فحياة المدنيين السوريين وأملاكهم ومصالحهم ليست ذات شأن أو قيمة أمام استمراره في الرئاسة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى