تتفاقم معاناة اللاجئين السوريين في تركيا مع استمرار الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعصف بالبلاد، وسط تواصل الحملات الأمنية في الشوارع والمراكز الحيوية للعديد من المدن الكبرى، المعروفة بكثافة وجود السوريين فيها، بالتوازي مع حملات أطلقتها بلديات عدة لإزالة لوحات المحلات والإعلانات المتضمنة أحرفاً وكلمات باللغة العربية.
في المقابل، تتعالى أصوات النشطاء الحقوقيين والاجتماعيين المحذّرين من تنامي خطاب الكراهية في الداخل التركي، مطالبين بالحدّ من الإجراءات التعسّفية بحق اللاجئين المستوفين لشروط الإقامة في البلاد على الأقل.
ترحيل السوريين لم يتوقف
يكاد لا يمرّ يوم في تركيا من دون ورود أخبار وتقارير تصوّر عمليات ترحيل للاجئين غير شرعيين، خصوصاً من الجنسيتين السورية والأفغانية، إلى جانب الحديث المتكرّر عن “العودة الطوعية” لآلاف السوريين يومياً إلى مناطق شمال سوريا، في سيناريو تحاول الحكومة التركية من خلاله طمأنة الرأي العام الداخلي لجهة تراجع عدد اللاجئين السوريين في البلاد، وفرملة ردود أفعال الجمعيات والمنظمات الحقوقية العالمية، عبر الإصرار على كون هذه العودة طوعية، خلافاً لما يؤكّده الناشطون السوريون بالنسبة إلى غالبية المرحّلين قسراً.
يؤكّد الخبير القانوني السوري غزوان قرنفل في حديث إلى “النهار العربي”، أنّ “عمليات الترحيل لم تتوقف، وهي مستمرة وتتصاعد أحياناً لتغدو أكثر بروزاً، وذلك لأنّ الحكومة التركية اتّخذت قرارها بإنهاء وجود اللاجئين السوريين في البلاد خلال السنوات المقبلة”.
ويشير قرنفل المقيم في مدينة مرسين التركية، إلى أنّ “معالجة موضوع اللاجئين السوريين كانت جزءاً من الوعود التي تمّ إطلاقها خلال الحملات الانتخابية، مع تأكيد خطة نقل مليون سوري إلى شمال سوريا كمرحلة أولى”.
وتزامن تصاعد وتيرة الترحيل مع تأكيدات رسمية بلسان وزير الداخلية علي يرليكايا، عزم الحكومة التركية على مكافحة الهجرة غير النظامية، ووعود بقطاف ثمار هذا العمل خلال مدة قصيرة، في خطاب مطابق لوعود الرئيس التركي بأن يشعر المواطنون بالتغيّرات التي ستطرأ على واقع اللاجئين غير الشرعيين في البلاد خلال أشهر.
السوريون في اسطنبول الأكثر استهدافاً
وتتصدّر اسطنبول الولايات التركية الأكثر جذباً للاجئين بشكل عام والسوريين بخاصة، وقد بات تخفيف أعدادهم في العاصمة الاقتصادية والثقافية للبلاد على رأس أولويات الحكومة التركية، التي أمهلت السوريين المقيمين فيها والمسجّلين في ولايات أخرى، حتى نهاية شهر أيلول (سبتمبر) للعودة إلى ولاياتهم، عدا أولئك الوافدين من الولايات المنكوبة بفعل زلزال شباط (فبراير) الماضي، إذ سُمح لهم بالبقاء في اسطنبول حتى إشعار آخر.
ويرى قرنفل، الناشط في مجال الدفاع عن حقوق اللاجئين في تركيا، والسوريين منهم بشكل خاص، أنّ “محاربة الهجرة غير الشرعية أمر مشروع ومفهوم لناحية التهديد الأمني الذي قد يشكّلونه، كونهم يقيمون على الأراضي التركية من دون ضوابط وثبوتيات تقونن وجودهم، وهي أصلاً جزء من التزامات الدولة التركية تجاه الإتحاد الأوروبي”، إلاّ أّنّه يستطرد قائلاً: “لكن محاربة الهجرة أخذت منحى أوسع لتشمل السوريين الموجودين في ولايات غير تلك التي تمّ اصدار بطاقاتهم منها، ومنها اسطنبول بشكل خاص، علماً أنّ قانون الحماية الموقتة لا يجيز الترحيل في حال ارتكاب اللاجئ مخالفة الوجود في ولاية أخرى، وفي هذه الحالة يمكن تطبيق إجراءات عديدة غير الترحيل، من قبيل إعادته إلى الولاية مكان قيد بطاقته مع إرغامه على مراجعة مركز الشرطة بشكل دوري للتأكّد من عدم تكرار المخالفة”.
قبل أسبوع، أقدمت الشرطة التركية على ترحيل السورية زينب زوجة رجل سوري مبتور الطرفين من اسطنبول إلى ادلب، بعد أن عجزت عن الحصول على بطاقة الحماية الموقتة، من دون مراعاة حَمَلها في الشهر السابع، مانعة إيّاها من التواصل مع عائلتها وزوجها المُقعد لإعلامهما بوضعها.
ورغم محاولات أقاربها الحصول على أي معلومة قد تقودهم إليها، أنكرت الشرطة ودائرة الهجرة التركية معرفتهم بمكانها لمدة أربعة أيام، إلى حين ورود اتّصال منها تعلمهم بوصولها إلى إدلب مرحّلةً من جانب سلطات الهجرة.
لاقت الحادثة تفاعلاً كبيراً من السوريين والمنظّمات الحقوقية في تركيا، في حين أكّد قرنفل رصده للكثير من مآسي الترحيل المفاجئ، مع حرمان المرحّلين من أبسط حقوقهم في إعلام عائلاتهم بوضعهم من خلال احتجاز هواتفهم النقّالة، مبيّناً وجود العديد من حالات ترك سوريين مرحّلين سيّاراتهم وحساباتهم المصرفية وأغراضهم ومقتنياتهم وراءهم في تركيا مع انسداد أفق العودة.
وبحسب قرنفل، فإنّ المطلوب بالحدّ الأدنى منح المرحّلين مهلة زمنية ليتمكّنوا من تصفية موجوداتهم واصطحاب الضروريات.
وردّاً على هذه التجاوزات، أصدرت “جمعية حقوق الإنسان والتضامن مع المستضعفين” المعروفة اختصاراً باللغة التركية باسم “مظلومدار”، ومقرها اسطنبول، بياناً دانت فيه التجاوزات المرتكبة بحق السوريين المقيمين في تركيا في وضع الحماية الموقتة، والتي باتت تطال في الكثير من الأحيان “حتى أولئك الذين ليس لديهم مشاكل قانونية أو الذين ينسون اصطحاب هويّتهم معهم عند الخروج من منزلهم”.
وقالت المنظّمة في بيانها، إنّ “الظروف في مراكز الترحيل تُعتبر أسوأ من ظروف السجن، في ظلّ ممارسة انتهاكات مثل المعاملة اللا إنسانية، فضلاً عن الصعوبات الناجمة عن الاكتظاظ كعلب السردين، ولا يُسمح للناس بمقابلة محاميهم، ولا يمكنهم الوصول إلى وسائل النظافة الأساسية”.
حملة لإزالة اللوحات العربية
بالتوازي مع الحملة الأمنية، شنّت بلديات العديد من المدن التركية حملات لإزالة ملصقات المحلّات واللوحات الإعلانية التي تتضمن كلمات باللغة العربية.
الحملة التي بدأتها بلديات تابعة للمعارضة التركية في اسطنبول وإزمير، سرعان ما انضمّت إليها بلديات تابعة للحكومة التركية، كما الحال بالنسبة لبلدية أكدينيز في مرسين مثلاً، بداعي “حساسية الحفاظ على اللغة التركية”، وهو مبرّر قوبل بالرفض من قِبل النشطاء، الذين طالبوا البلديات المذكورة بإبداء الحساسية ذاتها تجاه اللوحات المكتوبة باللغة الانكليزية أو غيرها.
وأشارت منظّمة “مظلومدار” في بيانها، إلى أنّ “اقتراب موعد الانتخابات وتزايد خطاب الكراهية وأفعاله شملت إزالة اللافتات أو العبارات العربية المكتوبة بالحروف العربية، في إحياءٍ للعداء للغة والأبجدية، وهو تقليد قديم للجمهورية (في إشارة إلى قيام أتاتورك باستبدال الأحرف التركية من العربية إلى اللاتينية)”.
ويتوقّع العديد من المختصّين تصاعد مثل هذه الحملات مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية في آذار (مارس) المقبل، والتي سيشكّل ملف محاربة الهجرة وإعادة اللاجئين محور وعودها الانتخابية وأساسها، بخاصة مع ازدياد القناعة لدى حزب العدالة والتنمية الحاكم بكون ملف اللاجئين السوريين على صدارة قائمة الأسباب التي أدّت إلى خسارته للبلديات الكبرى في تركيا، وهي المدن التي تسجّل أعلى نسب وجود السوريين فيها.
اقتصاد اللاجئين
في المقابل، يمكن اعتبار عنتاب استثناءً لناحية شدّة حملات السلطات الأمنية والبلديات، رغم كونها ثاني أكبر تجّمع للاجئين السوريين بعد اسطنبول.
ويُعزى ذلك بحسب قرنفل إلى “كون عنتاب مركز ثقل اقتصادي لرجال الأعمال السوريين، حيث أسس العديد منهم معامل ومصانع وشركات تجارية فيها، وأسهموا في دوران العجلة الاقتصادية بشكل فعّال”.
في حزيران (يوليو) 2021، أكّد مستشار الرئيس التركي في حزب العدالة والتنمية، ياسين أكتاي، في معرض ردّه على وعود زعيم المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو، بإعادة اللاجئين السوريين بعد فوزه في الانتخابات، بأنّ “الإقدام على هذه الخطوة (إعادة اللاجئين) سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد التركي”.
وفي برنامج تلفزيوني في أيار (مايو) 2022، انتقد وزير الداخلية التركي السابق سليمان صويلو رجال الأعمال والصناعيين الأتراك المطالبين بترحيل اللاجئين السوريين، قائلاً في برنامج تلفزيوني: “تستغلّون السوريين وتشغّلونهم في مصانعكم، من دون حقوق أو تأمينات، ومن ثم تطالبون بترحيلهم. هل تعرفون من سيكون أول المتمرّدين على إرسالنا مليون لاجئ إلى بلادهم؟ هؤلاء المشَغّلون”.
بالإضافة إلى المساهمات الكبيرة لرؤوس الأموال السورية واليد العاملة الرخيصة في الاقتصاد التركي، يشير قرنفل إلى المساهمة المالية للسوريين لناحية الأموال الواردة إلى البلاد لمصلحة اللاجئين.
ويؤكّد قرنفل: “من خلال متابعتي تأكّدت عبر المصادر المفتوحة من ورود 4.5 مليارات دولار في عام 2022، و5 مليارات دولار في عام 2021 من المفوّضية السامية لشؤون اللاجئين إلى تركيا. هذه إحدى الجهات المانحة فقط، وهنا لا نتحدّث عن أموال الاتحاد الأوروبي والهبات والدفعات التي تتلقّاها المنظّمات الإنسانية التركية والسورية المرخّصة في تركيا، على شكل برامج بتمويل 2-3 ملايين دولار لكل برنامج، وكل هذه الأموال تصل إلى المصارف التركية بالعملة الصعبة وتقوم المنظّمات بسحبها بالليرة المحلية وبالسعر المحدّد رسمياً”.
ويضيف: “تتحدّث الحكومة التركية عن صرفها 40 مليار دولار على السوريين، لكنها تغفل ذكر مصدر هذه الأموال التي أتت بغالبيتها العظمى من الخارج، حتى أنني أكاد أجزم أنّ الحكومة لم تصرف دولاراً واحداً على السوريين من موازنتها”.
وبحسب قرنفل، فإنّ التقارب بين دمشق وأنقرة سيسرّع من عملية إعادة اللاجئين السوريين، وصولاً إلى حالة تعلن فيها أنقرة إنهاء وضع “الحماية الموقّتة” للسوريين في البلاد لانتهاء الحرب في سوريا.
ويختم قرنفل حديثه مع “النهار العربي” بالقول: “أعتقد بأن الحكومة التركية عازمة على طي ملف اللاجئين السوريين خلال السنوات الأربع أو الخمس القادمة، مع توقّع ابقاء نصف مليون سوري فقط سيتم نخبهم وفق الحاجة والمقتضيات التركية، ويشكّل المجنّسون ما يقارب من نصف هذا العدد حالياً، وهم بطبيعة الحال في حكم المواطنين الأتراك قانوناً”.
المصدر: النهار العربي