إصرار على عدم التفريط بما تم تحقيقه من تطورات بعد “اتفاق بكين” ونتائجه الإيجابية في ترميم علاقات طهران مع عواصم دول مجلس التعاون
التوقف عند المسار السياسي الجديد الذي بدأه أو اعتمده النظام الإيراني في الانفتاح على المحيط العربي عامة والخليجي على وجه التحديد يقود إلى مسألة البحث في الرؤية الاستراتيجية التي تحكم أو تقف أو تشكل الأرضية التي يقوم عليها هذا التحول، أو تبني سياسة الانفتاح.
لا شك في أن الرؤية التي تحرك دوائر القرار داخل الدولة العميقة أو منظومة السلطة في إيران ترى أن العالم يعيش مرحلة جديدة وهي مرحلة الانتقال من النظام العالمي القائم الذي تعرض فيه كثير من التحالفات القديمة إلى تحديات كبيرة، مما دفع باتجاه إنتاج تحالفات جديدة متعددة الأطراف تعطي للمرحلة الجديدة طابعها المختلف الذي تعتمد فيه القوى الكبرى على خلق وتعزيز مؤسسات وتشكلات جديدة وتوظيفها من أجل الدفاع عن مصالحها القومية والوطنية، مما يدفع كل دولة إلى التحرك داخل إطار مصالحها الوطنية.
ولعل الأخطر في هذه الرؤية تلك المعادلة، وتؤكد عليها هذه المنظومة وتقول بمبدأ التعاون بالتوازي مع التنافس والتنافس بالتوازي مع التعاون، وإنها شكلت وتشكل الخطوط العامة لتوجهات الحكومة الإيرانية الحالية برئاسة إبراهيم رئيسي التي تمثل هذه المنظومة، وتحولت إلى خريطة طريق اعتمدتها هذه الحكومة في سياستها الخارجية تجاه تعزيز العلاقة مع الشرق وتقليلها مع الغرب، وذلك انطلاقاً من أن الأزمات الحقيقة التي واجهها النظام في سياسته الخارجية في العلاقة مع الغرب، لم تستطع تأمين المصالح القومية.
دوائر القرار تعتقد بأن منظومة السلطة تواكب التطورات الحاصلة في معادلات النظام العالمي، لذلك وضعت سياستها الجديدة القائمة على الانفتاح قيد التنفيذ العملي، ومن هنا يمكن التوقف عند الخطوة الاستراتيجية المتمثلة في توقيع الاتفاق مع السعودية وعقد اتفاق مماثل مع الإمارات والعراق، وتعتقد أيضاً بأن موقف النظام الداعم لروسيا في حربها على أوكرانيا جزء من التكتيكات المطلوبة في النظام العالمي الجديد، ومثال حقيقي على التزامها باستراتيجيتها في التعاون بالتوازي مع التنافس بهدف الحفاظ على المصالح القومية وبنظرة واقعية.
ومن هنا يمكن القول إن الموقف التصعيدي الذي اتخذته طهران كرد فعل على البيان الصادر عن اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع نظيرهم الروسي سيرغي لافروف في موسكو في الفقرة المتعلقة بالجزر الثلاث، أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، يدخل في صلب هذه الرؤية أو المعادلة أو الاستراتيجية في علاقات إيران الخارجية، فهي ليست في وارد التفريط بالتطور الحاصل في العلاقة مع دول مجلس التعاون، بخاصة دولة الإمارات، لذلك لم تتهاون في التصدي لموقف “الحليف” الروسي والفصل بين هذا الموقف وتمسكها باستمرار التعاون والتنسيق مع موسكو في المسائل الأخرى، باعتبار أن المساعي الإيرانية وبإشراف من المرشد الأعلى سعت إلى إبعاد هذه الأزمة مع أبوظبي عن التأثيرات الخارجية، والعمل على التوصل إلى نقطة تفاهم مع القيادة الإماراتية على الحوار الثنائي لحلها على مبدأ العودة لاتفاق عام 1972 بين البلدين، وهو مسار بدأ عام 2007 إلا أن الصراعات الداخلية في السلطة الإيرانية استطاعت تخريب هذه المساعي وأعادتها للمربع الأول.
تمسك النظام بمرجعية “اتفاق 1972” مع الإمارات يكشف عمق المخاوف التي يعيشها من إمكان أن يدخل في أية تسوية قد تضعه في موقع المتهم بالسيادة والتخلي عن وحدة الأراضي الايرانية كما حصل خلال العهود السابقة، وأن مرجعية هذا الاتفاق تساعده في إبعاد هذه التهمة عنه لجهة التزامه بالمعاهدات والاتفاقات القديمة، حتى وإن كان الموقِع عليها هو النظام السابق.
وهذا الهاجس هو نفسه الذي يحكم الموقف الإيراني في التعامل مع أزمة حقل الدرة الغازي المشترك، أو حقل آرش بحسب التسمية الإيرانية، مع السعودية والكويت في مياه الخليج قبالة ساحل مدينة بوشهر، فهي وإن أعلنت عدم قبولها بالموقف السعودي الذي أكد عدم وجود حصة إيرانية في هذا الحقل وكذلك الكويت، فإن طهران سعت إلى تدوير زوايا الاختلاف أو الخلاف حول هذه الأزمة من خلال البحث عن تسوية مع الرياض والكويت، أي الإصرار على عدم التفريط بما تم تحقيقه من تطورات بعد “اتفاق بكين” ونتائجه الإيجابية في ترميم علاقات طهران مع عواصم دول مجلس التعاون، وفي الوقت نفسه عدم التخلي عن موقفها المطالب بحصة في هذا الحقل ضمن التوزيع الذي وضعته للحصص.
ومن المتوقع ألا تذهب الأمور في أزمة الخلاف على حقل الدرة إلى مزيد من التصعيد، لأن مؤشرات من داخل إيران تتحدث عن تسوية اقتربت من نهاياتها، وجانب من تفاصيلها يقوم على أن تشتري الدول الخليجية جزءاً من النفط الإيراني الذي يتم تصديره إلى الصين، وبخفوض في الأسعار أقل من الخفوضات التي تحصل عليها الصين، مستفيداً من أزمة العقوبات والحاجة الإيرانية لعائدات هذا النفط، وإن العائدات المالية للكمية التي ستشتريها الدول الخليجية ستكون بما يعادل نصف الحصة الإيرانية التي تطالب بها طهران في هذا الحقل، على أن تترك أمر البحث حول النصف الثاني من الحصة التي تطالب بها إلى وقت لاحق مستقبلاً في إطار تسوية تعمل الأطراف على بلورتها.
وهذه التسوية تترك الباب أمام النظام مفتوحاً باتجاهين، الأول إثبات نياته الحسنة بالانفتاح والتعاون مع دول الجوار الخليجي وعدم الذهاب إلى المخاطرة بالمعادلات الجديدة التي بدأت تتمظهر في الإقليم، والثاني التمسك بما يعتبر ثوابت استراتيجية وسيادة ووحدة أراضي، وما يتيحه ذلك من إمكان التصعيد عند الحاجة من أجل الدفع باتجاه التوصل إلى تفاهم يساعد في إقفال الملف بشكل نهائي.
المصدر: اندبندنت عربية