قراءة في رواية: سقوط حر

أحمد العربي

عبير اسبر روائية سورية متميزة، لها العديد من السيناريوهات لأعمال درامية عدة منذ سنوات مضت.

سقوط حر؛ رواية تعتمد أسلوب الحوار الذاتي، بلغة المتكلم، بطلة الرواية تتحدث عن نفسها، وعن ما تعيش، كحالة بوح ذاتي. غير ملتزمة بخط زمني معين من الماضي الى المستقبل مثلا، بل ما يتداعى لنفس البطلة، يطل علينا مسرودا، متنقلة بين الازمنة والامكنة دون اي رابط او ضابط، سوى ما يمور داخلها، طبعا نحن أمام كشف ذاتي يبدو للوهلة الاولى اقرب للهذيان، لكنه يصبح بعد حين صورة واضحة المعالم للبطلة بكل ما عاشت وما تعيش. تسير الرواية بمنطق النفس الواحد، يعني دون تقطيع او فصول، هي بوح بين الكاتبة والقارئ، يبدأ بلحظة ما، ويستمر دون اي ضابط من خارج البوح، ويصل لنقطة ينقطع به البوح حيث تسقط البطلة ميتة أو مغمى عليها، او في حالة هذيان من تأثير المخدرات.

سنجمع أطراف الرواية في هذه القراءة.

تبدأ الرواية من لحظة دخول بطلة الرواية ياسمينا داغر الى مطار بيروت متوجهة للسفر إلى دبي، وكيف استوقفها أمن المطار، متسائلين ومحققين معها حول وجود مبلغ كبير من المال ٥٠ ألف دولار في حقيبتها وهو مبلغ كبير، وعليها التبرير، تطلب من الأمن الاتصال بقريبها كريم داغر الذي يسهل أمر سفرها، وكأن شيئا لم يكن.

ياسمينا داغر فتاة مسيحية والدها خليل داغر من وادي النصارى في سورية ووالدتها مارلا من اسرة دمشقية مسيحية عريقة، تربط بين والدها ووالدتها صلة قربى بعيدة. والدها خليل طبيب جراحة تجميلية مشهور، دخل بعمله عالم الطبقة الثرية والمهيمنة في المجتمع السوري، هذا غير اصوله الاقطاعية، فهو سليل عائلة تملك الكثير من الاراضي، والثراء الفاحش أحد اهم سماته، اما والدتها مارلا فهي الصبية الجميلة التي تنتمي لعائلة مسيحية ثرية، تعيش في قلب دمشق القديمة في بيت كبير على الطراز الدمشقي، اقرب لقصر خارجه عادي داخله عالم ساحر، بني منذ أكثر من قرنين، تعرفت مارلا الام على خليل الاب وتم بينهم حب سريع، ومن ثم زواج استمر لسنوات قليلة، انجبت مارلا ابنتها ياسمينا، ثم طلبت الانفصال عن زوجها، كانت هوائية ومتقلبة المزاج، حصلت على الطلاق وغادرت مع قريب آخر لها الى فرنسا، تزوجا ايضا، وانجبت منه اخ واخت لياسمينا. الام مارلا تخلت عن ياسمينا ولم تعطها اي اهتمام، حاول الأب تعويض الابنة عن غياب امها، احضر كاميليا كانت مربية لياسمينا، وشبه زوجة لوالدها خليل، وتهتم بشؤون المنزل كاملة. كبرت ياسمينا في أجواء هذا البيت وفي حضرة والدها الذي كان يعطيها كل ما تريد. غابت الأم مارلا فوق العشر سنوات، عادت لكنف حبيب الامس ومعها طفلين، عادت مريضة بالسرطان، عالجها الوالد خليل لكن الموت عاجلها بعد العملية. تربت ياسمينا في كنف والدها، كبرت ودخلت الجامعة في المعهد العالي للفنون، تعرفت على اسامة زميل لها فيه، احبها واحبته، وعاشا مع بعض تقريبا، لم يكن لاختلاف الدين أي أثر في حبهما وخيارهما أن يكونا لبعضهما. توافقا على قراءة واقع سورية، كونها مملكة القمع والخوف والاستغلال. تابعا موت حافظ الأسد الذي كان مفترضا أنه حاكم مطلق ومؤبد مثل الاله لسورية، لكنه مات، راقبت ياسمينا واسامة مجيئ بشار الى السلطة وريثا لابيه في توقيت استثنائي، وكيف استمر حكم حافظ الأسد عبر ابنه دون أي عقبات. الكل تحت السيطرة، مجلس الشعب الصوري المزيف، الجيش والمخابرات، وكل مراكز القوة مهيمن عليها. لم يتغير شيء، بقيت سورية مملكة الخوف والصمت. غامرت ياسمينا وصديقها أسامة بتصوير تماثيل حافظ الأسد حيث هي منتشرة، كما غامرا بمحاولة تصوير العلم الأمريكي المرفرف في سماء دمشق فوق سفارة الولايات المتحدة، رغم ادعاء النظام ان مريكا هي العدو الأكبر لسورية، كشف امن حماية السفارة ياسمينا واسامة اثناء التصوير، كذلك اجهزة الامن السورية التي تحمي السفارة.  ألقت المخابرات الجوية القبض على ياسمينا واسامة، وبعد تحقيق منفصل، اعترفت ياسمينا أن اسامة لا يحب حافظ الأسد، أخلي سبيلها بعد ساعات واستمر أسامة في الاعتقال لأشهر. كانت هذه اول خيانة من ياسمينا لنفسها ولمن تحب، انّبها ضميرها كثيرا، كانت هذه الحكاية مقدمة لانقطاع ياسمينا عن أسامة إلى أن بدأت الثورة السورية عام ٢٠١١م، وعادى ليلتقيا ويكونا جزء من حراك التظاهر، ومن ثم مساعدة الناس الذين اصبحوا ضحايا العنف الاعمى الذي انصب على الثوار ومناطقهم وبلداتهم وحيث يعيشون، لقد تحولت شوارع دمشق ومدارسها وحدائقها أماكن يقطنها الهاربين من جحيم صراع غير متكافئ بين شعب بثواره ونظام قاتل مدجج بجميع انواع التسلح. اعتقل اسامة مجددا. ودخلت ياسمينا في رحلة عذاب جديد. فلا امل…

على مستوى آخر بعد أن عادت ام ياسمينا ألى دمشق وعلاجها من قبل والدها و وفاتها ودفنها في مقبرة العائلة في البيت الدمشقي العريق، اصيب والدها خليل في صميمه النفسي والوجداني، لم يحتمل فراق حبيبته وبدأ يتراجع صحيا، ووصل اخيرا الى الزهايمر، ولم يكن له غير ياسمينا يعيش في كنفها، ياسمينا التي اعتبرته في وقت ما عبئا عليها، وتركته في لحظة ما دون مساعدة في صعوده في درجات البيت ليقع على رأسه ويموت. اعتقدت ياسمينا أنها هي من قتلت والدها، ولم يكن ينقصها تأنيب الضمير مجددا، اعتقل حبيبها بسببها، ووالدها مات عندما لم تساعده عندما طلب منها ذلك. كانت ياسمينا ابنة لعائلة غنية من جهة الأم والأب، وبعد وفاة الوالد والوالدة، وبعد أن باعا اغلب املاكهما، لقد ورثا لابنتهم الفقر، والبيت الدمشقي العريق، لكنهما كانا قد وضعا وصيا عليها من العائلة ليمنعها من التصرف في البيت او بيعه، حضر قريبها كريم داغر ومنعها من بيع البيت واصبح يعطيها المال عندما تحتاج. ومن جهة اخرى كانت ياسمينا قد بدأت بالعمل في مجال الكتابة الأدبية الروائية وبعض السيناريوهات التلفزيونية، ولانها يئست مما وصل اليه الحال في سورية. حيث أخذ النظام بالحل الامني، قتل وتشريد للناس، وتدمير للبلاد، ولم يعد هناك إمكان للعيش في سورية، لذلك ذهبت ياسمينا الى لبنان لعله يكون بديلا مؤقتا عن سورية، لكن يد النظام الامنية طويلة في لبنان، كذلك ظهر من بعض اللبنانيين الكثير من الحقد والسلوك العدواني بحق السوريين. لذلك غادرت ياسمينا الى دبي وتواصلت لاشهر مع شركات إنتاج تلفزيوني لعلها تجد عملا وتحصل على مردود مادي، لقد صرفت اغلب ما اعطاها اياه كريم داغر، واصبح يتصرف معها بتقتير. وعندما واجهته، اصطدمت معه، تعالى صياحهما وكذلك تضاربا بالايدي، وسقطت كل أمكانية التواصل والاحترام المتبادل، خاصة بعد أن قتل جاد ابن كريم نتيجة قذيفة وقعت حيث هو في دمشق. كانت آخر مراكب ياسمينا هي فرصة العمل مع شركة خليجية ما، لكنها بعد انتظار اشهر وانتهاء رصيدها المادي تقريبا، لم تحظ بفرصة عمل. لذلك كان آخر ما في جعبتها ان تطلب اللجوء الى كندا، كانت كندا قد فتحت أبوابها لكثير من السوريين، خاصة من المسيحيين، في وضع اظهر ان الغرب تقبل لعبة الكذب المتبادل مع النظام، وانه حامي الاقليات، وان المسيحيين ضحايا داعش التي استنبتها النظام وغطى بها كل عيوبه، اكتشفت ياسمينا ان مسيحيتها حمتها وأمنت لها مغادرة الى مونتريال عاصمة كندا، وأمنت لها حياة مريحة أكثر مما تستطيع التحمل، ودخلت في برنامج ادماج في المجتمع الكندي ترعاه الكنيسة والدولة الكندية. لكن ياسمينا وجدت انها تختنق وهي بعيدة عن دمشق وذاتها التي تركتها هناك، حيث قبر والدها ووالدتها واسلافها في بيتهم العريق في دمشق القديمة. عادت مجددا الى دمشق لتجد انها اسوأ مما تركتها، ولتجد أن الموت يحوم كطائر فوق شعبها يخطفهم كل الوقت، لم تستطع ياسمينا تحمل ذلك أصبحت مدمنة على الحبوب المهدئة والحشيش والمخدرات حتى. عادت للبيت القديم فتحته لكل من هب ودب، تحت دعوى مزيفة ان لا مشاكل هناك وأن سورية بخير، تعاملت مع وجوه كثيرة وجديدة، جربت كل أصناف التفلت والضياع وسهرات المجون والجنس والمشروب والسهر الهستيري، لكن لا فائدة، وعند مداهمة بيتها من الوجوه الجديدة للامن الموسوم بالطائفية ولهجة الساحل التي اعتبرت لهجة النظام، واعتبر نظام علوي بعرف الكثير من الناس الضحايا، تماهي النظام مع الطائفة، وأستدعاء الغرباء من الروس والايرانيين جعل الصورة عند ياسمينا اكثر ايلاما، لذلك صارت مدمنة مخدرات تعيش هلوسات موت في خيالها، يعوم فوق موت وظلم وقهر واستعباد وقتل في الواقع.

تنتهي الرواية عندما تلتقي ياسمينا بطيف اسامة في الشارع، يتحدث مع طفلته وطفله وبصحبة زوجته، وكأنها ترمي لنا بذرة أمل حتمي قادم، وكذلك عندما تحلم او تهلوس ياسمينا انها تمشي على جثث وتنزف دما وتسقط سقوطا حرا وتغيب ياسمينا عن الوجود.

في تحليل الرواية نقول:

اننا امام رواية نموذجية تتحدث عن الثورة السورية في احد اوجهه، إنها صورة عن مكون مجتمعي سوري، المسيحيين كيف كانوا وما أصابهم، وانهم جزء صميمي من الشعب السوري له مالهم وعليه ما عليهم. لا صحة لادعاءات النظام وحلفائه بأنه يحمي الاقليات والطوائف، بل هو صانع التفرقة والطائفية والمظلومية المجتمعية ولعقود مضت. هكذا تقول الرواية. كما تتحدث الرواية عن عمل الناس ليعيشوا بكرامتهم أجيال سابقة لكنهم كانوا دائما ضحية بطش وظلم النظام.

الرواية تغوص عميقا بالوقائع التي تلغي كذب النظام وداعميه في كل ما قاله عن الإرهاب والمؤامرة وأكدت الرواية أن الشعب اراد ان يسترد حريته ويعيش العدالة والديمقراطية وحقوقه كاملة ولتنتصر ثورته ويعيش انسانيته اسوة ببقية الأمم.

لغة الرواية ومشهديتها والمشاعرية المتوقدة فيها، والتنقل في تتبع الحالة الشعورية للراوية جعلني كل الوقت مندمج في صميم العمل بحيث كانت قراءتي للرواية متابعة في جلسة واحدة كما كتبت كلها في نفس واحد  من قبل روائية رائعة متميزة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى