لم يكن “المليون ليرة سورية” رقما عاديا بالنسبة للكثير من السوريين قبل سنوات، إذ كان من يدّخره وكأنه “يحمل كنزا” ويصنف ضمن طبقة “المليونيرية” أو “الأشخاص المخمليين”. “كانت تفلح وتزرع وتشتري” حسب ما يقول الأربعيني حسن المقيم في العاصمة دمشق، أما اليوم “تحولت إلى رزم من الأوراق لا تكاد تكفي معيشة ثلاثة أيام فقط!”.
ومع الانهيار المستمر لليرة السورية في سوق العملات الأجنبية، خلال الأيام الماضية، بات المليون ليرة يساوي فقط 100 دولار أميركي، وعند قياس هذه المعادلة بمتوسط راتب الموظف والمقدّر بـ10 دولارات شهريا تتراود عدة أسئلة لدى الكثيرين، في مقدمتها “كيف يعيش السكان داخل سوريا؟”
يتقاضى حسن الذي يعمل كموظف حكومي في “النفوس العامة” بدمشق منذ أكثر من عشر سنوات راتبا شهريا يبلغ 130 ألف ليرة سورية، أي ما يزيد عن عشرة دولارات أميركية بقليل، ويقول لموقع “الحرة”: “يكفيني فقط لشراء فروج مشوي واحد وقد يتيح لي أحيانا شراء ربطة من الخبز معه”.
وحالة الأربعيني السوري مع عائلته المكونة من خمسة أفراد ليست “استثنائية” بل تستنسخ على مئات آلاف الموظفين في مناطق سيطرة النظام السوري، والمليون الذي بات يكفي لمعيشة ثلاثة أيام فقط لا يمكن تحصيله إلا بسبعة أشهر، وهو ما يضطرهم إلى البحث عن بدائل للعيش فقط “على حافة الهاوية”، حسب تعبير حسن.
ويضيف أنه ومنذ عامين اتجه للعمل كسائق للتكسي بعد انتهاء أوقات الدوام الرسمي، فيما بات يتلقى “مساعدة شهرية” من أخيه المقيم في ألمانيا، وتقدر بمئة يورو، أي ما يزيد عن مليون و100 ألف ليرة سورية، بحسب سوق سعر الصرف الموازي، يوم الجمعة.
ولا تختلف الحالة السابقة عن ما اتجه إليه محمد سليمان وهو مدرس لمادة الفيزياء في إحدى المدارس الثانوية بمدينة حمص، مشيرا إلى أن الراتب الشهري الذي يتقاضاه والمحدد بمئة ألف ليرة سورية “لا يكفيه لشراء الخبز”.
وذلك ما اضطره إلى تحويل منزله لمدرسة خصوصية لطلاب شهادة البكالوريا، فيما يصف الحياة التي يعيشها بحديثه لموقع “الحرة” بأنها أصبحت “لا تطاق”، وأن “الجميع في سوريا يعيشون من قلّة الموت”، حسب تعبيره.
ونادرا ما تكشف حكومة النظام السوري الأسباب الحقيقية للأزمات الاقتصادية الحاصلة في البلاد ومن بينها أزمة العملة، فيما تحمّل كثيرا وباستمرار الدول الغربية والولايات المتحدة مسؤولية ما يحصل، وأن الأمر مرتبط بالعقوبات.
لكن خبراء الاقتصاد يرون القصة بواقع مختلف، يتعلق بشكل أساسي ببنية النظام السوري، والسياسات التي يسير من خلالها لإدارة البلاد سياسيا واقتصاديا، فضلا عن مفاصل الاقتصاد السوري التي لم يبق منها أي شيء على حاله.
“مرحلة خطيرة”
وتشير دراسة للباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، محسن مصطفى إلى أن الموظفين في سوريا لا يعتمدون على رواتبهم التي لا تكاد تكفي عدة أيام، بل على مصادر دخل متنوعة.
ومن هذه المصادر: الحوالات المالية القادمة من الخارج، أو العمل بوظيفة ثانية في القطاع الخاص، بالإضافة لذلك قد يمتد الاعتماد على مصادر دخل غير مشروعة نتيجة الفساد المالي والرشاوى في الدوائر والمؤسسات الحكومية.
أما بالنسبة للعسكريين بالرغم من الزيادات الخاصة بهم فهناك مصادر أخرى للدخل جميعها غير مشروعة، سواء عبر عمليات التعفيش أو الإتاوة وفرض الخوّة على المدنيين والسيارات التجارية العابرة على الحواجز.
ويضاف إلى ما سبق عمليات الفساد المالي المتعلقة بعمليات الشراء والعقود والمناقصات التابعة لوزارة الدفاع، التي تشرف عليها لجان المشتريات في الوحدات العسكرية كل على حدا، حسب الدراسة المذكورة.
وتظهر سياسة النظام بما يتعلق بالرواتب، بأنها “دافعة نحو عسكرة المجتمع وتحويل العسكرة لمهنة كبقية المهن، وهو ما تم فعلا من خلال التعاقد معهم كمرتزقة ضمن الميليشيات أو إرسال المرتزقة إلى مناطق نزاع مسلح تحت إشراف روسي”.
وهي “دافعة أيضا نحو الهجرة تُضاف لمجموعة من العوامل الأخرى الدافعة لها، خصوصا لأولئك المتعلمين وأصحاب الشهادات العلمية”.
وجاء في الدراسة أن سياسة النظام تعمد أيضا إلى “إرسال الشباب نحو الخارج من أجل قيامهم لاحقا بإرسال الحوالات لذويهم، وبالتالي الاستفادة من القطع الأجنبي المحول لمناطق سيطرته”.
بالإضافة لقيام هؤلاء الشباب بدفع مبالغ مالية طائلة من أجل الإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، وهو ما يكلف كل شخص 5 – 10 آلاف دولار كرسوم فقط بحسب نوع الخدمة العسكرية ومدّة إقامته خارج البلاد.
ويرى الصحفي السوري، مختار الإبراهيم أن “الوضع الاقتصادي في سوريا وصل إلى مراحل خطيرة، ويمكن قياس ذلك من خلال أسعار السلع التي باتت ترهق المواطن، وتلاشي الطبقة الوسطى”.
ويقول الإبراهيم لموقع “الحرة”: “الأمر وصل إلى وضع لا يطاق وغير منطقي. راتب الموظف 10 دولار والمعيشة تحتاج لعائلة من خمسة أفراد إلى 300 دولار وسطيا”.
ويتراوح سعر طبق البيض الواحد في المحافظات الخاضعة لسيطرة النظام السوري من 40 إلى 50 ألف ليرة سورية، وهو الأغلى قياسا بدول الجوار، بينما يبلغ متوسط الرواتب في الأردن مثلا “من 400 إلى 500 دولار”، بحسب الصحفي السوري.
“الراتب لا يغطي ربع الاحتياجات”
وفي مارس الماضي كان “برنامج الأغذية العالمي” قال إن حوالي 12.1 مليون شخص في سوريا، أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، مما يجعلها من بين البلدان الستة التي تعاني من أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم.
ويعزى هذا التدهور في الأمن الغذائي إلى أسباب عدة، من بينها اعتماد البلاد الشديد على الواردات الغذائية، بعدما كانت تتمتع باكتفاء ذاتي في إنتاج الغذاء في الحقبة الماضية.
وبحسب برنامج الأغذية العالمي، فإن متوسط الأجر الشهري في سوريا يغطي حاليا حوالي ربع الاحتياجات الغذائية للأسرة فقط، وتظهر أحدث البيانات أن سوء التغذية آخذ في الارتفاع، مع وصول معدلات التقزم بين الأطفال وسوء التغذية لدى الأمهات إلى مستويات غير مسبوقة.
وكان الأوساط المقربة من النظام السوري قد اعتقدت وصدّرت فكرة خلال الأشهر الماضية، مفادها أن الوضع الاقتصادي والمعيشي في سوريا سيتحسن، ولاسيما بعدما بدأت بعض الدول العربية بفتح أبواب العلاقة مع دمشق.
لكن ورغم الزيارات المتكررة و”أصداء النصر” التي تحدث عنها النظام السوري، إلا أن الوضع المعيشي والاقتصادي استمر بالتدهور نحو الأسوأ، وهو ما ترجمه تهاوي الليرة السورية في سوق العملات الأجنبية، منذ بداية الأسبوع الحالي.
ويوضح الصحفي الاقتصادي الإبراهيم أن “كل الحركات السياسية من تطبيع مع النظام وعودته للجامعة العربية والتصريحات السياسية التي أدلت بها بعض الدول لا تؤثر على الوضع الاقتصادي”.
ويتابع: “لأن الاقتصاد في سوريا يحتاج إلى تهيئة الأرضية من جديد لجذب استثمارات وهو غير ممكن في الوقت الراهن”.
“العقوبات لها جزء كبير في الموضوع أيضا، ومن غير الممكن أن يجازف أي رجل أعمال وأن ينشئ أعمالا في سوريا، لأنه سيكون عرضة للعقوبات”.
ويضيف الإبراهيم من جانب آخر أن تدهور قيمة الليرة ترتبط بتحول “المركزي السوري إلى مضارب، بعيدا عن الدور المناط به للجم وضبط الأسعار عندما تنفلت”.
“البنك المركزي مثله مثل أي مضارب وهو من يتبع السوق السوداء وهذه مشكلة”، ويرى الصحفي السوري أن “موضوع الغلاء الكبير سببه أن التجار لم يعد لهم ثقة بالمصرف المركزي”.
وانعدام الثقة دفعهم إلى احتكار البضائع، والتخوف من بيعها بسعر منخفض، ومن ثم شراء الدولار من “المركزي” بسعر مرتفع”.
“الحل في الدولرة”
في غضون ذلك يشير المحلل الاقتصادي السوري، يونس الكريم إلى أن “سوء الوضع المعيشي في سوريا يرتبط بالتضخم. الأخير أنهك الاقتصاد السوري ومشكلته ليست حديثة بل جزء أساسي منها يعود إلى ما قبل انطلاقة الثورة”.
ويوضح الكريم لموقع “الحرة” أن مشكلة التضخم تعود إلى ما قبل 2010 عندما حاولت الدولة فرض “الخصخصة” دون رؤى اقتصادية واضحة، وتبع ذلك فترة طويلة من الفساد، وصولا إلى التدخل الروسي في 2015.
وشهدت مرحلة ما بعد التدخل نقلة كبيرة “رسخت التضخم على نحو كبير”، بحسب الكريم، فيما “قطعت أي مجال لمحاربته وتمثلت بسيطرة موسكو على مؤسسات الدولة المنتجة مثل الفوسفات والواجهات البحرية”.
كما حرمت السيطرة الروسية “الاقتصاد السوري من أي مصدر دخل أو تعويضي”، وفق ذات المتحدث.
ولا تلوح في الأفق أي آليات واضحة أو حاسمة من جانب الحكومة السورية لمكافحة التضخم، بينما يسعى المواطنون إلى ذلك بشكل فردي، من خلال الاعتماد على الحوالات المالية من الخارج أو الحصول على مساعدات أو من خلال تغيير الأولويات ونوعية الحياة اليومية.
ويعتقد الكريم أن “سوريا مقبلة على مجاعة وركود كبير جدا لا يستطيع الاقتصاد السوري بآلياته الحالية تجاوزه، وأن الأمر قد يصل إلى سيناريو العراق”.
ويعتقد الصحفي السوري، الإبراهيم أن “سوريا وصلت إلى مرحلة باتت فيها الدولرة الحل الوحيد أمام المصرف المركزي”.
ويقول: “المركزي يجب عليه أن يفتح الأسواق، ويجعل الناس يتداولون بالدولار إلى جانب الليرة”.
ولا تقتصر أسباب الغلاء الفاحش في البلاد على ما سبق، بل هناك أسباب تتعلق بالاحتكارات التي تمنحها الدولة لرجال أعمال مقربين منه.
ويوضح الصحفي السوري أنه “في كل قطاع هناك مستورد وحيد للقهوة والسكر والشاي وهكذا.. يتم توزيع التراخيص كعطاءات لرجال أعمال مشهود لهم بالولاء”، مضيفا: “هذه الاحتكارات التي ينظمها النظام السوري هي سبب رئيسي أيضا للغلاء في السوق”.
المصدر: الحرة. نت