ما جرى أخيراً في جنين شجّع سلطة الاحتلال الإسرائيلي على التهديد بجعل نابلس “جنين ثانية”، وربما بعدها رام الله وأريحا وطولكرم والخليل “جنين ثالثة ورابعة…”. وبوجود زمرة متطرفين متعطشين للدماء في حكومتها، لا تحتاج إسرائيل إلى تشجيع، فهي سجّلت قبولاً ودعماً لـ”العملية العسكرية” من جانب الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، التي لم ترَ في الأمر “عدواناً”، ولم ترَ القتل والدمار والتهجير، ولا ما يستحق مجرّد إدانة بمعايير القانون الدولي. هذه الدول نفسها أدانت روسيا التي سمّت غزوها لأوكرانيا “عملية عسكرية خاصة”، وقدّمت ولا تزال تقدّم كل ما يلزم من أسلحة وأموال لمقاومة تحوّله إلى احتلال روسي دائم.
أما الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فإنها تقاربه بالمعايير التي تحدّدها قوة الاحتلال، إذ تشير إلى “الأراضي” لا إلى فلسطين، وإلى “إرهابيين” لا إلى مقاومين للاحتلال. وقد أدّى تشويه المبادئ الأممية وتسفيهها إلى اقتصار الموقف الأوروبي على استنكار “استخدام القوة المفرطة” أو “الاستخدام غير المتناسب للقوة”، وإلى اتّباع الأمم المتحدة الغموض حيال “العدوان” واكتفائها بإدانة “كل أعمال العنف ضد المدنيين، بما ذلك أعمال الإرهاب”، ومع ذلك طالبتها إسرائيل بالتراجع عن هذا الموقف.
أياً تكن الاعتبارات السياسية، فإن ما تشهده الضفة الغربية حالياً، وما شهده قطاع غزة مراراً، هو نتيجة طبيعية لقتل إسرائيل (والولايات المتحدة) “حلم السلام”، والإصرار على تكريس الاحتلال وتوسيعه بالضمّ والاستيطان، وكذلك تعميقه بإدامة الانقسام الفلسطيني للتذرّع بعدم وجود قيادة فلسطينية يمكن اعتبارها مرجعية أو “شريكاً” في تسوية ما. وكان تحليل الوضع الفلسطيني طوال العقدين الماضيين يفضي دائماً إلى إحدى نتيجتين: إمّا بقاء الآفاق مسدودة لقبول الاحتلال، وهذا ليس خياراً، أو العودة إلى المقاومة كما قبل اتفاقات أوسلو، على رغم التغييرات التي طرأت على القضية الفلسطينية عربياً ودولياً.
بين الحفاظ على مكاسب حصّلها الفلسطينيون على طريق إقامة دولتهم، وإبقاء احتمال “التسوية” قائماً، اختارت السلطة الفلسطينية أن تبقى وتصبر، لكن معطيات مرحلة الانتظار هذه راكمت خسائرها داخلياً ولم تأتِ بأي تطوّر خارجي إيجابي، كما فسدت علاقتها الإجرائية مع الجانب الإسرائيلي – “الشريك”/ العدو الذي يزداد تغوّلاً وتطرّفاً وعنفاً كلما حاولت السلطة تحقيق أي مكسب سياسي يتيحه القانون الدولي ومؤسساته. في الأثناء، راح الصراع الإقليمي يحتدم وينعكس أكثر فأكثر على الانقسام الفلسطيني، بفعل الدور الإيراني الذي تناغم “موضوعياً” مع رغبات إسرائيل و”الولايات المتحدة” في تمديد الصراع للتهرّب من متطلبات التفاوض والسلام.
في سياقٍ كهذا، كان لا بد من نهوض المقاومة للاحتلال، وساهمت الممارسات الإسرائيلية في تحفيزها واستفزازها، إلى أن ظهرت بصورتها الحالية في جنين وغيرها. كانت “سلطة رام الله” قد استخلصت من القمع الإسرائيلي الوحشي لـ”الانتفاضة الثانية” (عام 2000 وما بعده) توجّهاً إلى أنماط أخرى من العمل الوطني، وإلى إيثار الحياة على الموت، ثم روّجت لـ”المقاومة الشعبية” – المدنية، لكن سلطة الاحتلال لم تغيّر أساليبها القمعية – الدموية حيال النشطاء المدنيين، بما في ذلك قتل نشطاء أجانب. وفي الوقت ذاته، راحت تخوض حرباً تلو أخرى على قطاع غزة، بما فيها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية استطاعت واشنطن وعواصم غربية أخرى طمسها ومنع أي مساءلة أو محاسبة لإسرائيل عليها، لا في المجلس الأممي لحقوق الإنسان، ولا في المحكمة الجنائية الدولية. ثم جاءت حقبة “ترامب – نتنياهو” السوداء التي ضربت كل مقوّمات “حل الدولتين”، ولا تزال مفاعيلها قائمة مع الإدارة الأميركية الحالية وبوجود أكثر حكومات إسرائيل تطرّفاً.
على رغم الخسائر البشرية والدمار، أوحت غزّة بالنمط الجديد من مقاومة الاحتلال في الضفة، ليس فقط بمساهمة من حركتي “حماس” والجهاد” أو من إيران، بل لأن الوضع الرمادي في الضفة لم يعد يُحتمل. ويفيد تاريخ المقاومة الفلسطينية أنها احتاجت دائماً إلى دعم من جهة أو جهات عربية، وفي غيابه تقدّمت إيران للحلول محلّه خدمةً لمشروعها ونفوذها، لكن أيضاً لأن هناك طلباً محلياً للمساعدة. وهكذا، فإن النمط الجديد من المقاومة يقوده مخضرمون خبروا الانتفاضة الثانية وتجاوزوا ما حققته وما لم تتمكّن من تحقيقه، ويخوضه شباب سُدّت أمامهم الآفاق والخيارات فعادوا إلى الاستهانة بالموت، لكن مقاومتهم تظهر مع كل مواجهة ضد قوات الاحتلال أكثر تطويراً لقتاليتهم وإمكاناتهم وأساليب عملهم.
في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، لم تتردد قوة الاحتلال الإسرائيلي في تهجير الأحفاد في مخيم جنين، بعدما هجّرت الأجداد من بلداتهم وقراهم إلى هذا المخيم وسواه. بل إنها تباهت بقدرتها، أخيراً، على اقتحام المخيم في أي وقت تريده “متجاوزةً تعقيدات كانت موجودة سابقاً”، لكن كلّ ما حققته كان الدمار، أما أهداف “الردع” و”القضاء على المقاومة”، فتبقى رهن مفاجآت المستقبل. واقعياً، لم تحقّق إسرائيل أهدافها، بدليل أن مناقشات الحكومة في اليوم الثاني من العدوان شهدت خلافاً على تقويم “إنجازات” اليوم الأول، ولم يكن هناك توافق على أن النتائج كافية، إذ لم يُقتل عدد كافٍ من المقاومين الذين قدّرتهم المعلومات الاستخبارية بثلاثمئة وخمسين شخصاً، ولم يُقتل أو يُعتقل أي من القادة، أما إبراز تدمير مصانع للعبوات وكاميرات وأجهزة اتصال لتضخيم الإنجازات، فلم يُقنع حتى المحللين العسكريين الإسرائيليين الذين شكّكوا بأن تتمكّن هذه “العملية” أو سواها من تغيير الأوضاع على المدى القريب، ثم إن العديد منهم تجرّأ أخيراً على القول إن انعدام الأفق السياسي يعني “استمرار العنف”. لكن أي أفق سياسي يمكن أن يوافق عليه إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش؟
بين الذرائع التي قدمتها سلطة الاحتلال لتبرير عدوانها أنها “مضطرّة” للقيام به بسبب “تقاعس” السلطة الفلسطينية، لكن اضطرار حكومة المتطرفين للنظر في منح هذه السلطة “صلاحيات” لإعادة الإعمار أو تسهيلات وامتيازات اقتصادية، يعني أولاً أن العدوان لم يتوصّل إلى التغيير المتوقع للأوضاع، وثانياً أن الاحتلال يعود إلى السلطة لتثبيتها في وظيفة الشؤون البلدية التي رسمها لها، وليس من شأن هذا النهج أن يدوم أو ينجح. ذلك أنه في أحسن الأحوال يمكن أن يهدّئ التوتر جزئياً وآنياً، لكنه مرشح لأن يقود إلى صراع/ اقتتال فلسطيني – فلسطيني ما لم يظهر ذلك “الأفق السياسي” بوضوح، فالقضية الأساسية هي إزالة الاحتلال.
المصدر: النهار العربي