قراءة في رواية: الولد الجاهل

أحمد العربي

فواز حداد؛ روائي سوري متميّز، كتب -عبر عقود- عن سوريا وما حولها وتفاعلاتها الاجتماعية والسياسية، ومع دول الجوار والعالم، في أعمال روائية متتالية، تكاد تكون توثيقاً لسوريا الثقافة والمجتمع عموماً، في تاريخها الحديث.

الولد الجاهل؛ رواية تعتمد الصوت الواحد لبطلها، الذي يتحدث عن نفسه، حياته، حيث يتداخل المعاش الحقيقي مع المتخيل والوهمي، ليصنع حياة كاملة، الرواية تمتلئ بالتفاصيل الصغيرة، التي بمجموعها تشكل عالم الرواية وزمانها وناسها كخلفيات نطّلع عليها، بالمباشر أو ما نستنتجه بما وراء السطور. تبدأ الرواية من الشخصية المحورية في الرواية حسن الذي يعمل في وزارة التربية، وقد جاءه انتداب الى وزارة الداخلية. تفاجأ بذلك، لقد بعث بكثير من الطلبات لينتقل إلى وزارة الثقافة، حيث يلتحق باحدى المراكز الثقافية، ويشبع نهمه للاطلاع والثقافة، وينمي موهبته الكتابية، يكتب بعض القصص القصيرة، حاول نشرها. أمر النقل الى وزارة الداخلية كان جديا. ذهب حسن الى وزارة الداخلية حاملا أمر انتدابه، حوّل الى مسؤول، اخذه الى مستودع أرشيف الوزارة، وسلمه مهامه الجديدة، عليه اكمال ارشفة وثائق وزارة الداخلية الموغلة في القدم، اوراق رسمية تعود الى عهد الاستعمار الفرنسي، وبعده عهد الدولة الوطنية المصنفة “رجعية”، وبعدها العهود الوطنية بتصنيفاتها المختلفة، التي استقرت الى عهد السلطة الوطنية الثورية التي ثارت على ما قبلها من سلطات ثورية واستقرت وهيمنت. الأوراق ليست ذات اهمية، اعطي صلاحيات إتلاف ما يراه غير مهم. حسن شاب عصامي عاش حياته على الهامش، توفي والداه مبكرا تبناه أحد أقربائه ممن كانوا من المسؤولين والاغنياء في العهود البائدة، القريب سقطت سلطته، وسمي رجعيا، لكنه بقي على قوته الاجتماعية والاقتصادية، حسن يعجب بفتاة تعرف عليها في المجال الثقافي، فهي ايضا تكتب القصة القصيرة و تنشرها في الدوريات الأدبية. حسن يحلم أن يتعرف عليها وان تكون بينهما علاقة ادبية وعاطفية ان امكن. الفتاة تكتب القصة بوحي تجربة حب انتهت بزواج لم يعمر، وانتهى الزواج بطلاق سريع. أصبحت الفتاة مأزومة من عالم الرجل الظالم، كل قصصها تتمحور حول رجال ظالمين وغير جيدين ونساء مظلومات وضحايا لرجال سيئين. لم يستقر حسن في عمل الارشفة إلا قليلا حتى تم انتدابه مجددا الى مهمة سرية في حانة روكسي في دمشق، في أجواء مخابراتية، لقاءات بغرف جانبية، وتكليف بمهام استخباراتية، وتواصل عن طريق وسيط وبشكل سري. المهمة هي التردد الى حانة روكسي لأجل التعرف على واقع روادها، هناك من اخبر ان مجموعة متآمرة تلتقي بها، وأن عليه التأكد من ذلك والحصول على المعلومات. يذهب حسن الى الحانة يتعرف فيها على شخصيات متنوعة ترتادها بشكل شبه يومي، تعرف على فتاة البار التي تلبي رغبات الزبائن بما فيها الجنسية ايضا، لم يلفت نظره شيء مهم، بمساعدة الوسيط الاستخباري، يحصل على بعض المعلومات، ويصبح تحت المراقبة، هناك جهات امنية اخرى تابعة لاجهزة استخبارات جديدة نافذة وقوية تابعة للسلطة الجديدة، بدأت بالظهور وأخذت مواقع وزارة الداخلية. ضاع حسن بين أن يعرف ما يحصل أو أن يكون مستهدفا من الآخرين لمعرفته ومعرفة مهمته. تورط بعلاقة جنسية مع فتاة البار تغطية على سرية مهمته، له صديق يشاركه سهراته، وحتى ممارسته الجنسية الحميمة مع فتاة البار، له شخصية مرافقة له تُخلق أمامه فجأة تتفاعل معه تحاوره تتفق وتختلف معه، وسرعان ما تختفي، اسماه الرجل الضالع. كان همه الأكبر ان يصل للكاتبة وأن يبني علاقة معها حب وتواصل جسدي جنسي، زارها أكثر من مرة، طردته في بعضها، اخبرته ان قصصه خيالية ولا علاقة لها في الواقع، وعدها ان يكتب عن الواقع المحيط به، تقرب منها اكثر وحظي منها على حب وتواصل جسدي ومتع كثيرة. وقع في مآزق كثيرة في عمله مع وزارة الداخلية، و بالاصطدام مع الاجهزة التي هيمنت على ساحة العمل الاستخباري، وابعدت الداخلية عليها ان تهتم بالجانب الجنائي فقط. ضاع بين مخبر وشاذ جنسي وفتاة بار مغلوبة على أمرها، وصديق شاهد على أحواله، ورجل ضالع يحضر ويغيب كيفما شاء، وكاتبة لا يعرف كيف يخبرها عن كل احواله، خاصة بعدما احبها واحبته وحصل بينهم لقاء جنسي حميمي. لم تستمر اموره هكذا وفي وقت انسحاب الداخلية وضعفها أُعيد من المهمة الامنية الى العمل في الإرشيف. هناك اكتشف انه لم يغادر عمله اصلا بل توحد مع عمله بحيث صار يعيش حياة أخرى في العوالم التي أرشفها. لا روكسي ولامؤامرة ولا فتاة بار ولا صديق، والرجل الضالع وهم لنفسه التي تحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، والكاتبة و لقائه بها حلم لذيذ لم يتحقق.

هنا تنتهي الرواية. وفي تحليلها نقول: نحن أمام رواية مختلفة في عالم فواز حداد الروائي، يريد أن يستحضر زمان مضى الى النسيان، وان الدولة في عهد السلطة السياسية العسكرية الجديدة، أصبح ثقلها الحقيقي في اجهزتها الامنية الجديدة على كثرتها، وليس في حكومتها مجسدة في وزارة الداخلية.

فواز حداد يصنع عالما كاملا متخيلا في ذهن بطل روايته، بديلا عن حياة كئيبة لبطلها المدفون في قبو ارشيف مع اوراق ذهب زمانها، بعضها للحفظ واغلبها للاتلاف، هكذا يود القول ان زمانا جديدا حضر بحكم شمولي استبدادي جديد مهيمن على كل أركان الحياة، والناس ممثلة بحسن بطل الرواية، ليس لها إلا أن تجتر احلامها واوهامها، بصفتها بعض اماني تتمنى أن تتحقق على تواضعها، في حياة تبدو أنها تزداد سوء يوما بعد يوم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى