الأقليات العددية الوافدة:
منذ أواسط القرن التاسع عشر حصلت متغيرات سياسية في كثير من دول العالم ناتجة عن حروب داخلية أو اعتداءات أو صراعات إقليمية أدت إلى هجرات سكانية عديدة. فكان من نصيب البلاد العربية عدد غير قليل منها. تمثل في لجوء أعداد من الشيشان الهاربين من العدوان الروسي على بلادهم؛ إلى بلادنا العربية وخاصة إلى سورية والمشرق.
كذلك حصل مع لجوء أعداد من سكان البوسنة المسلمين أيضًا إلى بعض البلدان العربية وخاصة المشرق وتونس. كذلك أعداد من الشركس الذين لجأوا إلى سورية والأردن.
وبعيد الحرب العالمية الأولى؛ لجأ عدد لا بأس به من الأرمن إلى سورية ولبنان هربًا من اضطهاد السلطات التركية لبلادهم أرمينيا.
يضاف إلى هؤلاء لجوء أعداد كبيرة من ” الأكراد ” من بلاد فارس والهند في أوائل القرن العشرين إلى سورية والعراق ولبنان. ولأسباب كثيرة تفردت حال الأكراد عن الآخرين فشكلوا ظاهرة خاصة تحتاج إلى دراسة مستقلة منفصلة.
جميع هؤلاء سكنوا واستقروا وتجنسوا بهوية بلادنا العربية وأصبحوا مواطنين ولاؤهم للبلد العربي الذي يقيمون فيه وراحوا يشاركون في مسيرته العلمية والإنمائية وإن كان ما يزال بعض منهم يحتفظ بمشاعر الود والحنين إلى بلاده الأصلية. وليس في هذا ما يعيبهم.
هنا تبرز ملاحظتان جديرتان بالاهتمام:
الأولى: أن هذه الجماعات البشرية – الأجنبية عن بلادنا أصلاً – مسلمة ومسيحية. لم تعترض طريق انصهارها في بلادنا أية صعوبات دينية أو طائفية أو عنصرية. تمامًا مثلما حصل مع اليهود الأندلسيين الهاربين من جحيم الاضطهاد الإسباني عقب سقوط دولة الحضارة العربية العظيمة في الأندلس. حيث لجأوا إلى بلاد المغرب العربي واستقروا فيها وأصبحوا من أبنائها يساهمون في مسيرتها الحياتية التنموية.
الثانية: تأكيد مدى سماحة القيم العربية – الإسلامية وانفتاح المجتمعات العربية على تقبل الآخر أيًا كان. فالأرمن مسيحيون غير عرب.. ويهود الأندلس لم يكونوا عربًا.. والباقون مجموعات مسلمة غير عربية. لجأوا إلى مجتمعات عربية ووجدوا فيها الأمان والحماية والرعاية رغم صعوبة الظروف العامة للبلاد؛ فاستقروا فيها وتجنسوا وأصبحوا مواطنين كاملي الحقوق والواجبات كغيرهم من أبناء البلاد الأصليين.
هؤلاء فقط يمكن اعتبارهم أقليات بالمعنى الخاص للكلمة.. لأنهم ينتمون إلى هويات أخرى غير عربية.. ومع ذلك تعربوا واندمجوا وتطبعوا بالقسمات العامة لأهل البلاد وحياتهم ولم يعد بالإمكان تمييزهم بأصلهم العرقي باستثناء الأرمن، وفقط من خلال أسمائهم وخصوصيتها.
على الرغم من أن هذه الجماعات هي التي تشكل وحدها أقليات ذات طابع خاص، إلا أن المشروع الاستعماري لم يعطهم أية رعاية ولم يتوجه إليهم في مشاريعه التحريضية التقسيمية للأمة العربية.. في حين كان تركيزه الدائم على الجماعات الأخرى التي ليست أقليات ولا تشكل أقلية بالمعنى الوطني أو القومي وذلك لأنها من أبناء البلاد الأصليين ومن مكونات شخصيتها التاريخية – المجتمعية. كما هو حال المسيحيين واليهود والأمازيغ والعلويين والدروز. نذكر بأن هؤلاء جميعًا ليسوا أقليات وإن كانوا أقلية عددية لا يعتد بها. فليست لهم أية خصائص قومية مختلفة عن هوية الأمة. أما تركيز المشروع الاستعماري عليهم منذ قرون فيعود لسببين رئيسيين إثنين:
الأول: ضرب وحدة الأمة:
حيث إنهم من أبناء البلاد الأصليين والذين يمتد وجودهم عبر مئات أو آلاف السنين.. وبالتالي فإن احتواء أية جماعة منهم واستخدامها كأقلية؛ يمكن أن يشكل انقساما في بنية المجتمع العربي المطلوب السيطرة عليه. وبداية لعمليات تقسيم إضافية لاحقة.
الثاني: ضرب عروبة الأمة:
بتشويهها لدى أبنائها أنفسهم وتزييف وعيهم بذاتهم القومية الجامعة. وحيث أن العروبة هي لحمة الهوية ورابطها فإن خروج جماعة أو أكثر من أبنائها يشكل ضربة لها تستدعي – بحسبانهم هم – تراجعًا عامًا عنها تحت مظنة عدم صلاحيتها أو بالأحرى عدم الركون إليها.
وأمام هذا المنهج الاستعماري وبفعله وبسببه؛ برزت ثلاث مشكلات حقيقية استطاعت أن تشكل تهديدًا جديًا لوحدة الأمة وهويتها القومية وصارت جرحًا غائرًا في عمق المجتمع والأمة والتاريخ، ينزف متواصلاً ليستهلك طاقات الأمة البشرية والمادية في غير معارك نهضتها وتقدمها:
الأولى: – القاعدة الصهيونية:
تمثلت بتمكن القوى الاستعمارية من استقطاب أعداد كبيرة من اليهود لتشكيل الحركة الصهيونية لتكون غطاء دينيًا – استعماريًا لاحتلال قلب المنطقة العربية في فلسطين وتشكيل قاعدة استعمارية فيها تكون رأس حربة ضد الأمة العربية وشعبها وحضارتها؛ وقاعدة عسكرية متقدمة تستخدمها لقمع أية محاولة عربية للتحرر والنهضة والوحدة والتقدم.
وقد نجحت القوى الاستعمارية في هذا المشروع نجاحًا بارزًا مستفيدة من عدة عناصر أساسية:
١ – تقوقع العقل الديني لليهود على ذاته وضعف اندماجهم في مجتمعاتهم القومية لما يحرصون عليه من مصالح ربوية مادية عززها تراثهم الديني التلمودي اللا إنساني.
٢ – الإمكانيات المادية والعسكرية الضخمة بل الهائلة التي رصدتها القوى الاستعمارية لإنجاح المشروع.
٣ – انقسام القوة العربية وضعفها حيث كانت معظم البلاد تحت الاحتلال الاستعماري الأجنبي. فغاب تنظيم القوى الشعبية العربية في مواجهة عدوان عالمي منظم وصهيونية عالمية ذات قدرات مالية وإعلامية وعسكرية وتنظيمية فائقة. ولا يزال العدوان الاستعماري – الصهيوني على فلسطين والأمة قائمًا مستفحلًا يستنزف كل فرص التحرر وطاقات النهضة والتقدم. ولكن – وبالتأكيد – إلى حين.
الثانية: – المشكلة الكردية: حيث تمكنت القوى الاستعمارية ذاتها من تأسيس مشكلة كردية تحاكي المسألة الصهيونية وخطرها على الأمة. وأضيفت إلى القوى الاستعمارية تلك؛ قوة القاعدة العسكرية الصهيونية في فلسطين التي سارعت بمد خطوط الاتصال السرية ببعض الشخصيات الكردية في بلاد المشرق العربي لتحريضها على إنشاء كيان كردي انفصالي معاد للعروبة على غرار ” الإسرائيلي “. وهو ما يجري الاستعداد للإعلان عنه وإخراجه إلى حيز الواقع المعلن المشرعن بعد أن تم الإعداد الواقعي الخافت له في كل من سورية والعراق وتركيا.
و(سوف نعود إلى المسألة الكردية في دراسة منفصلة).
الثالثة: – المشروع المذهبي: بالفتنة بين السنة والشيعة من أبناء البلاد وبالتحريض المذهبي المتبادل وصولًا إلى خلق هوة نفسية وانفصال نفسي يمهد لحروب مذهبية بين السنة والشيعة تكون نتيجتها تدميرًا شاملًا وتقسيمًا عميق الجذور للأمة العربية يبقيها عقودًا طويلة ترزح تحت وطأة الاحتلال والجهل والضعف والتخلف. وقد أطلت هذه المشكلة برأسها منذ أواسط السبعينات مع انحسار المد القومي العربي التحرري التقدمي بوفاة جمال عبد الناصر وخيانة أنور السادات وانكفاء مصر. ثم اكتسبت زخمًا قويًا مع قيام الحكم الديني في إيران واتجاه تركيا العَلمانية نحو الإسلامية. ((نظرًا لأهمية وخطورة هذه المسألة سوف نفرد لها دراسة خاصة لاحقا)). وقد شكلت هذه المشكلات الثلاث خطورة متفاوتة على مصير الأمة. الأخطر فيها المسألة الصهيونية. وإن كانت جميعها تتقاطع في محاور ما تجد الواحدة أصداءها في الأخرى. وتشترك ثلاثتها في كونها تهدد وحدة الأمة جميعًا وهويتها القومية أيضًا.
وتفتقت أيضًا بفعل المشروع الاستعماري المعادي ثلاث مشكلات أخرى متممة لسابقاتها الأساسية وأقل خطورة منها لأنها تبقى محدودة التأثير المكاني – الجغرافي (نسبيًا).
الأولى: – المسألة المسيحية:
تاريخيًا شكل الاهتمام الاستعماري بالوجود المسيحي إنذارًا مبكرًا بوجود الرغبة العدائية لتقسيم البلاد العربية. واستخدام المسيحيين أيضًا جسر عبور للمصالح الاستعمارية.. وأول من قرع ذلك الجرس كان المستشرقون الذين انطلقوا ينبشون ويخربون في أعقاب فشل العدوان الاستعماري المسمى حملات الفرنجة أو كما أسماها الغربيون أنفسهم: ” الحروب الصليبية ” لتغطيتها بغطاء ديني يستقطب المسيحيين العرب. وهو ما فشلوا فيه تمامًا.
وقد صرفت القوى الاستعمارية تركيزها عن الوجود المسيحي لصالح المسألتين الصهيونية والمذهبية (الإسلامية) لسببين إثنين:
الأول: فشلها في استقطاب المسيحيين أو جزء يسير منهم وتمسك الغالبية الساحقة من المسيحيين العرب بجذورهم التاريخية الضاربة في الأعماق وبهويتهم العربية.. فلم تفلح تلك القوى في تشكيل كيان انفصالي مسيحي رغم محاولاتها الكثيرة.
الثاني: إدراكهم المتأخر أن الانقسام المسلم – المسيحي يبقى محدود الامتداد المكاني الجغرافي ولن يشمل كل البلاد العربية لعدم وجود مسيحيين فيها جميعًا. في حين أن الانقسام المذهبي بين السنة والشيعة أكثر امتدادًا حيث يقسم جميع البلاد العربية والعالم المسلم أيضًا.
الثانية: المسالة الأمازيغية في الجزائر: وعلى رغم تصاعد خطرها على وحدة الجزائر إلا أن امتدادها التقسيمي يبقى محدودًا جغرافيًا بالجزائر وربما يمتد إلى المغرب. لكنه لا يقسم البلاد العربية كلها. ويبقى الأمازيغ من سكان المغرب العربي الأصليين وآخر الأبحاث العلمية تبين أن أصولهم ترجع إلى اليمن وأن لهجتهم ما هي إلا لهجة قبائل حمير العربية اليمانية الأصيلة.
الثالثة: المسألة العلوية:
وهي مشكلة خاصة بسورية العربية. امتداد ما تسببه من انقسام لا يتعدى حدود سورية جغرافيًا وإن كانت آثارها النفسية والاجتماعية التخريبية تطال المشرق العربي برمته.
يمكن القول إن القوى الاستعمارية نجحت في اختراق مجتمع سورية منذ أوائل القرن العشرين وأسست لظهور مشكلة علوية صوبتها تجاه أبناء وطنها السوري وعملت على إبرازها والتأسيس لها حتى تمكن مشروع طائفي شعوبي حاقد على العروبة من التفرد بحكم سورية واستخدامها بالتالي لضرب عروبة المشرق العربي وتفتيت تجانسه الوطني – القومي سكانيًا وثقافيًا واجتماعيًا. وعلى الرغم من أن القوى الاستعمارية ذاتها حاولت إقامة كانتون ماروني مسيحي معاد للعروبة في لبنان إلا أنها فشلت في حين نجحت في سورية، إنما بعد أن قامت بتغطية مشروعها بلافتات مزيفة للقومية العربية.
وعلى ما يبدو من مجريات الأحداث يتبين أن الهدف الاستعماري والصهيوني معًا يسعى لإحاطة فلسطين المحتلة بكانتونات انفصالية شعوبية تقسيمية تتكامل أمنيًا وثقافيًا وسياسيًا مع الإسرائيلي المغتصب يحمونه ويحميهم. ويبدو كأن مصر أيضًا مستهدفة بذات التوجه ودول الطوق الأخرى.
خلاصات:
١ – ليس في بلادنا العربية أقليات قومية. وجميع الجماعات السكانية التي استخدمت وتستغل لإثارة مشكلة أقليات كيانية انفصالية شعوبية معادية للعروبة؛ إنما هي من سكان البلاد الأصليين ولا يشكلون أقلية وإن كانت أعدادهم قليلة نسبيًا.
٢ – الجماعات البشرية التي لجأت واحتمت بالمجتمعات العربية كالشركس والبوسنيين والشيشان والأرمن والتركمان؛ إنما انصهروا وباتوا مواطنين وتعربوا ولا يشكلون أقليات ” عرقية ” تطالب بالانفصال عن الأمة.
٣ – وحدهم الأكراد يشكلون أقلية قومية برزت لديها نزعات انفصالية بتحريض استعماري.
٤ – المشاكل التي أعطيت طابع الأقليات إنما حصلت بفعل التدخل الاستعماري، ثم الاستعماري الصهيوني في البلاد العربية ومجتمعاتها.
٥ – أنظمة الإقليمية المنبثقة عن سايكس -بيكو تتحمل مسؤولية مباشرة عن حماية صعود مشاكل ما أسموه زورًا أقليات وتوفير مستلزمات تحولها إلى ظاهرة متفاقمة تهدد المصير القومي والمستقبل العربي.
٦ – وحده المشروع العربي الوطني – القومي، تفرد باستيعاب مشاعر الجميع وخصوصياتهم وتجاوزها إلى رؤية توحيدية بنيوية جامعة.. لذلك انخرط في صفوفه الجميع حينما توفرت له قيادة عربية حرة شريفة.
٧ – أوهم الاستعماريون – الصهاينة وأدواتهم المحلية أصحاب المشاريع الطائفية الانفصالية؛ بعض أبناء الأقليات العددية من أبناء البلاد والأمة، بأن العروبة خطر عليهم. وأن تحالفهم فيما بينهم هو وحده ما يضمن أمنهم ويحميهم. وهو ما يسوقه المشروع الطائفي في سورية بادعاء حمايته للمسيحيين فيطالبهم لذلك بتأييده والدفاع عنه.
٨ – إن عداء بعض أبناء تلك الأقليات العددية للعروبة وتشوه وعيهم ومعرفتهم بها دفعهم للاعتقاد بأن المشروع الصهيوني قادر على إنقاذهم من براثن التخلف والجهل والعداء العربي لهم.
٩ – يبقى اغتصاب فلسطين هو الخطر الأكبر ورده مسؤولية عربية عامة مشتركة.. فلسطين قضيتنا جميعًا.. وعن هذا الخطر تتفرع أخطار أخرى تتكامل معه وتمكنه من مصائر الجميع وتأتي في مقدمتها المسألة المذهبية والانقسام السني – الشيعي.
١٠ – إن المسيحيين العرب مكون أساسي من بنيان مجتمعنا العربي تاريخيًا وحضاريًا. وهم بصفتيهم: من أبناء البلاد الأصليين ولإيمانهم الديني المسيحي المتجذر في بلادنا وحضارتنا؛ ركن أساس في نهضة الأمة وتحررها وتقدمها. مصيرهم من مصير أمتهم العربية.. ولا حماية لهم إلا في إطار العروبة…كما أن هجرتهم منها يشكل تهديدًا لوجودها ولهويتها التاريخية. ولعل في تجربة كل من فارس الخوري والأمير عبد القادر الجزائري في سورية؛ ما يبين بوضوح أصالة الهوية العربية للمسيحيين وعمق اندماجهم الوطني في مجتمعهم العربي.
١١ – وحده المشروع القومي التحرري التقدمي يستطيع حل مشكلات كل تلك الجماعات السكانية التي تشوش وعيها بحقيقة هويتها وتزيفت معرفتها بذاتها؛ من خلال رؤيته التوحيدية الجامعة وقدرته على بناء دولة المواطنة والعدالة والقانون.
١٢ – كل مواطن عربي حر معني ومسؤول للمساهمة في رد العدوان على الوجود القومي للأمة؛ بكل تفاصيله الكبيرة والصغيرة؛ كل في مكانه وقدر استطاعته. إن رد العدوان عمل يومي عملاني تراكمي إلى حين تحوله إلى تغيير نوعي ظاهر وفاعل.
إن تراكم الأفعال الصغيرة اليومية البسيطة والتي لا تبدو في حينها ذات شأن مهم أو كبير؛ هو الذي سيؤدي إلى ذلك التغيير النوعي المطلوب. شرط أن تشترك في رؤية ممنهجة مشتركة لحقيقة العدوان ودوافعه؛ وأهمية الرد اليومي الجماعي في كل المجالات التي يشملها العدوان وهي مجالات الحياة كلها. فحينما تكون المعارك تحديًا للوجود، لا يعود هناك مجال لا للانتظار ولا للشماتة ولا للسلبية والانهزام.
إن مسؤولية المشاركة في دحر العدوان فرض على كل إنسان حر عاقل. إن دحر العدوان يبدأ من أبسط الأعمال اليومية التفصيلية. وهذا في متناول كل مواطن إذا ما أراد وبحسب إمكانياته وفي موقعه ذاته.