سليمان البوطي روائي وناقد سوري متميز، توفي بوباء كورونا. رحمه الله. هذا اول عمل أقرأه له.
مقامات ست الشام، مكتوبة بصيغة الغائب، وأحيانا يتدخل الراوي عرضا، الشخصية المحورية في الرواية نعلم ان اسمه ياسين، هو ابن الشام، والرواية هي أقرب إلى رحلة في الذاكرة، المكانية والمجتمعية، بطلها ابن دمشق الحاضرة فيه بكل عمقها النفسي والمجتمعي والتاريخي.
تبدأ الرواية من شخصيتها الاساسية متكلما عن حاله، يعود بنا في الزمان الى دمشق الستينات وما بعد، يتنقل في شوارعها وحواريها، ينتقل من مكان الى آخر من سينما إلى مطعم من مكتبة الى غيرها، يستعيد ذلك الماضي الحي داخله وكأنه يعيش هذه اللحظة الآن. كما نرى أن صاحبنا يعيش هاجس يسكنه كوسواس؛ وهو أنه ملاحق من طرف ما ؟!!، نحسه نحن كقرّاء وكأنه طرف امني ما.
كما يتداخل في ذاكرة السرد لصاحبنا، أنه يُستدعى بطريقة ملتبسة الى اطراف مجهولين بالنسبة لنا، يهابهم إن لم نقل انه يخافهم، يخبرونه أنه أصبح منهم، لا نعرف من هم ؟!!.، ولا نعرف ما العمل قبل به ؟!!. تتركنا الرواية عند تخوم التخمين. بعد ذلك ينتقل صاحبنا للتحدث بصيغة تصوفية عميقة، فيها من الروحانية الكثير، والتشبيه والكناية والاشارة…الخ، حيث تحضر اللغة الصوفية بكل ما لها من خصوصيتها وغموضها وسحرها الخاص، كما أنها تشكل منطقة رجراجة غير متوازنة بين الوعي والشعور واللاشعور، المعاش الحقيقي والمتصور، كله يعيشه صاحبنا، مقترنا ذلك مع التنقل من مقام لأهم أعلام الصوفية في دمشق إلى مقام آخر، مزاراتهم موزعة في دمشق، محي الدين بن عربي، والشيخ رسلان وغيرهم كثير. كل ذلك يعيشه صاحبنا، كأحوال صوفية وجدانية، وليس كسرد الانتقال المادي والعيش العادي لانسان في الحياة. يعيش ما يعيش وجدانيا. في لحظة هو في حضرة شيخ، وفي اخرى يدخل الى دهليز يوصله لحضرة صوفية، ينهمك في التوحد معها. هو جزء من الحالة، وهي داخله متوهجة. يغيب في هذا الجزء من الرواية التعقب والخوف من نفسية صاحبنا، وتحضر الصوفية بصفتها رحلة للذات الانسانية بين السماء والأرض، السماء بصفتها الله والكون والحياة، والارض بصفتها هذا المخلوق الضعيف الذي ينوس بين ذاته وإلاهه، كل ذلك في حضرة شيوخ كبار يمثلون اقطاب الشام التي تشكل العمارة الذهنية والوجدانية والنفسية لصاحبنا. تعود الرواية مجددا الى احساس صاحبنا بأنه متابع من أطراف ما مجهولين بالنسبة لنا، يستدعونه لإخباره بانهاء عمله معهم، وأن عملهم وعمله معهم سر، كشفه من قبله يعني خسارة حياته، ومرة اخرى لا نعلم من هم هؤلاء؟. ماذا يعملون؟. ولماذا يهابهم؟. وتنتهي الرواية عندما نرى صاحبنا وقد عاد الى عمق التجربة الصوفية، وقد اصبح له شيخه وحضوره وخصوصيته، وانه اصبح مكلف أن ينشر ما اطلع عليه وما كسبه، بعد سنوات من التوحد مع التجربة الصوفية.
تنتهي الرواية هنا معلنا الكاتب في ختامها انها جزء اول من سلسلة روائية تتألف من ١٠ أجزاء. وان أجزاءها التالية ستطبع تباعا.
في تحليل الرواية نقول:
٠ نحن أمام رواية مختلفة بالاسلوب وطريقة السرد، فهي غير منضبطة بمعايير الزمان والمكان، والسبب والنتيجة، غير منضبطة في متن محدد يومي الى هدف محدد، انها رواية البوح النفسي الذاتي المضبوط وفق برمجة خاصة للكاتب، يريد من خلالها أن يوصل رسالته عبر ما يلتقط القارئ من اطلاعه على الرواية.
٠ نحن امام دمشق التي تمثل الركيزة النفسية للكاتب يعيد السرد عنها بصفتها وجدانه الحي الحاضر، وكأنها ابنة اللحظة المعاشة الآن، رغم أنه يتحدث عن دمشق قبل نصف قرن في بدايات الرواية.
٠ نحن امام دمشق الحاضرة في وجدان الكاتب منذ قرون، دمشق الأقطاب الصوفية، ومراكز حضورهم مقام ابن عربي، والشيخ رسلان و غيرهم كثير، حاضرين في وجدانه، يحضر عندهم ويحضرون في وجدانه، المسافة بين المعاش المباشر والمتخيل طرفة عين، يغيب معهم وفيهم، يستعيد لغتهم، الفاظهم، اشاراتهم، انهم حاضرين معه وفي ذاته، الان وهنا في دمشق، رغم مضي قرون عليهم.
٠ للمسكوت عنه حضور في الرواية، ممن يخاف بطل الرواية ؟، هل من السلطة ؟. السلطة التي لم تكن يوما الا منطقة رعب وظلم للناس. ثم ما الذي جُنّد به صاحبنا، هل أصبح موظفا في الامن ؟، ام مخبرا ؟، ام التحق بعمل سياسي معارض للنظام ؟. كله وارد، ماذا تعني معلومة أن العمل الذي التحق به لسنوات ومن ثم توقف، ينتهي دون ايضاح ؟!!، هل يريد الكاتب ان يقول لنا أننا نحن الناس العاديين في سورية مجبورين على نقوم بأعمال يريدها النظام رغما عنا، ونتركها بطلبه رغما عنا، لا يهم ما هي بالضبط ؟!، المهم الآلية اننا مجبرون على تنفيذ كل ما يُملى الينا وعلينا، هل هو مجتمع الخوف والعبيد؟!!.
٠ حضور التصوف: بعض منه هروب من الواقع الى الغيب، الى علاقة عمودية مع الله، تعويضية عن المحرمات والحرمانات الحياتية. وهي من جانب آخر الغوص عميقا في دمشق التاريخ والمعنى وحضور التدين بأنواعه وعلى رأسها التصوف، بصفته طريقا من طرق التواصل مع خالق الكون، ومواجهة الحياة وصناعة المعنى.
٠ اخيرا الرواية لم تكتمل رسالتها، نحن في الجزء الأول. ما يشد فيها غرابتها، وضبابية معلوماتها، والعالم الغرائبي الذي يجعل القارئ يتابعها باهتمام، ليصل الى معنى ما يتستر في النص المقروء أمامه، ويتعطّش ليقرأ الأجزاء التالية.
٠ نحن امام روح تهيم في دمشق وتصنع رواية ذات عاشقة لها، دون أي ضابط إلا هذا الحب والهيام.