هيمن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على السياسة التركية وطبعها بطابعه في حقبة مديدة (منذ عام 2002)، كرئيس للوزراء وكرئيس للدولة، وهي حقبة شهدت عدداً من التحولات، إن على الصعيد الداخلي في السياسات التي انتهجها، وضمنها التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، أو على الصعيد الخارجي، الإقليمي والدولي، في ما يخص تموضع تركيا، وخياراتها المتقلبة، إزاء مختلف الأطراف والقضايا.
وبغضّ النظر عن الموقف من السياسات التي انتهجها أردوغان، تأييداً أو رفضاً، فإن من الصعب تحديد منظور الخيارات التي اتخذها، في عدد من القضايا الإقليمية والدولية، لا سيما منها المسألة السورية، فهل يتم التعاطي معها من منظور مثالي، أم متخيّل، يتعلق بطموحاته، أم خلفيته الفكرية، أم نظرته إلى دور تركيا في التاريخ، وفي العالم؟ أم من منظور سعيه إلى الحفاظ على استقرار تركيا ومصالحها الخاصة؟ أم من منظور محاولته تعزيز مكانة تركيا الإقليمية، وتموضعها على الصعيد الدولي، بين الأقطاب الفاعلين، أو المؤثرين الآخرين؟
ولعل أكثر ما يهمنا هنا هو السؤال عن تموضع تركيا، في الحقبة الأردوغانية، إزاء الصراع السوري، أو إزاء المسألة السورية (منذ عام 2011)، بكل تحولاته، من العلاقة الخاصة مع النظام، إلى الدعم المطلق للمعارضة، مروراً بالانخراط في تحالف أستانة مع شريكي النظام (إيران وروسيا)، وصولاً إلى المرحلة الحالية المتمثلة باستعداده لإيجاد مقاربات سياسية للانفتاح على النظام، بالتساوق مع سعيه إلى “تصفير المشكلات”، مع كل الأطراف.
من جانب آخر، وبغض النظر عن رأينا في السياسات التركية، فإن تركيا، مع أردوغان أو مع غيره، هي أهم وأقوى دولة، في الشرق الأوسط، من حيث المساحة والقوة البشرية والاقتصادية والعسكرية. وهي بالنسبة إلى سوريا، أهم دولة جوار، مع حدود طويلة جداً، ومع تأثير كبير من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية، وهي منبع نهر الفرات أطول وأكبر مجرى مائي في سوريا، ثم بحكم ثقل العلاقات التاريخية.
هكذا، فقد اتسمت العلاقة التركية ـ السورية، في بداية عهد أردوغان، في عشريته الأولى (2002 ـ 2011)، بروح الصداقة والتعاون وتبادل المنافع، في كل المجالات. لكن في العشرية الثانية، أي منذ 2011، تم الانقلاب على السياسات السابقة، بالانتقال إلى مرحلة العداء المتبادل، نتيجة دعم تركيا للمعارضة السورية، بمكوّناتها السياسية والعسكرية والخدمية، بعدما باتت بمثابة الحاضنة الأساسية للمعارضة “الرسمية”، ولفصائلها المسلحة، وتالياً الدولة المتحكّمة في مساراتهما، ويأتي ضمن ذلك احتضانها، أو دعمها، لمساري العسكرة والأسلمة، على كل الصعد: أي الخطابات والكيانات وأشكال العمل، إلى الحد الذي يمكن التساؤل معه عن حدود أو عن مصير المسارين المذكورين من دون دعم تركيا.
في تلك المرحلة، لم يكن تأثير تركيا نابعاً فقط من ثقل تأثيرها في المعارضة السورية، لأسباب مختلفة، إذ إن ذلك التأثير ازداد كثيراً بسبب احتضان تركيا ملايين اللاجئين السوريين، أيضاً، ثم من هيمنتها، مع فصائل المعارضة الموالية لها، على الشمال السوري.
قد يرى البعض أن تركيا تصرّفت في سياساتها إزاء الصراع السوري، آنذاك، بوصفها دولة إقليمية كبيرة في المنطقة، ووفقاً لمصالحها، السياسية والاقتصادية والأمنية، الآنية والمستقبلية، وبحسب رؤية الحزب الحاكم لتلك المصالح، إلا أن تلك الرؤية، يفترض أن تأخذ في حساباتها أيضاً أن الدول لا تتصرف بوصفها جمعيات خيرية، أو منظمات حقوق إنسان، وأن مصالح الدول تختلف عن مصالح الثورات، وأن مصلحة نظام معين تتعلق بإقليمه وشعبه أساساً، وليس بشعب آخر، بل إن من مصلحة أي دولة استثمار أي أوراق خارجية لتعظيم دورها، وتعزيز مكانتها، قبل أي شيء آخر، وهذا هو المدخل الطبيعي لفهم السياسة التركية، بعيداً من التقديس والمبالغات المضرة التي لا تفيد تركيا، ولا شعبها، ولا سوريا ولا شعبها.
في مرحلة ثالثة، أي بعد الانتقال من الصداقة إلى العداء، شهدت السياسة التركية إزاء الصراع السوري تحولاً سياسياً، أو نقلة جديدة في تموضعها، بإقامة تحالف أستانا (مع إيران وروسيا، 2017)، وباتت سياستها في سوريا تتركز في التخفف من تدفقات اللاجئين السوريين، وإيجاد منطقة حدودية أمنية عازلة في شمال سوريا على امتداد حدودها، بعمق 15 كم، وأيضاً تبرير ذلك بحماية أمنها القومي ضد قوات الـ”بـي كي كي” (حزب العمال الكردستاني في تركيا)، وامتداداته السورية المتمثلة بقوات “قسد” (التابعة لحزب بي واي دي أو حزب الاتحاد الوطني الكردي في سوريا)، اللذين تصنفهما كجماعات إرهابية، مع عملها على تهدئة الصراع في مختلف مناطق سوريا، وفق مبدأ “المناطق المنخفضة التصعيد”، الذي تم التوافق عليه بين دول تحالف أستانا.
والمؤسف، سياسياً وأخلاقياً، أن هذه المرحلة اتسمت أيضاً بتوظيف تركيا للاجئين السوريين في سعيها إلى الضغط على أوروبا، لأسباب سياسية واقتصادية.
الآن، وفي عهد أردوغان الجديد، نحن إزاء مرحلة رابعة، وهي بدأت منذ أكثر من عام، وأتت ضمنها استعادة علاقة تركيا مع إسرائيل، ومع عديد من الدول العربية، وضمن ذلك أتت محاولة الانفتاح على سوريا، بعقد اجتماعات على مستوى وزيري الخارجية، ومسؤولين أمنيين، ولكنها لم تتوج حتى الآن بلقاء بين الرئيسين التركي والسوري.
تأسيساً على ما تقدم، ثمة أسئلة كثيرة تستحقها السياسة التركية، في الحقبة الأردوغانية، في تحولاتها، أو تقلباتها، إزاء الصراع السوري، لعل أهمها:
أولاً، ما هو الصحيح لتركيا، وللشعب السوري، هل الموقف الذي اتخذته تركيا في دعمها المعارضة السورية هو الصحيح، أم الموقف الحالي؟
ثانياً، هل دعم تركيا للمعارضة السورية، بالشكل الذي تم فيه، وضمنه التشجيع على عسكرتها، وأسلمتها، أفاد الحراكات الشعبية المطالبة بالتغيير أم أضر به؟
ثالثاً، ما المغزى من إقامة تحالف أستانة، ومساره التفاوضي (2017)، مع إيران وروسيا؟ وهل كان ذلك لمصلحة الشعب السوري؟ أو هل كان ذلك لمصلحة تركيا؟
رابعاً، ألم تسهم الطريقة التركية في التعامل مع الشعب الكردي بتعميق الجرح الكردي ـ العربي، بما أضر بوحدة الشعب السوري، وحتى بعلاقة تركيا بالأكراد في تركيا؟
على أي حال، من الصعب التكهن بطبيعة السياسات التي سينتهجها الرئيس أردوغان مستقبلاً، بناءً على ما شهدناه في التجربة الماضية، في تحولاتها وتقلباتها، سواء في ما يتعلق بسوريا، أو بغيرها، إقليمياً ودولياً، لا سيما في عالم بات يعج بالاضطرابات.
المصدر: النهار العربي