قراءة في رواية: حياة لا يملكها أحد

أحمد العربي

عن دار البلد السورية صدرت رواية حياة لا يملكها أحد للكاتبة  لينا رضا ابنة مدينة السويداء، والتي من خلالها تعيد تداول اعتقاداتات و أفكار وأنماط حياة مجتمعية متنوعة ومتمايزة في سوريا.

تعتمد الرواية طريقة السرد على لسان الراوي المتتبع مسارات الرواية، كما  تعتمد الكاتبة تقسيم الرواية إلى مقاطع تتابع الحدث الروائي الذي يظهر منذ البداية وأنه يسير على خطين متوازيين يختلفان زمنيا ولا يتقاطعان واقعيا إلا في خواتيم الرواية حيث تتضح معالم الرواية ومقاصدها وتتبلور هويتها. تتابع الرواية السرد عن الحكايتين بتتالي مستمر، ونحن هنا سنعتمد سرد مسارات ومآلات الرواية على المسارين.

سلمى ابنة السويداء التي ولدت لعائلة درزية موحّدة، كان ذلك في أواسط ستينات القرن الماضي. تتوسع الرواية في الحديث عن  بصفتها الحاضنة الأكبر لمذهب الموحدين الدروز، تحدثت عن اعتقادهم الذي أخذ من مصادر مختلفة بدء من الإسلام الى الفلسفة الهندية واليونانية والصوفية المشرقية والغنوصية بحيث شكلت عبر مئات السنين معتقدات راسخة مثبتة في رسائل التوحيد المعتمدة بينهم كمرجع اعتقادي ديني مجتمعي.

 لا يغيب عن بالنا سرية وإخفاء هذه المعتقدات حتى عن الدرزي الموحدي الذي لم يأخذ دينه من رجال الدين الملقبين بالاجاويد. لذلك يبقى اي حديث عن عقائدهم يحتاج الى تدقيق وتثبيت. هذه المعتقدات التي ترى روح الإنسان خالدة اما جسده فإنه يفنى، لذلك تغادر الروح من جسد يموت الى  جسد يولد. وسمي هذا المعتقد التقمص.

في هذه البيئة ولدت سلمى وترعرعت عند عائلة أعطتها الكثير من الحب والاحتضان والاحترام، بحيث كان لها فرصة متابعة تعليمها المدرسي. في الوقت الذي كان الكثير من البنات يتركن دون تعليم حتى يتزوجن ويقمن بدرهم العائلي.

سلمى كبرت وسط رعاية الأهل والدها يحبها وكذلك والدتها. كانت تعيش تحت رعاية واهتمام عمها. الرجل الذي ولد درزيا لكنه لم يكن يسلم بالمعتقدات التي توارثوها دون بحث وتقصي ومعرفة مدققة. وهو كان بمثابة القدوة والنموذج لإبنة أخيه سلمى. التي بدأت في سنوات نضجها تعيش أحلاما تتكرر عليها كثيرا وكأنها جزء من حياة سابقة. كان ذلك غائما في وعيها وغير دقيق. كانت متشككة هل تعيش ذلك من التلقين الاجتماعي حول كونهم دروز يؤمنون بالتقمص وأنهم قد عاشوا حيوات سابقة أم أن ما تعيشه هو تجربة حقيقية لروحها في ألبستها الجسدية السابقة. كانت تلجأ لعمها كثيرا. وكان يناقشها بأن الاحتمالين قائمين. والمهم ان تتابعي ما تعيشينه بدقة و تعرفي إلى أين يؤدي بك ما ترينه.

سلمى تكبر وتتابع تعليمها وتدخل في تجربة أمنية قاسية حيث تعتقل لكونها شاركت في توزيع مناشير لحزب العمل الشيوعي المعارض وهي لم تصل للبكالوريا بعد. كان قد اعطاها اياها صديقها مروان الذي تعيش معه علاقة عاطفية ، كان الاعتقال لأسابيع لكنه ترك في نفسها جرحا قاسيا. امتهان الإنسان في المعتقل وتعذيبه. سمعت الكثير وشاهدت ايضا وهي تعرضت للتعذيب. لم تتوسع الكاتبة في الحديث عن النظام أو الجانب الأمني لأسباب مفهومة بالنسبة لنا فهي تتحدث وهي في سوريا والرواية صدرت في سوريا ايضا… لذلك كانت الإشارة الأمنية كافية ومعبّرة. عاتبت سلمى صديقها مروان. اعتذر منها ووعدها أن يتخلى عن العمل السياسي الذي سبب اعتقالها. لعلها تغفر له ما ورّطها به.

 بقيت سلمى تتبع ما يأتيها من رؤيا واحلام وتبحث عن امكانية ان تتحقق من صدق ما تراه وان تصل الى واقع حياة كانت عاشتها روحها في زمن سابق…

في مسار آخر نتابع مسار حياة لميا الفتاة الدمشقية و الزمن هو زمن الوحدة السورية المصرية. التي حصلت بين عامي ١٩٥٨ –  ١٩٦١ م. لميا فتاة تنتمي لعائلة دمشقية تعمل في مشغل يملكه تجار يهود. تربط عائلة لميا مع التجار علاقة جيدة تجعل عمل لميا معهم مؤمن من الجانب الأخلاقي والاجتماعي بالنسبة للأهل على الأقل. تطرح الرواية رسائل مختلفة عن الوحدة وعبد الناصر. والد لميا يحب عبد الناصر و يحتفظ بصورته الكبيرة في بيته. بينما هناك آخرون يرونه مستبدا واضرّ بالسوريين وخاصة بعد أن طرح قوانين الإصلاح الزراعي وتأميم بعض الملكيات الرأسمالية وكذلك ادعاء هيمنة المصريين في الدولة على السوريين. المهم لم يكن كل السوريين متوافقين على الوحدة ولم يكن موقفهم واحد منها.

لميا دخلت أجواء العمل عند الخواجا ابراهام وكذلك داوود التجران اليهوديان. ومن خلال العمل عندهم اطلعت على كتبهم الدينية. ودخلت أحد الكُنس (بيت الدين عند اليهود) واذهلت من فنية مشغولاتها المتميزة ودقة صنعتها. وتعرفت ضمن شروط عملها على يوسف ابن صاحب العمل الذي احبها. لكنها أحبّت صديقه يعقوب اليهودي ايضا.

ومع تتالي الأيام والعشرة بين لميا ويعقوب وتبادلهم الاعتراف بحبهم لبعضهم البعض. واستغلال ظروف العمل وحصول علاقة جسدية كاملة بينهما، أدت بعد عدة أشهر لأن تحمل لميا جراء علاقتها الجنسية مع يعقوب. وكان ذلك كارثة حقيقية على حياتها. ادركت انها لا بد مقتولة من قبل أهلها وعمها الذي لم يكن يرغب بعملها. وحتى أولاده الكثر الذين لم يكونوا راضين عن عملها ايضا.

فكرت لميا ويعقوب ويوسف وصديقهم عايد ابن الشمال الشرقي لسوريا كان ابن اقطاعي وله مداخله وواسطته مع رجال الشرطة والمتنفذين من الدولة. يعتمد على الرشوة ويحل كل أعماله بأحسن حال. قدم لهم صديقهم أن الحل الأمثل هو الهروب الى العراق. الذي كان وقتها قد استن قانونا يسمح بالتزاوج بين أصحاب الديانات المختلفة، وهكذا يمكن للميا ويعقوب أن يعقدا قرانهما هناك. ويهربا من انتقام اقله القتل له ولها.

ساعد والد يعقوب ابنه بالمال اللازم ليبدأ حياة جديدة بعد أن وبّخه كثيرا. كما أخبرت لميا اختها فقط عن حكايتها انها ستهرب مع حبيبها. وان لا تخبر احدا. كما اهتم صديقه ابن الشمال بكل مستلزمات السفر بدء من دمشق حتى وصولهم الى مدينة الموصل في العراق. تزوجت لميا ويعقوب. واشتروا بيتا بالمال الذي جاء به يعقوب وعمل بخبرته السابقة وأسسا حياة مقبولة.

لم يقبل أهل لميا ما حصل مع ابنتهم واعتبروه عارا لن يغسله الا قتل لميا ويعقوب حيث يصلوا إليهم. بحثوا كثيرا ولم يتمكنوا من معرفة مكان ذهابهم وتبين وكأن لميا ويعقوب اصبحا في مأمن من مطاردة أهل لميا لهم… الى حين طبعا.

أنجبت لميا طفلا كان تعويضا لهما عن كل ما عاشه من مآسي. كبر الطفل وتغيرت أحوال سوريا بعد سنوات سقطت الوحدة ، نجح الانفصاليون ثم جاء الانقلابيون الى سوريا بحكم العسكر والبعث. وكذلك واقع العراق الذي تغير وبدأ العسكر يهيمن على الدولة والمجتمع. انعكس ذلك على حياة لميا ويعقوب الذي طرد من عمله لكونه يهودي. وهذا بالطبع له علاقة بدور اليهود في فلسطين وولادة الكيان الصهيوني وطرد الفلسطينيين والحروب بينها وبين العرب. ( وهذا ما لم تمر عليه الرواية).

لم تستطع لميا وزوجها يعقوب العيش دون عمل انتهى وفرهم. لذلك كان لا بد من تعمل لميا طالما أن يعقوب ممنوع من العمل. بحثت عن عمل ووجدته. في معمل خياطة، وهناك وضعها صاحب العمل هدفا حنسيا له. حاول استدراجها لكنها صدته. ولم يتركها وجاءها مرة عند نهاية العمل كان مخمورا واغتصبها عنوة. كادت لميا ان تجن. مرّت في حالة انهيار عصبي. لا تعرف ماذا تفعل هل تخبر زوجها مع خطورة ذلك على حياتهم جميعا ؟. ام تصمت . فكّرت بإبنها و قررت الصمت . عادت للعمل عندما شفيت من انهيارها. اعتذر منها صاحب العمل وقرر مساعدتها ماديا ولو بشكل سري.

حصل حمل جديد عند لميا، هل من زوجها ام من رب عملها بعد الاغتصاب. ولدت طفلة هذه الطفلة قيل إنها تشبه رب العمل. جاء من يحسد لميا وزوجها ويغار منهما، أنها مسؤولة العمل التي تحدثت ليعقوب الزوج عما حصل من اغتصاب زوجته و أوغرت صدره وحدثته عن  الطفلة وأنها ليست ابنته بل ابنة رب العمل، لأنها تشبهه كثيرا. كاد يجن ايضا لكن لا حل أمامه، إلا أن يفكر بالذهاب الى (اسرائيل) لكن لميا رفضت ان تذهب الى هناك وقالت له: بل تذهب لوحدك…

لكن يد القدر كانت تقود حياة لميا ويعقوب باتجاه آخر. كانت تجلس وولديها جوار النهر تشكوا له همها. حيث وجدت هناك مصابة بخاصرتها وهي ميته بجوارها طفلاها… هل قُتلت من قبل اخوتها ؟، ام زوجها ؟، ام احد اخر ؟، ام ان هناك سببا آخر…؟. تركت الرواية سبب موتها مفتوحا لكل الاحتمالات…

 كان ذلك سنة ١٩٦٥م. وبعد ذلك غادر يعقوب وابنه الى الكيان الصهيوني . جاء صديقهم عايد ابن الشمال السوري ووجد الطفلة أخذها وتبناها وجعلها قرة عينه.

في ذات يوم موت لميا ولدت سلمى في السويداء. هاهي روح لميا تجد قميصها الجديد انه سلمى، هكذا اعتقدت سلمى بعد تقصي ومتابعة رؤاها…

لقد تابعت ما تراه في مناماتها الأشبه بالرؤيا. لقد اكتشفت انها كانت في دمشق ذهبت الى هناك مرارا وإلى المسجد الأموي أيضا. تتبعت حدْثها وتجولت في حارات دمشق القديمة حيث كانت تعيش لميا سابقا. واكتشفت رويدا رويدا معالم حياتها السابقة. ووصلت اخيرا الى بيت يوسف صديق لميا ومن كان يحبها، طرقت الباب ووجدته أمامها. استقبلها وحدثته عن رؤياها وما عاشته سابقا، تجولت في البيت وفي الكنس. وحدثها عن كل ما لم تعرفه من حياتها السابقة هي عندما كانت روحها في لميا وهو حبيبها وزوجها يعقوب . وانها الفتاة التي كان يحبها في حياتها السابقة كانت تلك تتمة المعجزة ، إن كان في الموضوع معجزة ،وعادت سلمى الى ذاتها السابقة التي كانت تعيشها كل الوقت…

غادرت سلمى بيت يوسف وهي ممتلئة بما عرفت حاولت العودة لتعيش حياتها المباشرة قبل البحث عن قميص آخر سابق…

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

اننا امام رواية مشغولة بشفافية وتقنية لغوية شيقة شفافة ومؤثرة، بحيث تجعل النص آسرا لمتابعه. وقد تنتهي قراءة الرواية بجلسة واحدة.

كذلك موضوع الرواية مهم فهي ترفع الستر بمقدار وان كان متواضع عن اعتقادات عند اخوتنا الدروز الموحدين. مزيد من المعرفة تنير العقل وتدفع للوعي ومن ثم الإنصاف.

 وتوضح الرواية ضمنا أن الدروز غير متوحدين في رؤاهم ومواقفهم الاعتقادية، كما هو حال كل المذاهب الإسلامية. هناك المذهب السائد الذي يحمله ويتابعه العقّال الاجاويد وهناك الذين ينكرون كل ذلك وهناك من يأخذ بالفلسفات الشرقية الهندية مثل الراحل كمال جنبلاط، وهناك من يغادر الاعتقاد كاملا…

تظهر الرواية وكأنها اطروحة تثبت ما تريد طرحه عبر التجربة حول موضوع التقمص. ومع ذلك يبقى الموضوع قابل للأخذ والرد. فلا مجال للوصول لليقين حول ذلك بالمطلق.

رغم حشد الكاتبة لكثير من التأكيدات بما فيها دراسات قالت إنها علمية حول ذلك…

 بكل الأحوال ما يهمنا حياتنا التي نعيشها ومسؤوليتنا عنها نعرف ما يجب أن نفعله ونفعله بمسؤولية كاملة أمام ضميرنا وكيفما كان اعتقادنا به. المهم ان نسقط اي اعتقاد جبري يقبل ظلم الظالم على أنه قدر وخطأ المخطئ وكأن لا مسؤولية له عنه…

وما يريح اننا اصبحنا في عصر أصبح اعتقاد الانسان ملكه الذاتي، المهم احترام انسانية الآخرين في مجتمعنا وفي العالم وصون حقوقهم، وأن نقوم بواجباتنا، وأن يكون الصالح العام هدفنا، والعدالة ميزاننا، وكرامة الإنسان وحقوقه أصل كل ما نعيشه في الحياة. وان تصان حياتنا وحريتنا كل الوقت …والحديث يطول…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى