قراءة في رواية: الشاعر وجامع الهوامش

أحمد العربي

 فواز حداد، روائي سوري متميز، كتب عبر عقود عن سورية وما حولها وتفاعلاتها الاجتماعية والسياسية ، ومع دول الجوار والعالم، في أعمال روائية متتالية، تكاد تكون توثيقا لسورية الثقافية والمجتمع عموما، وفي تاريخها الحديث.

الشاعر وجامع الهوامش، رواية عن سورية و ثورتها بعد مضي حوالي الأربع سنوات على انطلاقتها التي كانت في ٢٠١١ م.

مأمون شاعر دمشقي، بدأ حياته في الكتابة الشعرية، كتابة محملة بالمشاعر الوطنية، ومليئة بالعواطف والحب، عايش الواقع السوري ومتغيراته كلها، أدرك أن السلطة السياسية في سوريا، مستبدة ومسيطرة على كل جوانب الحياة السورية، وأن رأس النظام الأسد الأب وبعده ابنه، يهيمنون على سورية بالمطلق، وان الجيش والأمن أدوات السيطرة، وأدرك لعبة النظام من خلال رفع الشعارات القومية، وممارسة هيمنة الطائفة العلوية على الدولة والمجتمع، بغض النظر عن المظلومية التي تطال بعضها ممن يعيشون في القعر  الاجتماعي أو القرى الساحلية النائية، فهم مأمون العنف القاسي الذي مارسه النظام في ثمانينات القرن الماضي، وعشرات آلاف القتلى والمعتقلين، أدرك أن النظام مستعد أن يقتل نصف الشعب السوري ليستمر بالحكم ويحقق مصالحه، لذلك كان مأمون حذرا في أشعاره ، يكتب مواربة ولا يهاجم النظام ابدا. تحول مأمون من الكتابة الشعرية إلى كتابة المقال الصحفي والرأي، ولو أنه كرّس كشاعر، وأخذ ينشر في الصحف المحلية، كان مرضيا عن حياديته  المدّعاة، النظام يحتاج لمن يظهر أنه لا يطبل ويزمر له احيانا، وسرعان ما أخذ ينشر في الدوريات العربية وأصبح له اسما. في أحداث الربيع السوري الذي بدأ في ٢٠١١، أخذ مأمون موقفا حياديا متحفظا بالعلن، وأن كان بالعمق ينتصر لمطالب الناس بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، ويدرك أن النظام لن يستسلم للمطالب، ويواجه المتظاهرين بالقتل، وهكذا حصل، وعبر السنوات الأربع وما يزيد التي مرت، تأكد أن النظام أخذ خيار استعمال القوة لإنهاء ثورة الشعب السوري، هناك ما يزيد عن ٤٠٠ ألف شهيد ومثلهم مصابين وملايين تشردوا داخل سورية وخارجها، الثوار اخذوا المنحى العنفي وتسلحوا، لم يعد أمامهم أي فرصة للتظاهر السلمي، ترنّح النظام في بداية الثورة وكاد يسقط، لكنه أعاد النهوض واستنجد بالروس والايرانيين الميليشيا الطائفية، حزب الله وغيره، وتبين أن هناك قرار دولي باستمرار النظام، أصبح الشعب السوري في حالة صراع اهلي، النظام ومعه أغلب الطائفة العلوية وصمت الأقليات الدينية والمذهبية، وأغلب المكون السني كان الضحية، حصل شق عمودي في بنية المجتمع السوري، مئات آلاف القتلى من الطرفين، وأصبحت مقولة الشعب السوري الواحد تحتاج لمراجعة، السوريون يقتلون بعضهم. مأمون كان على علاقة مع ناشطين من الثوار، حسين صديقة العلوي الناشط الميداني الصحفي، الذي أختار الانتماء للثورة وكذلك محمد ، كانا على تواصل مع الثوار، وكان يتابع مأمون تطورات الوضع الميداني عبرهم. شذى حبيبة مأمون تنتمي للطائفة المسيحية، متزوجة تحاول الطلاق من زوجها، والزواج من مأمون، تعيش مع مأمون وتنتمي للثورة السورية، اختفت منذ فترة قصيرة، وهو يبحث عنها.

 أستدعي مأمون لأحد المراكز الأمنية ، خاف على نفسه، الأمن والجيش استباحوا حياة الناس، القتل والاعتقال والتعذيب، كلها ممارسات يومية، يعرفها  كل السوريين، ذهب إليهم، استقبله مدير الإدارة خالد، عرفه على الإدارة وأنها مسؤولة عن التفكير الاستراتيجي والتخطيط للنظام، وانهم اختاروا مأمون منذ فترة طويلة ليكون أحد أتباعهم وأن يقوم بالأدوار المطلوبة منه، حدثه عن تاريخه كاملا، وأنهم كانوا وراء نجاحه وصعودة وتأمين اسمه، وأنهم يحتاجون له الآن في مهمة محددة ، دقيقة وسرية، أخبره أنهم في السلطة وعبر دوائرها العليا يعرفون كل شيء يحصل في سورية، ويضعونه وفق خططهم، وأنهم يدركون الشرخ المجتمعي الحاصل، وكيف قرر النظام اللجوء للسلاح لقمع الثورة وقتل الشعب وتشريده، وان النظام  ومن خلال  التوافقات الدولية والاقليمية، مستمر إلى الأبد وما بعد الأبد، وأنهم مدركين حجم الضرر الذي أصاب الحاضنة الشعبية للنظام من الطائفة العلوية، فكل بيت فيه قتيل أو جريح، وانهم بدؤوا بالتململ،  وظهرت بينهم بعض الدعوات الدينية، التي يجب معرفتها و محاصرتها، وإبعاد ضررها عن النظام الذي يعتبر حاضنته الشعبية العلوية خطا أحمر، المطلوب من مأمون الذهاب مع وفد من الشعراء إلى بلدة مغربال ذات الأغلبية العلوية والاستقرار هناك ومتابعة الحالة هناك عن كثب، والتواصل مع الإدارة عبر رئيسها خالد، وملاحقة التطورات أول باول. ذهب مأمون بصحبة مجموعة شعراء إلى البلدة، عايش تقطيع أوصال سورية، بين مناطق النظام، ومناطق الجيش الحر، ومناطق سيطرة الجماعات الاسلامية التي فرخت لاحقا داعش والنصرة، شاهد القتلى المرميين في الشوارع، والمعلقين على البنايات المدمرة والمهدمة، كاد يقتل مع الشعراء الذين معه على يد الشبيحة الذين استعان بهم النظام في صراعه ضد الشعب السوري، الجيش والمخابرات الميليشيا الطائفية الشبيحة كلهم يستبيحون دم السوريين، ظهر الخطف والفدية والقتل العبثي، صار كل شيء مباح، ظهرت عصابات الإجرام التي تعمل لحسابها، خطفا وقتلا واغتصابا. وصل مأمون إلى مغربال وعرف واقع المشكلة التي جاء لمتابعتها، هناك مجموعة من الضباط المتقاعدين على رأسهم لواء، قرروا أن يقوموا بعملية إصلاح ديني في الطائفة العلوية، فما حصل ويحصل معهم، من قتلى ومصابين أثّر على توازنها النفسي والاجتماعي، صحيح أن النظام نظامهم، لكن الثمن الذي يقدمونه غال جدا، فلا يمر يوم إلا وتأتي القرى والبلدات العلوية مواكب قتلاهم، وأنهم لا يتقبلون ان يقتلوا، يريدون نظاما يستفيدون منه ولا يكون سببا لقتلهم. دعوة اللواء وجدت من يتبناها من الضباط و المساعدين المتقاعدين، ووجدت من يختلف معها ومع طروحاتها التصحيحية الدينية ، أنهم فئة الشباب وعلى رأسهم كريم شاب مثقف، اللواء ينطلق من ذات المنظومة الدينية عند العلويين، بجانبها المعلن والمخفي، مع إعطاء الجانب الغيبي حجما يجعل الناس يتقبلون ما يحصل معهم، أما كريم فقد أراد تجديدا يواكب العصر والعلم، متحررا  من كثير من رواسب الدين عند العلويين، فما يعتقدونه، أقرب للمسيحية في موضوع تجسيد الله في علي ابن ابي طالب ومن بعده من أئمّة، و عقائد التقمص والتناسخ والتفاسخ والمسخ… الخ، المأخوذ أغلبها من عقائد الشرق الهندي والفارسي، كلها عند كريم وفئة الشباب عقائد سقطت بالعلم وتقدم المعرفة الإنسانية والوعي الكوني، خاف خالد والإدارة من ان ينعكس الخلاف بين الضباط والشباب على التماسك الطائفي العلوي، لذلك كان يدير الخلاف ويوجهه عبر مأمون، الذي حظي بصلاحيات مطلقة، حيث أبلغ العميد رئيس فرع المخابرات هناك، بتسهيل مهمة مأمون وعدم التدخل بها، امتثل  العميد للأمر، لكنه استمر يتابعه بدقة، مأمون كان قد عاش في هذه البلدة عندما كان مع أسرته في الماضي، حيث كان يعمل والده في مرفأ طرطوس، أراد التواصل مع مدرسه السابق أحمد، الذي زاره والتقى عنده بابنته التي كبرت واكتشف أنه يحبها، لكنها أحبت غيره طيارا من بلدتها، وتزوجا، وتوفي لاحقا في طلعة تدريبية في طائرته قبل الثورة، فكر بها ان تكون حبه البديل عن حب شذا خاصة بعد اختفائها وانقطاع أخبارها عنه، الأستاذ أحمد يعيش معاناة مزدوجة، ها هو يرى أجيال الشباب الذي علمهم يعودون قتلى إلى بلدانهم نتاج حرب عبثية بين أبناء الشعب السوري، تورث الحقد المجتمعي والطائفي، ولا منتصر فيها، والمستفيد منها الوحيد هو الأسرة الحاكمة وعصبتها المتحلقة حولها، الأستاذ يعجز عن ان يواجه إرادة السلطة التي اختارت الحرب حتى النهاية، لذلك قرر الركون في بيته ومتابعة التعزية بطلابه الذين يموتون تباعا، وفي البلدة أيضا الشيخ العلوي حامد، الذي تواصل معه مأمون والذي كان صريحا مع مأمون بالقول إن النظام قاد البلد إلى الخراب، والطائفة إلى الصراع والفناء، وأوضح أن العلوية لا تحتاج إلى ظاهر وباطن، هي من الاسلام، لكن هناك من له مصلحة بخلق اعتقادات باطنية، وإرادة اختلاف عن الاسلام، لكي يستمر الاختلاف المجتمعي ويبرر الصراع، ويستثمر دوما لصالح النظام. كانت الإدارة عبر خالد على تواصل دائم مع مأمون ، لم تقبل بالتصحيح الذي يقوده اللواء فهو تحريك عقائد تبعث على الاختلاف، في وقت هي الطائفة يأجوج ما تكون للوحدة والتماسك، واتباع إرادة النظام عن حب وطواعية، ولم تكن تقبل طروحات الشباب عن دين عصري لا علاقة له بالله والغيبيات، فكيف يكون للحاكم موقع الألوهية الذي رسخ للأسد الأب وبعده الابن. كان دور مأمون إدارة الصراع والتوافقات بين الأطراف، لكي تستمر مصلحة النظام واستمراره وهيمنة فوق أي اعتبار، ناقشوا مفهوم الله ووجوده، وتجسيده وتجلياته، استعان الضباط بالأستاذ سليمان المتعمق بالثقافة والأديان، ليحموا أنفسهم من سطوة الشباب المثقفين، قررت الإدارة أن يتحد الطرفان والاتفاق على حل مشترك، السلطة والطائفة العلوية لا تحتمل الاختلاف في الطائفة ، ناقشوا المفاهيم الغيبية، ومفهوم الإله، وأكدوا أن النظام هو إله هذا العصر، وأن الأسد الأب وبعده ابنه هو تجسيد لهذا الاله، وأن ذلك يجب أن يعاش فعلا، بغض النظر عن التصريح به علنا، كان لا بد ان يضحي بالعديد ممن وقف في وجه السلطة، رئيس فرع الأمن هناك قتل بإعدام ميداني، عندما فكر أن يعدم مأمون والأستاذ احمد والشيخ حامد تحت دعوى أنهم عملاء السنة بين العلويين، كان خطأ قاتلا أودى بحياته، وكذلك قتل تحت أنقاض الكتب الأستاذ اسماعيل المستشار، عندما أراد أن يستخدم مفهوم الله لمجده الشخصي، قتل لأنه ممنوع أن يكون هناك إلا إله واحد هو النظام.

في مستوى آخر تابع مأمون أخبار حبيبته المختفية شذا، ليعلم من الإدارة انها عادت لزوجها وأنها كانت تتسلى  معه ولم تكن تحبه، اصر خالد على القول له إن هناك استحالة ان يوجد حب بين المختلفين دينيا، فما بالك ان يستمر، كان لا بد من قطع كل روابط مأمون مع ماض يحس به بانسانيته، كان خالد والإدارة بحاجة لمأمون منتميا بالمطلق للنظام لتنفيذ المهام الموكلة له. استمرت تصل لمأمون رسائل من حسين ومحمد عن أوضاع الثورة، والمناطق المحررة، وما يفعل النظام ، فقد علم عن التطورات على الطرف الآخر، فما زال الناس في المناطق المحررة، ضحايا البراميل المتفجرة والمفخخات والقنص والقتل العشوائي، الحصار والتجويع  والتشريد والهروب من الموت، وما زال الشباب موزعين بين جيش حر أو النصرة أو داعش، والكل متصارع، وكيف تتصرف داعش  مع المختلف بأسوأ مما يفعل النظام، حسين ومحمد يوثقوا أفعال النظام، لاحقوا موضوع الاغتصاب المعتمد كسياسة عند الجيش والأمن والشبيحة، وكذلك قتل الأطفال والنساء، وتابعوا اغتصاب الرجال والأطفال، من باب الإذلال والدفع للاعتراف في التحقيق، كل صنوف التعذيب والقتل مورست، لم يستطع الاستمرار حسين بدوره، لقد قبض عليه وقتل وأرسل لبلاده ودفن هناك كمجرم في جنح الظلام.

تنتهي الرواية عندما يتم إنهاء ظاهرة التجديد الديني في مغربال، قتل المستشار، وتراجع اللواء عن طروحاته الدينية خوفا وتقية، وحول كريم زعيم الشباب المثقف إلى الإدارة للاستفادة من مواهبه، وانتهت مهمة مأمون وحول إلى الإدارة في دمشق.

في تحليل الرواية نقول: نحن أمام إطلالة مختلفة على الواقع المعاش الآن في سورية، ليس بصفته متابعة ليوميات القتل اليومي، ولا للاحتلالات المتعددة لسورية من روسيا وايران وامريكا والميليشيات الطائفية، ولا التقسيم الواقعي لسورية، الذي يظهر واقع الحياة المريرة ، الشهداء بمئات الآلاف والمشردين بالملايين داخلا وخارجا، خلفية للرواية، ما يعيش الناس من مأساة لم يتم تتحدث عنها الرواية، هي في العمق تحس وتدرك دون اخبار.

 الرواية تنصب على السلطة بصفتها الحاكم المطلق المسيطر في سورية او ما تبقى منها له، السلطة بصفتها علوية كما تدعي او كما هي تستثمر ذاتها، السلطة بصفتها عائلة وحاكم مطلق فرد مؤلّه، السلطة التي تريد أن تحمي نفسها في بيتها الداخلي، في بلداتهم، وفي معتقداتهم، اصرارا على استمرار استعبادهم من السلطة الجهنمية، الموت مضمون في عرينها، وبعض المكتسبات محتملة، وكل حسب موقعه قربا أو بعدا من رأس السلطة وعصبته. الرواية تطل على العقائد عند العلويين، و تحاول التكلم عن المسكوت عنه في ما يعتقدون، رواية غاصت كثيرا في هذه المعتقدات وركزت كثيرا على إصرار النظام ان يعلن أنه أله العصر وأن تجسيد الألوهية عبر رأس النظام نفسه.

.مؤلم ان نكون ضحية هكذا سلطة وهكذا واقع، ولكن ألسنا مازلنا ضحايا هذه السلطة المستبدة القاتلة؟. نعم…هناك ما يزيد عن مليون شهيد ومئات آلاف الجرحى والمصابين والمعتقلين، ملايين المشردين، سورية المدمرة أغلبها خير شاهد على إجرام هذا النظام.

 ليس غريبا أن يدعي الألوهية والعالم كله أما مبارك ما فعل ويفعل، أو صامت عنه.

أن واقع سورية وشعبها عار يجلل العالم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى