فصول من كتاب ” الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985″ الحلقة الثانية والثلاثون

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

الحلقة الرابعة: الإخوان المسلمون في سوريا 3/3

 

المواقف الفكرية والسياسية

 لا يخرج الموقف الفكري للجماعة كثيرا عن موقفها واجتهاداتها التي رسمها المرشد العام الشيخ “حسن البنا”، هذه المواقف التي تقوم على ضرورة بعث الإسلام باعتباره رسالة كلية تشمل الدين والدنيا، وأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، بما يحمله من قوة روحية شاحنة، ومن آليه استنباطية قادرة على التطور.

لكن الاخوان في سوريا كانوا ـ في المرحلة الأولى ـ أكثر تسامحاً من إخوانهم في مصر، وأكثر تفاعلاً مع الحياة السياسية، وأكثر تفهما للقضيتين القومية والاجتماعية، فرغم تزمت الكثير من عناصرهم وقياداتهم ، وتبنيهم مقولة” الإسلام ضد الرأسمالية والاشتراكية”، إلا أن هذا لم يمنع قادتهم ـ أو بعض قادتهم ـ من التعاطي مع المسألة القومية والاشتراكية بتسامح ونضج ملموس، فقد كانت الأحاديث عن الأمة العربية شائعة على ألسنتهم وكتاباتهم، /1، كما شكل مراقبهم العام الشيخ مصطفى السباعي وبشكل مبكر كتلة برلمانية في مجلس النواب السوري أطلق عليها اسم ” الكتلة الاشتراكية ـ الإسلامية”، وألف لاحقا كتابا أسماه ” اشتراكية الإسلام”، وفيه تعاطى مع المسائل الاجتماعية والاقتصادية من منظور ” روحي ـ اقتصادي”، منطلقا من مبادئ العدل السماوي، ومؤكدا أن اشتراكية الإسلام أعمق من أي اشتراكية أخرى، ويقول السباعي في مقدمة كتابه المذكور “إن هذه القوانين والمبادئ التي تنظمها اشتراكية الإسلام أساس صالح متين لإقامة مجتمع اشتراكي في بلادنا تتجاوب الأمة في مشاعرها وعقائدها مع قوانينه ونظمه، وفي ذلك تعجيل  بتطوير مجتمعنا إلى المستوى الذي تنشده نهضتنا العتيدة، واختصار من الجهود التي تبذل لإقناع الشعب  بتقبل نظم الحياة الاشتراكية الجديدة على غير هذا السبيل، إن الشعب أكثر استعدادا لتقبل المبادئ التي تنظمها اشتراكية الإسلام/2.

وكان الأستاذ محمد يحيى الهاشمي، وهو أحد الكوادر الرئيسية في الجماعة قد تحدث أيضا عن الاشتراكية في الإسلام، في محاضرة ألقاها تحت عنوان ” الأمة العربية والمثل الأعلى” قائلا: “في القرآن اشتراكية، ولكنها لا تقوم على أساس من حرب رأس المال، ونضال الطوائف، شأن الاشتراكية الغربية، وإنما تقوم على أساس خلقي سام يكمل إخاء الطوائف وتكافلها وتعاونها على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، فهذه الاشتراكية ليست اشتراكية المال وتوزيعه، وإنما هي اشتراكية عامة أساسها الإخاء في الحياة الروحية، والخلقية، والاقتصادية”/ 3.

وإذا عدنا إلى الأستاذ السباعي فإننا نراه يحدد مبادئ الشريعة الإسلامية التي يدعو إليها فيقول: ” إنها تقوم على مبادئ ثلاثة رئيسية:

أولا: تحقيق مصالح الناس في كل ما يحتاجون إليه، ولا تضيق الشريعة بمصلحة للمجتمع يقر العقلاء والدراسون الشرعيون والاجتماعيون أنها مصلحة.

ثانيا: تحقيق العدالة بين الناس إذا تعارضت مصالحهم، مهما كلفت من غرم لبعض الناس.

ثالثا: تحقيق التطور الاجتماعي الصالح للمجتمع، فلا يقف الإسلام في وجه تطورها في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية، إذا كان هذا التطور نتيجة محتمة لتطور الفكر أو العلم أو ضرورات الحياة/4

ولا يكتفي السباعي بذلك ، بل هو يطرح تفسيرات كثيرة عن نظرية اشتراكية الإسلام، ويتعرض للتأميم ، ونزع الملكية الزراعية، وقيمة العمل، ومبادئ التكافل الاجتماعي، فيقول عن العمل” إنه أهم وسائل التملك، ويتحدث عن التأميم  قائلا: ” إن كل ما كان ضروريا للناس من  طعام أو شراب أو غيره يأخذ ذلك الحكم، وهو ” جواز التأميم، من الناحية الشرعية”/5، ويتابع قائلا: وخلاصة القول إن التأميم وقع في الإسلام تشريعا كما الوقف، ووقع في الإسلام عملا كما في الحمى،  وإن نزع الملكية رغما عن صاحبها وقع من الرسول قضاء كما في قضية سمرة بن جندب، فإذا كانت المصلحة تحتم التأميم، وفيه دفع الظلم والضرر عن الناس، أو عن فئة كبيرة منهم  كان التأميم واجبا في تلك الحالات”/6.

وعن تحديد الملكية الزراعية يقول: “المهم عندنا أن التحديد إذا اقتضته مصلحة الأمة كان جائزا، بل واجبا، وله شواهد في الفقه الإسلامي، وسوابق تشبهه في تاريخ الحكم الإسلامي، ومن اعترض على ذلك بظواهر نصوص الشريعة القاضية بأن للإنسان أن يملك ما يشاء من الأراضي، فجوابنا عليه  ما قدمنا من بحث التأميم، من أن هذا الحق ليس مطلقا، بل هو مقيد بمصلحة الجماعة، وليس في الإسلام حق لا يخضع لمصلحة الجماعة، ومن أنكر هذا فقد اساء الفهم للإسلام، وصد عنه من حيث لا يريد، ولهذا كله نحن نرى أن تحديد الملكية الزراعية بقانون كقانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في مصر أولا، ثم في إقليمنا الشمالي ثانيا أمر تجيزه مبادئ التشريع الإسلامي/7.

كما أكد قادة الجماعة على دور العرب في الإسلام، وتحدثوا عن القضية الوطنية بحماس كبير، لكن القضية القومية والاشتراكية بقيتا بالنسبة للجماعة جزءا من كل هو المسألة الروحية الإسلامية الشمولية، لكن هذه المفاهيم الفكرية سرعان ما انزوت مع اضمحلال دور الشيخ السباعي، ثم وفاته فيما بعد، لتنتظم ضمن الخط العام الذي جسده سيد قطب وتلاميذه/8

في المسألة السياسية، أعلنت الجماعة في ظل قيادة السباعي تأييدها لسياسة الحياد الإيجابي، وطالبت على لسان مراقبها العام في نهاية الخمسينيات باتباع سياسة عدم الانحياز، وفي هذا يعلق السباعي في أحد مواقفه الشهيرة بمجلس النواب ” إننا نعلن بوضوح أن علاقاتنا مع الدول الكبرى يجب أن تكون على قدم المساواة، لا أن نفضل دولة على أخرى، وإذا أردنا أن نعطي فلنأخذ أكثر منه، وإذا أردنا أن نتعاون فلنكن متعاونين مع الجبهة التي تخلص في صدقتنا، وتتمنى الخير لبلادنا، فإذا لم تكن هناك دولة من تلك الدول الكبرى تريد لنا الخير فلنكن حذرين من غدر الذئاب، وتزاحم اللصوص، أما أن ننحاز إلى ذئب دون ذئب، ونحن كالحمل الوديع فليس معناه إلا أن نكون طعمة سائغة لمن اعتادوا أكل الحملان الوادعة المسالمة”.

كما وقف السباعي بشدة ضد سياسة الأحلاف التي اشتدت معركتها في سوريا في أواسط الخمسينات، وطالب بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي مفرقا بين الشيوعية المحلية التي استمر في معاداتها، وبين الاتحاد السوفياتي الدولة العظمى التي تلتقي مصالحها مع مصلحة الأمة العربية، وشن حملة واسعة ضد المعسكر الغربي، ورفض أي تعاون معه بحجة العداء المشترك للشيوعية التي أطلقها الغرب”.

لكن السياسة والمواقف التي رسمها السباعي لم تمر بشكل سهل في صفوف الجماعة، فقد تعرضت لانتقادات حادة من العديد من كوادر الجماعة وقياداتها، وتعرض خطه لحملة عنيفة من مؤتمر الحزب الذي عقد بشكل سري سنة 1960، حتى أن الكثيرين من قادة الجماعة قاطعوا السباعي شخصيا، فقضى أيامه الأخيرة في شبه عزلة بسبب المرض من جهة، وبسبب مقاطعة إخوانه من جهة أخرى. وبقي الخط الذي طرحه السباعي دون رصيد لدى الإخوان، بينما أخذت الأفكار المتعصبة تعلو وتسود لدى كوادر الجماعة وقواعدها، فارتفعت مفاهيم “الحاكمية لله” والتي فسرت بأن السلطة لله وحده، ولا علاقة للأمة بها/ 9، وأخذت أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي تسيطر على تفكير الجماعة، وأخذ ينظر إلى المسلمين من غير الإخوان على أنهم مرتدون، وأن المجتمع الإسلامي الحالي مجتمع جاهلي، وحلت سياسة العنف والإرهاب بديلا عن سياسة التسامح، وأحل سفك دماء المسلمين / 10

ورفض الإخوان في أثناء تحركهم للاستيلاء على السلطة التحالف مع أي قوة سياسية  معارضة حتى أنهم أصدروا منشورا حول أحداث شباط / فبراير 1980 يتضمن عبارات قاسية ضد القوى السياسية التقدمية التي دعت لتأييد الانتفاضة وراء شعارات الديموقراطية، / 11، ولم يقبلوا بالتحالف مع القوى السياسية الأخرى إلا بعد فشل مخططهم للاستيلاء على الحكم عام 1982، وبضغوط من النظام العراقي كما مر ذكره، وانطلقوا في رفضهم للتحالف من قاعدة راسخة لديهم باعتبار أنهم ” حزب الله”، أما غيرهم  فهم ” أحزاب الطاغوت”، وألا لقاء بين حزب الله وأحزاب الطاغوت.

أما قضية العداء للغرب فقد خفت حدتها كثيرا، وخاصة أن المانيا الغربية قدمت الكثير لعناصر الاخوان الهاربين من بلادهم، كما وضع نظام الأردن المحسوب على الغرب كل إمكاناته تحت تصرفهم.

وبشأن مسائل الصراع العربي الصهيوني فقد كان ملاحظا خلو البيانات العديد التي وزعتها الجماعة من الحديث الواضح عن هذه القضية التي كانت في هذا الوقت بالذات تمر بمنعطفات كثيرة وحاسمة وخاصة اتفاقات التسوية الاستسلامية.

وبشكل عام نستطيع أن نجزم أن فرع الإخوان المسلمين عاد لينسجم تماما مع المواقف العامة للجماعة، وأن يخضع بشكل تام لتوجيهات مكتب الإرشاد الذي تهيمن عليه الجماعة في مصر المتمثلة والمتشبعة بأفكار سيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، وغيرهما من المتشددين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ وجاء في خطاب ألقاه الشيخ مصطفى السباعي في مجلس النواب السوري عام 1950 ما يلي” ونحن السوريين دعاة وحدة عربية، ونعتبر أنفسنا جزءا من الأمة العربية، ووطننا سوريا جزءا من الوطن العربي الكبير”، وقال أيضا” لكن العرب لم يجدوا في الإسلام دينا غريبا عنهم، بل هم يؤمنون بأن قوميتهم العربية لم تولد إلا في أحضان الإسلام، ولولاه لما كانت ذات وجود حي قائم”. نصا المنشور ص 113ـ 114، مجلة حضارة الإسلام، العدد الخاص بمناسبة وفاة الدكتور السباعي.

2ـ مصطفى السباعي ـ كتاب اشتراكية الإسلام ص 13طبعة الدار القومية للطباعة والنشر

3ـ يحيى الهاشمي كتاب الامة العربية والمثل الأعلى ص 28 طبعة حلب 1943

4ـ السباعي المرجع السابق ص 247

5ـ المرجع السابق ص 101

6ـ المرجع السابق ص 103

7ـ ـ المرجع السابق ص107 ـ 108

8ـ ـ هذه التطورات سنقف عليها بالتفصيل في القسم التحليلي.

9ـ وفي هذا يقول د. مصطفى الرافعي في كتابه” الإسلام نظام انساني ص 46

**ليس لفرد، أو أسرة، أو حزب، أو لسائر المواطنين ـ حسب التعبير الحديث ـ في الدولة نصيب في وظيفة الحكم، لأن الحكم بنظر الإسلام هو الشرع أو بمعنى آخر … الله. أي أن السلطة الأولى الحقيقية من أولى خصائص المولى عز وجل، أما المواطنون أو ” عباد الله” حسب التعبير الإسلامي فلا يخرجون عن هذه التسمية كثيرا أو قليلا.

** القوانين كلها من مصدر واحد وهو ليس الشعب على أي حال، بل الله، والمسلمون جميعا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا يستطيعون أن يشرعوا قانونا، وليس يمكنهم أن يبدلوا شيئا مما شرعه الله لهم.

**كيان المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية قائم على دعامتين:

أـ الشريعة التي جاء بها رسول الله محمد من لدن الله، وهذه الشريعة لا تقبل التحريف ولا التبديل مهما تغيرت الظروف والأحوال.

ب ـ تنفيذ الشريعة بحدودها التي جاء بها رسول الله، مع ما فسره النبي، أو قام به من قول أو عمل، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الهيئة القائمة على التنفيذ وهي الدولة، لا تستحق طاعة الناس إلا من حيث إنها تحكم بما أنزل الله، وتنفذ أوامره في خلقه.

10ـ قال مهدي علوان ـ أحد كوادر الاخوان المسلمين ـ اثناء محاكمته عام 1980 بتهمة القيام بعمليات إرهابية لصالح جناح الطليعة المقاتلة وردا على سؤال رئيس المحكمة العسكرية الخاصة حول جواز قتل موظفي الدولة: ” يجوز قتل كل الناس الذين يخضعون لأنظمة غير الإسلام، ويساندونها مهما كان عددهم، ولو كانت نسبتهم الأغلبية”

11 ـ ورد في البيان المذكور عبارة” عودوا لجحوركم “بعد أن ادعى محرر البيان بأن الاخوان وحدهم أصحاب الانتفاضة، وعبارتهم هذه وجهت لقوى التجمع الوطني الديموقراطي والتنظيم الشعبي الناصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى