فواز حداد روائي سوري متميز، نستطيع القول -دون تحيز- انه واحد من اهم الاصوات الادبية التي تؤرخ لسورية في تاريخها المعاصر، عبر الرواية ومن خلال سلسلة روائية متتابعة، تستحضر الواقع السياسي والاجتماعي والانساني والقوى الفاعلة دوليا ومحليا، دون أن تؤثر على نسقها الروائي، بل تزيده اغناءً.
صورة الروائي، رواية مكتوبة بحرفية مبالغ بها، تتحدث عن روائيين يشرعان في كتابة روايتين تتحدثان عن فترة واحدة، إنها سورية في نهاية مرحلة الاستعمار الفرنسي، وما بعده حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، للروايتين البطل نفسه، وفي الروايتين فصول تتحدث عن معتقل وتحقيق، الروائيين لا يلتقيان بل يتبادلان النصوص عبر استاذهم المشترك وابنته هدى. للروائيين حياتهم وحياة الاستاذ والمرحلة التاريخية التي تمر بها سورية والقضية الفلسطينية وصولا لمصر عبر الوحدة والى المغرب بانقلابها الفاشل ١٩٧٠م والسودان بانقلاب الشيوعيين الفاشل على النميري. الرواية مكتوبة على شكل طبقات جيولوجية متراكمة على بعضها و متداخلة ايضا. يتبادل الروائيين الأدوار في قراءة حياتهم التي يعيشونها، نص رواية الاول س تكاد تكون رواية اللاجدوى واللامعنى والعدمية، مُتعب أن تتعقب تحقيق بلا معنى الا اجهاد المُحقق معه، واتعاب القارئ بالتساؤل ماذا بعد؟!. المحقق يعتقل بطل الرواية ويخبره بأن لا تهمة محددة موجهة له، فقط على سبيل الاحتراز، ثم ليحقق عن كونه ينجب اطفالا، والاطفال يشكلون عبئا اقتصاديا وحياتيا، ثم إن ذلك سببه الجنس بين الرجل وزوجته، ثم اعتبار ذلك جريمة يجب المحاسبة عليها، وعدم تكرار الجنس بين الرجل وزوجته، واعتقاله للبت في أمره، ثم إقرار السلطة انهم اخطأوا في اعتقاله واتهامه وان حقه أن يمارس الجنس، ثم استدعاء زوجته ليمارس حقه الجنسي معها، كل ذلك في ظروف غير سوية انسانيا. هذه فصول نص الرواية الاولى تكتب تباعا. كتبها الروائي س مناضل سابق تتلمذ على يد الاستاذ الذي يزوره مع الروائي الثاني الذي يظهر في الرواية ساردا للنص ومتكلما عن الكل. س تتلمذ على يد أستاذ من جيل الخمسينيات كان تتلمذ على يد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث، مسار الرواية الثانية غطى هذه المرحلة، الاستاذ متشبع بالافكار القومية عايش الوحدة بين مصر وسوريا ١٩٥٨م وقبلها العدوان الثلاثي على مصر ١٩٥٦م. وانتصار مصر عليهم، وتتويج عبد الناصر بطلا قوميا، وتطور الأحداث في سورية بعد الاستقلال، ونكبة هزيمة ١٩٤٨م أمام دولة إسرائيل الوليدة، انقلاب حسني الزعيم بعدها بسنة لمواجهة آثار العدوان والعمل لهزيمة اسرائيل مجددا. الانقلاب يسقط بانقلاب والحياة البرلمانية والحزبية تتوقف وتتعثر في سورية، يأتي أديب الشيشكلي ومن ثم تصبح سورية في خضم خطط الدول الكبرى للهيمنة على المنطقة، عبد الناصر وتأميم قناة السويس وهزيمة العدوان الثلاثي و الوحدة السورية المصرية، افتراق الأستاذ عن خط ميشيل عفلق بالموقف من الوحدة ومن ثم الانفصال ١٩٦٣م. ومن ثم الموقف من عبد الناصر والدعوة للوحدة مجددا، ميشيل عفلق اختلف مع عبد الناصر وكان ضد الوحدة بعد ذلك ومع الانفصال، اما الاستاذ فقد اصبح وجها ناصريا غادر حزب البعث العربي الاشتراكي نهائيا، الحزب الذي توحد فيه ميشيل عفلق مع اكرم الحوراني، والذي اصبح اقوى وقام مع بعض الضباط الناصريين بانقلاب آذار ١٩٦٣م ومن ثم سيطرة البعثيين على الحكم وإقصاء الناصريين، ثم إقصاء الضباط العسكر للقادة التاريخيين ميشيل عفلق والاخرين. الروائي س يشكّ ان استاذه قد خان رفاقه لان البعثيين تركوه سريعا بعد اعتقال دام لأيام قليلة، تبين ان الاستاذ قد أنقذه من الاعتقال تلميذ له من الضباط المتنفذين، لكنه حرقه حزبيا بهذه الخدمة، الاستاذ في خريف عمره يعاني من نكران طلابه لدوره، وما آلت به الأمور. الضباط عادوا عبد الناصر وزاودوا عليه، هزموا معه في ١٩٦٧م. سقطت من عين الاستاذ أي مفاهيم هزم الرجعيون والتقدميين، أومأ ان الازمة الحقيقية تكمن في الحاكم الذي يصبح مستبدا يقصي الآخرين ويحكم بهواه ولاجل مصلحته، لذلك ترحم على ايام البرلمان والاحزاب والديمقراطية بكل عيوبها. الروائي س والآخر يحبان ابنة الاستاذ هدى ويتقربون منها، وهي تكنّ الود لهما، مشتتة بينهما. تتابع الرواية الاخرى رسم صورة هزيمة ١٩٦٧م وكارثتها على الوجدان العربي، ومن ثم استقالة عبد الناصر وعودته عنها بناء على مظاهرات في أغلب العواصم العربية، نتابع بداية العمل الفدائي والصراع بينهم وبين الحكم في الأردن الذي تتوج في معارك أيلول الأسود ١٩٧٠م بينهما، وتدخّل عبد الناصر ومؤتمر القمة الذي انهى الصراع بينهم، لكنه انتهى بكارثة جديدة. إنها وفاة عبد الناصر، التي ظهرت كارثة بغياب القائد الذي كان يُعتقد أنه يمثل القائد و الوجدان العربي، سرعان ما يتحكّم السادات في السلطة بمصر ويقود إلى حرب ترد قليلا من الكرامة ١٩٧٣م لكنها تؤدي لتصالح وتطبيع مع العدو. س يعمل مع المنظمات الفلسطينية الجذرية، يؤمن بالاغتيال وخطف الطائرات والعمليات في كل مكان، عمل كثيرا ثم اكتشف أنه فشل برهانه، اغلب رفاقه ماتوا او استقالوا او اعتقلوا، عاد ليكتب رواية يفرغ فيها ألمه واحباطه، ويبحث عن جرم لاستاذه يحاسبه عليه. الاستاذ يعطيهم مذكراته التي يبرأ بها نفسه وانه كان تحت رحمة رفاق الدرب السابقين الذين أصبحوا حكاما، ولا خيانة ولا غيرها، لكن الاستاذ مات في غمّ أن كل احلامهم اجهضت وسلمت البلاد لحكام مستبدين لا علاقة بينهم وبين الأفكار العظيمة التي تتلمذوا عليها ابدا. تدور الرواية حول الراوي الأول س والراوي الثاني الذي يدون، لعبة اقرب للعبة القط والفأر، ملاحقة بلا جدوى، الاثنان مأزومان ، والاثنان محكومان بحب هدى التي لم تحسم امرها، يلتقيان او لا يلتقيان، رواية واحدة أم روايتان، يموت الاستاذ الذي لم يكن باقيا حيا منه سوى ابنته هدى ومذكراته.
تنتهي الرواية أن يعطي الروائي كاتب النص روايته للروائي الذي سينشرها على كونها لهما أنه فواز حداد.
في تحليل الرواية نقول: نحن أمام طريقة جديدة في العمل الروائي لفواز حداد، الرواية بخلطتها مع بعضها كلها تعني عملا واحدا مفترض انه متكامل، سواء كان المتحدث الروائي س او الثاني او بطلهما المشترك، التحقيق المقيت أو التحقيق المغطي لمرحلة تاريخية، ذكر التاريخ بصفته احداثا صنعت وقائع لن تنسى من ذاكرة الامة، خلق المناخ الذي وجدت به. النكبة وانتصار تأميم قناة السويس وإعلان الوحدة بين مصر وسورية ومأساة الانفصال وانقلاب آذار وتجذر الطبقة العسكرية في الحكم وتأسيس عصر الاستبداد المستدام لعقود في سورية، مأساة هزيمة ١٩٦٧م امام اسرائيل، مذابح أيلول الأسود. موت عبد الناصر ثم حرب تقدم مبررا لتصالح وتطبيع مع العدو وتأبيد حكم العسكر والاستبداد في سورية وعربيا. كل ما عدا ذلك تفاصيل. متعبة الرواية بمهارة ومهنية ودأب فواز حداد في الصنعة الادبية، احيانا يتمنى القارئ لو أنها خلت من الحواشي التي أغرقتنا بتفاصيل لن تؤدي الا إلى التشتت والملل واحيانا مغادرة القراءة.
بكل الأحوال نحن امام عمل متقن فنيا، محكم البنيان لكن جاذبيته ضاعت في هذه الصنعة المتكلفة احيانا. لكنها بالعموم اوصلت رسالتها لنا وكنا متفاعلين معها، حضرنا في ذلك العصر بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف. وعند من لا يعرف قدمت زادا معرفيا مهما. وهنا قوة الرواية وتميزها.