أثارت عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، ومشاركة بشّار الأسد في قمّة جدّة عاصفةً من ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة في أوساط السوريين المعارضين، في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث امتزج الغضب بالإحباط ومشاعر الخذلان. في الوقت نفسه، قلّلت أصواتٌ هنا وهناك من أهمية ما جرى، استناداً إلى افتراضٍ من الصعب الركون إلى صحّته أو احتمالية تحقّقه إذا كان صحيحاً، عن مطالب وشروط عربية مرتبطة بالتسوية السياسية، على الأسد تلبيتها في قادم الأيام. وإذ ركّز بعضهم على هجاء جامعة الدول العربية، وخصوصاً الدول التي دعمت جهود النظام الرامية إلى استعادة مقعد سورية فيها، وهيّأت الظروف لتحقيق هذه الخطوة، فإنّ هناك من لم ينسَ التذكير بمسؤولية هيئات المعارضة السورية الرسمية عن المآل الذي انتهت إليه الأمور، في إشارة إلى فشلها السياسي المزمن، وتبعيتها المطلقة للجهات الداعمة والمموّلة، فضلاً عن فسادها وترهّلها.
ليس خافياً أنّ الكيانات السياسية المعارضة التي تشكّلت بعد الثورة السورية، ونالت اعترافاً عربياً ودولياً، لم تنبثق من الشارع المنتفض، ولم تكن هيئاتٍ منتخبةً تحوز شرعيةً تمثيلية، وإنّما فُرضِت على السوريين من بعض دول فاعلة إقليمياً وعالمياً، بدءاً من تجربة المجلس الوطني السوري، مروراً بائتلاف قوى الثورة والمعارضة و”الحكومة المؤقتة” التابعة له، وصولاً إلى الهيئة العليا للمفاوضات، وأخيراً وفد المعارضة في اللجنة الدستورية. وعلى الرغم من وجود من تحلّى بشيءٍ من المصداقية والالتزام الجدّي بالقضية السورية بين المجموعات والشخصيات التي تشكّلت منها تلك الأجسام السياسية، إلا أنها لم تكن، في المحصلة، فرادى أو مجتمعة، على قدر المسؤوليات والتحدّيات الكبرى التي تطلّبتها الثورة السورية، وكثيراً ما أُهدِرت الجهود من أجل مصالح أو خلافات شخصية وحزبية، على حساب المصلحة الوطنية، بل كثيراً ما فاق ولاءُ أصحاب القرار للدول الراعية والتزامُهم أجنداتها ولاءَهم لقضية الشعب السوري وتطلّعاته، على ما يُستشفّ من سلوكهم وحصيلة عملهم.
استطاع ثوّار سورية وثائراتها، في بدايات الثورة، جذْبَ الدعم والتضامن الشعبي قبل الحكومي، على المستويين، العربي والدولي، بصورة فاقت مثيلاتها في أيٍّ من محطّات “الربيع العربي”، وكان من أهم أسباب ذلك مدنية الثورة واتساع نطاقها، والأشكال الإبداعية من النضال السلمي التي انتهجها السوريون في مواجهة العنف المفرط لأجهزة الأمن. ومع تفاقم وحشية النظام وزجّه الجيش للقضاء على الثورة، انحسر الحراك الشعبي، وظهرت المعارضة المسلّحة تحت مسمّى “الجيش السوري الحر”، لتستمرّ حالة التضامن والتعاطف مع الثورة السورية، لكن إلى حين.
خيّمت فوضى السلاح وحالة التناحر الفصائلي على المشهد، وتشكّلت مجموعات إسلامية مقاتلة، ينتمي بعضها إلى تيار الجهاد العالمي، أنكرت المعارضة وجودها بدايةً، ثم اختارت تغطيتها سياسياً عبر بياناتٍ رسمية تعدّها “جزءاً من ثورة الشعب السوري”، بالتزامن مع فشلها في إدارة المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام الذي غذّى آلته الدعائية بكلّ هذه المعطيات، وعمل على تضخيمها لتكريس سرديته عن “محاربة الإرهاب”.
تضافرت تلك العوامل وغيرها، لتدفع دولا عديدة دعمت الثورة في البداية إلى إعادة النظر في مقارباتها السياسية والأمنية للملف السوري. على هذا النحو، لم تعد قصة “محاربة الإرهاب” جزءاً من بروباغندا النظام وحلفائه فقط، بل تحوّلت إلى بندٍ ذي أولوية قصوى على جدول أعمال خصومه. وراجت لدى هؤلاء مقولة “غياب البديل”، من أجل تبرير تراخي مواقفهم تجاه الأسد ونظامه، نظراً إلى الحقائق الناشئة على الأرض، والنموذج البائس الذي قدّمته فصائل المعارضة في مناطق سيطرتها.
مؤكّد أنّ بقاء نظام الأسد لم يكن نتيجة صموده اعتماداً على قدراته الذاتية، وإنما بفعل تدخّل إيران وروسيا بكل قوّة لإنقاذه، لكنّ ما ساعدهما على النجاح افتقار المعارضة المسلّحة لغطاء جوي، ومحدودية الدعم العسكري المقدّم لها، لاعتباراتٍ تتعلّق بتفاهمات دولية وإقليمية معقّدة، لم تحسن هيئات المعارضة السياسية فهمها أو التعامل معها. أغلب الظنّ أنّ المآلات كانت ستختلف، سياسياً على الأقلّ، لو أنّ المعارضة حرصت على التمسّك بشيءٍ من الاستقلالية، بحيث تسعى إلى استغلال التناقضات بين مختلف الأطراف، عوضاً عن العمل في خدمتهم والتنكّر لضحايا النظام في المقابر والمعتقلات. كان حريّاً بها أن تحاول التأثير على مصالح القوى الخارجية ميدانياً، بالشكل الذي قد يؤدّي إلى نتائج تصبّ في مصلحة الشعب السوري، أو على الأقلّ يجعل من مسألة التطبيع مع النظام أكثر صعوبة. وبناءً على ما سبق، يمكن القول إنّ بعض ما يجنيه الأسد اليوم هو ما زرعته المعارضة في الأمس.
المصدر: العربي الجديد