“هل يمكن أن ترتد تونس عن الاستبداد الذي يفرضه رئيسها قيس سعيّد منذ قرابة عامين؟، وكيف يتم ذلك؟”.. سؤلان طرحهما معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، في تقرير له، مستشهدا بتقرير مشروع أنواع الديمقراطية (V-Dem)، الذي يسعى إلى قياس الديمقراطية عالميًا.
ومنذ يوليو/تموز 2021، أطلق الرئيس التونسي من جانب واحد سلسلة من الإجراءات لتوطيد سلطته في يده، حتى أصبح صانعو السياسة في الولايات المتحدة والغرب في حيرة متزايدة بشأن كيفية استعادة الديمقراطية في البلد الأفريقي التي كانت مهدا للربيع العربي.
وتعاني تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021، أزمة سياسية حادة، حين بدأ سعيّد فرض إجراءات استثنائية، منها إقالة الحكومة وتعيين أخرى، وحلّ البرلمان ومجلس القضاء، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية.
ومنذ 11 فبراير/ شباط الماضي، نفذت السلطات التونسية حملة توقيفات شملت قادة وناشطين في المعارضة التي تعتبر الإجراءات الاستثنائية “انقلابا على دستور الثورة (دستور 2014) وتكريسا لحكم فردي مطلق”، بينما يراها فريق آخر “تصحيحا لمسار ثورة 2011″، التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي (1987-2011).
ويقول التقرير الذي ترجمه “الخليج الجديد”، إنه بعد بدء عملية انتقال استمرت عقدًا من الزمان، وشهدت تعزيز الحريات المدنية، وجولات متعددة من الانتخابات الحرة والنزيهة، وأعدت دستورا تقدميا بشكل استثنائي، قام سعيّد بتفكيك كل هذه المكاسب تقريبًا في أقل من عامين.
ومع ذلك، يُظهر المنظور العالمي لإرساء الديمقراطية أن مثل هذا “التراجع” يمكن عكسه وارتداده من جديد نحو الديموقراطية، وأن المجتمع الدولي يمكن أن يلعب دورًا مهمًا في المساعدة على مثل هذه الانتكاسات.
ويحدد التقرير 5 عناصر يجب السير من خلالها مجتمعة، تساعد على الارتداد من الحكم الاستبدادي إلى الديموقراطية.
العنصر الأول، هو التعبئة الشعبية واسعة النطاق ضد المستبد، والذي بات التونسيون غير قادرين عليه، رغم أنه كان أحد عناصر إرساء الديمقراطية في الماضي.
ويقول التقرير، إن اليوم، هناك العديد من الحواجز التي تعيق مثل هذه التعبئة، حتى أن الاتحاد التونسي للشغل، وهو أكبر منظمة في البلاد، لم ينجح في تنظيم احتجاجات يمكن أن تضغط على سعيّد لبدء حوار، بسبب الانقسامات الداخلية وعدم وجود أجندة موحدة”.
ولعل خروج مظاهرات صغيرة بالمخالفة للقانون التونسي الذي يحظرها، وتعامل الأمن الوحشي معها، تمثل نافذة صغيرة من الأمل.
أما العنصر الثاني، فهو المعارضة الموحدة التي تلتئم مع المجتمع المدني.
ويشير التقرير إنه لسوء الحظ، فإن احتمال اندماج الأحزاب السياسية المعارضة والجهات الفاعلة في المجتمع المدني في تونس، على الرغم من تجربة البلاد مع هذا التعاون، لا تزال ضعيفة.
ويضيف: “لا يزال سعيّد شخصية شديدة الاستقطاب، حيث نجح في استغلال الانقسامات السياسية والاجتماعية القائمة لشل حركة خصومه”.
وحتى الآن، يرفض اتحاد التونسي للشغل وبعض الأحزاب السياسية المعارضة العمل مع الحزب الإسلامي الرئيسي (النهضة).
بينما يخلص العامل الثالث في الانتخابات، والذي تواجه عزوفا كبيرا من قبل التونسيين خلال الفترة الماضية، خاصة في الاستفتاء دستوري في يوليو/تموز 2022 وجولتين من الانتخابات البرلمانية في ديسمبر/كانون الأول 2022 ويناير/كانون الثاني 2023.
وتتضمن تفسيرات هذه المستويات العالية من امتناع الناخبين عن التصويت انشغالًا ساحقًا بالمخاوف الاقتصادية، وإطارًا قانونيًا مقيدًا للانتخابات صممه سعيّد، فضلا عن انتزاع صلاحية البرلمان بشكل كبير.
ومن الواضح أنه من أجل إجراء انتخابات حاسمة في تونس، يجب استعادة ثقة الناخبين في السياسة الديمقراطية.
أما العامل الرابع، فهو فصل السلطة القضائية عن نظيرتها التنفيذية.
وكان استقلال القضاء في تونس ضعيفًا تاريخيًا، لكن الخطوات المتخذة لمعالجة هذا الأمر منذ الثورة التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي في 2011، جنبًا إلى جنب مع النشاط المستمر بين بعض القضاة ضد محاولات سعيّد لإخضاع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية، تشير إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه القطاع القضائي على المدى البعيد.
بينما يكمن العنصر الخامس في الدعم الدولي، والذي يواجه صعوبة بالغة في تونس، حيث ساعد خطاب الرئيس الشعبوي حول “التدخل الأجنبي”، وحتى بعض حالات الاعتقالات الظاهرة لأفراد بسبب لقائهم بدبلوماسيين أجانب في خلق مناخ من الخوف.
ومع ذلك، والحديث للتقرير، فمن الواضح أن المشاركة الدولية المستهدفة يمكن أن تحدث فرقًا في حالات التحول الديمقراطي المعرضة للخطر، مما يوضح سبب احتمال أن يؤدي التخلي عن تونس في هذه المرحلة الحرجة إلى مزيد من التراجع.
ويعلق تقرير معهد واشنطن على هذه العوامل الخمس بالقول: “لا شك في أن الدعم الشعبي المحلي للديمقراطية شرط ضروري للعودة إلى المسار الديمقراطي، فبدون معارضة موحدة للتعبئة ضد رئيس سلطوي ولجنة انتخابات مستقلة ومؤسسات أخرى من هذا القبيل لتكون بمثابة حواجز حماية، لن يكون أي قدر من الضغط الدولي كافياً لعكس مسار الانجراف الاستبدادي”.
ويضيف: “سيعتمد كفاح التونسيين من أجل استقلال القضاء، وكذلك وسائل الإعلام والحريات الأخرى التي يمكن أن تساعد في كشف الفساد، على الدعم المعنوي والعملي من المجتمع الدولي لحقوق الإنسان”.
يشار إلى أنه في عهد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، كانت هذه العلاقات بين ناشطي حقوق الإنسان الدوليين والتونسيين حاسمة في الكفاح من أجل الإصلاح الديمقراطي.
بالإضافة إلى ذلك، يزيد التقرير: “النفوذ الهادئ من الشركاء العسكريين الدوليين لتونس (الجيش الأمريكي قريب من قوات الأمن التونسية ويعتقد أنه مؤثر بشكل خاص ومكافأته على وضع حليف رئيسي من خارج الناتو في عام 2015) يمكن أن يشارك في تثبيط الممارسات الأخرى المتنازع عليها مثل استخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين”.
ويتابع: “هذا بدوره سيرسل إشارة إلى سعيّد بأنه لا يستطيع الاعتماد على الجيش لدعمه، وهو يمضي قدمًا في مشروعه للحكم الفردي”.
ويشير التقرير إلى دعوة عدد متزايد من الفاعلين الدوليين إلى التدخل للمساعدة في منع الاقتصاد التونسي من الانهيار، بعدما تعلم المجتمع الدولي بالطريقة الصعبة، أن إهمال الاقتصاد التونسي سوف يقوض حتى أكثر جهود الترويج للديمقراطية شجاعة.
ويعلق على ذلك بالقول: “سيكون من المهم للولايات المتحدة والجهات الفاعلة الخارجية الأخرى أن توازن بين دعمها لأكثر الفئات ضعفاً في تونس، من خلال المساعدة الاقتصادية المستمرة، ودعم الجهات المؤيدة للديمقراطية، مع جهود تضمن أن أي مساعدة لا تقوي يد سعيّد عن غير قصد”.
ويشير التقرير إلى أهمية عامل آخر، للارتداد عن الديكتاتورية والاستبداد، وهو ما يسميه بعض الأبحاث “المخزون الديمقراطي”، أو تطوير مؤسسات ديمقراطية قوية بمرور الوقت.
ويوضح أن تجربة تونس مع الحكم الديمقراطي “محدودة للغاية، ما يجعلها في وضع غير مؤات”.
ويتابع: “بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن لأي حاكم بديل ديمقراطي يمكن للتونسيين أن يتجمعوا خلفه، أن يظهر بين عشية وضحاها لوقف التحول إلى الاستبداد، خاصة عند النظر إلى التحديات الاقتصادية العميقة في تونس والانقسامات المجتمعية والسياسية”.
ويختتم التقرير بالقول: “إلى أن تسمح الظروف لهذه العوامل مجتمعة مساعدة تونس على عكس مسارها، يجب على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي استخدام دعم متسق من وراء الكواليس للتأكد من أن تونس لن تغرق أكثر في التحول نحو الاستبداد”.
قبل أن يشدد على أهمية التنسيق مع الجهات الفاعلة غير الغربية، مثل الاتحاد الأفريقي، لتعزيز خطاب يدين الأعمال المناهضة للديمقراطية.
المصدر: الخليج الجديد