كم كان النعاس ثقيلاً ليلة العيد على عينيّ الطفل الذي كنته، أذكر، لا زلت، كان أشبه بالإبر التي تخز أجفاني لترغمها على الإطباق والاستسلام، وكان الشوق لرؤية العيد يتحوّل لجدار من العناد أستند إليه في مقاومتي اليائسة لكابوس النوم بكلّ الوسائل والطرق الممكنة، والتي ستفشل حتماً.
لم يحدث أن رأيتك أيها العيد ولا سمعت طرقات أصابعك البيضاء على الباب، لم أشهد خطواتك الناعمة على بساط غرفتنا النظيف الملوّن، دائما ما كنت تأتي كالحلم بعد أن تغلّف أرواحنا التائقة للفرح بلقياك غيومُ الوسن، وتأخذنا جياد النوم في عرباتها المذهبة إلى بحار الليلك. أمّي بصوتها العذب منهمراً من السماء، وبابتسامتها الحانية ولمساتها الدافئة كانت تنوب عنك في إلقاء تحيّة الصباح، وفي زفّ البشرى بقدومك الخفيّ أيها العيد وما يحفّ بالخبر الساحر من دعاء وعناق وقبلات، وتمنيات بالسعادة والخير ودوام الصحّة وطول العمر.
كانت مخيلتي ترسم لوحات شتّى لهذا الكائن الأسطوريّ المسمّى عيد، وكنت أرى صورته في ضحكات أبي العريضة وفي ملامحه الممتلئة بالعافية والطافحة بالبِشر، وفي حنان أمّي ومحبتها الغامرة وحرصها على إسعادنا أنا وأخوتي.
كبرتُ وغادرتني كثيرٌ من الأحلام والأوهام، وتكشفت في وعيي حقائق وانقشعت أكاذيب وسقطت أقنعة، لكنك لمّا تزل كما أنت في هيئتك وهيبتك وجمالك الذي انغرست أوصافه كالسنديان في غابة إدراكاتي الأولى، ما زلت أيّها العيد ذلك الفرح الأزليّ الشباب، الذي يأتي في غفوة الورد ليغرف من ينابيع روحه السعادة والجمال والحبّ وينثرها على الناس في جهات الأرض الأربع. لكنّك مع السوريين تغيّرت، تعبت وتلوّعت ونزحت وهُجّرت، أصبحت مثلنا غريباً يا عيد.
صرت كما استقرّ معناك في واقع حياة السوريين ووجدانهم بعد محنتهم، وكما تعرفك معاجم اللغة أي ما يعود من همّ أو مرض أو شوق، ولم تعد الذكرى التي يفرح بها ويحتفل السوريّون. لم يعد من اختلاف بين حال السوريّ وحالك يا عيد، كلاكما منهك وغريب سواء في الوطن المذبوح أو في المنافي القريبة والبعيدة، كلاكما ينتظر عودة الروح ويحلم بالحرية وبالحياة المؤجلة، كلاكما شفاه متيبسة وضحكة طال غيابها وأصحابِها عن أرض لا زال يحرث فيها الوجع.
العيد للغريب تذكرة عبور إلى جنّة الذكريات وقد باتت ملاذاً تتهدّد خضرتها نار النسيان، والعيد منفى للأحلام التي تبْهت ملامحُها وتنطمر بتراكم رماد حرائق الحرب، إنّه محطة قديمة للهارب من الفجيعة لن تستدعي لديه خرائبها المتهالكة الخاوية سوى مزيدٍ من مشاعر الفقد والحزن، وقد أوهنت روحه سياط الخديعة والخيبة ومزقت جسده حراب الشقيق والصديق والرفيق..
لم يعد الغريب للغريب نسيباً يا عيد، فحتّى القريب بات يخشى ظلم القريب وأذاه، فيحتمي بأسوار الوحشة والخوف، ويستنبت في تراب وحدته الحنظل والشوك، وينصب الفزّاعات على أطراف مملكته البائسة.
لا شيء أغلى على قلب السوريين من عودتهم إلى وطنهم المطهّر من الدنس، والمحرّر من الطغيان والخوف ومن كلّ أسباب الموت، وليس أعزّ من عودتك أيّها الغريب إلينا هناك في الديار، ستكون رجعتنا نحن الاثنين هي العيديّة التي ننتظر، سيكون علينا أن نلملم أروحنا المتشظية وأن نعيد إعمار قلوبنا التي نخرها القهر والظلم، وسيكون عليك أيها العيد أن تغيّر ملابسك المهترئة، وألعابك الخشبية التي ينخر فيها سوس الكآبة، وتنزّ وجعاً وغيظاً من الهجران.
قريباً سنعود مع الفجر الموشّى بالحرية، وأعدك أيها العيد بأننا سننتظر قدومك في القرى والمدائن على امتداد صدر سوريا، سنستقبلك بالأهازيج والدبكات، ونفرش لك بالورد الدروب والبيوت الدافئة، والقلوب المتعطشة للحبّ والسلام والفرح.
المصدر: صحيفة إشراق