تشمل الحرب الحالية معركة شرسة على الوعي، نجح فيها “الجهاد الإسلامي” حتى الآن بمنع إسرائيل من صورة انتصار واضح رغم اختلال موازين مريع للقوى بين الطرفين. فرغم سلسلة اغتيالات قادته العسكريين، تمكن من استهداف مواقع فيها برشقات صاروخية فاجأتها من ناحية الكمّ والمدى. على خلفية ذلك، ونتيجة حسابات كثيرة، تتصاعد الأصوات الإسرائيلية إلى ضرورة عدم الانزلاق لحرب أوسع وأطول، وإلى ضرورة التوصل لتهدئة خاصة أنها حققت أهدافها الرئيسة: معاقبة “الجهاد الإسلامي” وإضعافه.
وفي هذه الساعات، تُجري المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة مشاورات جديدة للتباحث في اليوم الرابع لهذا العدوان على غزة، والذي نجحت فيه “سرايا القدس” في إطلاق رشقات صاروخية طالت منطقة القدس، ونالت من المزاعم الإسرائيلية بأن “الجهاد” ينزف ويتوسل للتهدئة.
ويبقى السؤال: هل يرضى قادة “الجهاد الإسلامي” بوقف النار الآن في لحظة مواتية له بعد نجاحه بمفاجأة إسرائيل مجددا ظهر هذا اليوم، على غرار هجمته الصاروخية مساء أمس التي قتلت سيدة وأصابت عددا من الإسرائيليين، في مدينة رحوفوت القائمة على بلدة زرنوقة المهجرة منذ نكبة 1948؟ ومعه سؤال آخر: هل تقرر إسرائيل، نتيجة حسابات ومخاوف عديدة، احتواء هذا الرد الصاروخي والتقدم نحو التهدئة؟ أم أنها تبحث عن انتقام جديد وصورة انتصار، وعن مكسب يؤثر على وعي الإسرائيليين والفلسطينيين والمراقبين؟
كذلك وأكثر، بسبب جولات عسكرية مشابهة في الماضي، تزايدت الانتقادات الإسرائيلية غير الرسمية لعودة إسرائيل لـ”تجريب المجرّب” والاكتفاء بالبحث عن “نجاحات تكتيكية”، وعن فترات هدوء قصيرة دون امتلاكها استراتيجية للتعامل مع قطاع غزة، ولا استراتيجية لتسوية القضية الفلسطينية.
وفيما يدعو معظم رؤساء المستوطنات الواقعة على “غلاف غزة” إلى مواصلة استهداف المقاومة الفلسطينية، انتقاما منها وطمعا في فترة هدوء، فقد دعا عدد من خريجي المؤسسة الأمنية ومن المعلقين إلى وقف النار وإحراز تهدئة لحسابات واعتبارات عدة. وعبّر عن هذا الجنرال في الاحتياط يسرائيل زيف للقناة 12 العبرية بقوله إن على إسرائيل أن تبادر بوقف النار، على مبدأ “النار ستقابل بالنار”، محذرا من أن “قوة الردع” أمر سائل ومن الصعب تحقيقه بشكل كامل مع تنظيم عقائدي كـ”الجهاد الإسلامي”، ومحذرا من انقلاب الحرب كيدا مرتدا على من بادر بها.
في المقابل، يعتبر عضو الكنيست السابق الباحث الإسرائيلي عوفر شيلح أنه من الخطأ القول إنه لا توجد استراتيجية إسرائيلية للتعامل مع قطاع غزة. في مقال نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، يوضح شيلح أن سياسة إسرائيل في فترة حكومات نتنياهو منذ فرض الحصار على غزة عام 2007 تنص على التفريق بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة: بين حركتي فتح وحماس، منبها إلى خطورة هذه السياسة، بإشارته لازدياد قوة حركة حماس وارتفاع شأن المقاومة الفلسطينية نتيجة سياسة الفصل بين الساحات.
من جهته، يرى المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل أن “الجولة العسكرية الموسمية” في غزة لا تغيّر الحقيقة البسيطة: لا يوجد حل لمشكلة القطاع لدى إسرائيل. وفي تحليله، ينبّه هارئيل أنه لو نجحت العمليات العسكرية السابقة التي شنتها إسرائيل في الماضي، لما احتاجت أن تشنّها مرة كل سنة، لافتا لقيامها بشن 15 عملية عسكرية ضد غزة منذ فك الارتباط عنها في 2005.
وتساءل هارئيل ساخرا: ماذا حقّقت هذه العمليات منذ عملية “المطر الأول” وحتى عملية “حارس الأسوار” وغيرها؟ وعن ذلك يقول: “ليس كثيرا حتى وإن كانت إسرائيل ربما في عدد من الحالات مضطرة للقيام بعملية عسكرية ومنذ البداية كان واضحا أن الاحتمال ليس كبيرا أن تحقق عملية “درع وسهم” نتائج مغايرة”.
عصفوران بحجر
في افتتاحيتها تؤكد صحيفة “هآرتس” اليوم الجمعة أن سيناريو ضرب غزة كان متوقعّا منذ بدأ الوزير ايتمار بن غفير بممارسة الضغوط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كي يستخدم قوة أكبر ضد الفلسطينيين وخاصة ضد “الجهاد الإسلامي” بعد إطلاقه 100 صاروخ نحو إسرائيل قبل أسبوع ونيف.
وتؤكد “هآرتس” أن نتنياهو بشنه هذه الحرب نجح بـ إحراز تهدئة داخل ائتلافه الحاكم ومنه تداعيه ومن جهة أخرى صرف الأنظار عن الانقلاب ضد النظام الذي يقوده منذ تشكيله حكومته السادسة علاوة على صرفه الأنظار عن التطورات الدرامية في محاكمته بتهم فساد. وتدعو “هآرتس” لضرورة تصعيد الاحتجاجات الآن ضد الانقلاب الدستوري وضد تصعيد الحرب على غزة خاصة بعدما تكشفّت قلة حيلة حكومات نتنياهو المتتالية في تسوية الصراع وفي حماية المدنيين.
ويرى كوبي ميخائيل – باحث في معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب أن ما يجري هو لحن مكرّر في سيمفونية لا تنتهي مبررا هذا العدوان القديم الجديد. في مقال نشره موقع المعهد المذكور قبيل أحادث اليوم الأخير قال إنه على افتراض أن الإعلان المصري بشأن التوصل إلى وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ، يمكن اعتبار الجولة الأخيرة فصلاً آخر من سيمفونية لا تنتهي. ويعلل ذلك بالقول: “مرة أُخرى، اضطرت إسرائيل إلى الاعتماد على الخيار الأقل سوءاً من بين خيارات سيئة مطروحة أمامها، والالتزام بسياسة الاحتواء والحل الذي يعتمد على “حماس” كالعنوان المسؤول في قطاع غزة، والتي تدير المنطقة وحياة السكان الذين يعيشون فيها، وتفرض قوانين اللعبة، وتلجم الجهاد الإسلامي وتمنعه من تصعيد خطِر، وبذلك تضمن إسرائيل مصالحها الحيوية، وتفرض استمرار فصل قطاع غزة عن الساحات الأُخرى”.
في المقابل يؤكد كوبي ميخائيل أنه مع كل الأسف والإحباط اللذين تثيرهما هذه السيمفونية التي لا تنتهي، سنسمع فصولاً منها في المستقبل المنظور، ولا يوجد بديل أفضل منها لدى إسرائيل، وحتى لو وجهت في الجولة المقبلة ضربة قاسية إلى “حماس” من أجل جباية ثمن أكبر مقابل سلوكها، بالأساس فيما يتعلق بتفعيل الجبهات الأُخرى وتصعيد الوضع الأمني فيها. وطبقا لـ ميخائيل فإن التغيير في الوضع القائم يمكن أن يجري في حالة توسُّع للمعركة العسكرية غير مرغوب فيه وغير مخطَّط له، بسبب رد عنيف من “حماس”، أو بسبب وقوع أضرار جسيمة في الأرواح؛ حينها، سيجد الطرفان نفسيهما في معركة واسعة لا يرغبان فيها، كما جرى في “الجرف الصامد” و”حارس الأسوار”.
العملية في غزة لم تكسر أي معادلة
وتبعه في ذلك المحلل العسكري في صحيفة “يسرائيل هيوم” يوآف ليمور فيقول إن تلخيصا سريعا لحملة “درع وسهم” يشير إلى استخلاص أولي: “الجهاد الإسلامي” تلقى ضربة قاسية مرة أُخرى، بعد اغتيال قياداته والضرر الذي لحِق بمنظوماته العملياتية وبنى تصنيع الأسلحة الخاصة به لكن العملية لم تكسر أي معادلة قائمة.
المصدر: “القدس العربي”