تأتي خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعيين السفير الروسي في دمشق أليكسندر يفيموف سفيرًا مفوضًا فوق العادة، “ممثلًا خاصًا للرئيس الروسي لتطوير العلاقات مع الجمهورية العربية السورية”، في مرحلة مهمة جدًا، وخاصة مع حالة الجمود السياسية والعسكرية، ومع عدم إمكانية المضي قدمًا في تطبيق الرؤية الروسية في حل القضية السورية استنادًا إلى ضرورة بسط (هيكل الدولة) على كامل الأراضي السورية، خاصة بعد الحملة الأخيرة في الشمال السوري وإدلب التي تصاعد فيها خطر الصدام والخروج عن السيطرة إلى حد المواجهة المباشرة بين تركيا وروسيا، والتي انتهت باحتوائها دون تحقيق أهدافها، وفي ظل ضغوط دولية لم ترضِ الطرفين الشريكين في أستانة وسوتشي.
لقد أصبح من الواضح عدم إمكانية تطبيق حل سياسي على الطريقة الروسية، كما في جمهورية الشيشان، بعد تصاعد حدة الانتقادات في وسائل الإعلام الروسية للنظام السوري وأركانه، ووصفه بالفاسد، والتلميح بأنّ الرئيس بوتين قد ضاق ذرعًا بالوضع، والحديث عن تغيير في الموقف الروسي من التمسك بالأسد، وترافق ذلك كلّه مع اقتراب موعد تطبيق القانون الأميركي الخاص بحماية المدنيين في سورية والمسمى بقانون قيصر (سيزر).
القانون المذكور الذي يفرض عقوبات على النظام السوري وداعميه أفرادًا ومنظمات ودولًا، يبدأ تطبيقه فعليًا اعتبارًا من الأول من حزيران/ يونيو، ومعروف أن هذا القانون أقرّه الكونغرس الأميركي، بعد صدّ ورد، بعد أن كان حبيس أدراج الإدارة الأميركية منذ عهد باراك أوباما لأسباب لا مجال لذكرها هنا، حيث أقرت ميزانيته المالية من وزارة الخزانة الأميركية، بينما تقوم وزارة الخارجية على تنفيذه، ولا يخفى على متابعي الشأن السوري ملامح تأثيره على النظام وحلفائه، وتكمن أهمية هذا القانون في أنه يفوق بتأثيره قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من حيث إمكانية تطبيقه لكون مرجعيته دولة تمتلك أدوات تنفيذه من جهة، وتمتلك التأثير في الدول الأخرى للالتزام من جهة أخرى.
تضاف إلى ما سبق ملامح انهيار اقتصادي للنظام، وخلافات على المال المنهوب من قوت الشعب، وهذا يدل على يقين الطغمة الفاسدة في دمشق بانتهاء قدرتهم على الحكم مجددًا وشروعهم بالتقاسم والهروب.
وسط هذه المعطيات والظروف، لا بد من الحديث عن معنى الصفة الرسمية ودلالاتها:
السفير، السفير المفوض فوق العادة، الممثل الرئاسي
دبلوماسيًا، تُعيّن الدول ممثلًا لها في الدول الأخرى يسمّى سفيرًا، تكون مرجعيته وزارة الخارجية، وتكون صلاحياته محددة وعن طريق وزارة الخارجية، ويجب أن يرجع إلى الوزارة في القضايا المهمة.
في بعض الأحيان، تُعيّن الدول سفيرًا ذا صلاحيات واسعة أكثر من مرتبة سفير، يُسمى مفوضًا فوق العادة، وهنا يكون صاحب صلاحيات عالية جدًا، ويمكن أن يتصرف في أي قضية ثنائية دون الرجوع إلى الدولة، حتى لو أدى ذلك إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
أما في ما يتعلق بتسميته ممثلًا خاصًا للرئيس، ففيها دلالة لأهمية العلاقة مع (الدولة) ولمكانة الشخص الذي تمّت تسميته، ولضرورة التواصل المباشر مع الرئاسة، وأيضًا لوجود قضية سياسية ذات أهمية كبرى.
المبعوث الرئاسي دبلوماسيًا هو سفير مفوض فوق العادة، لم تعد مرجعيته وزارة الخارجية الروسية فقط، ولا مقام الرئاسة الروسية، بل الرئيس بوتين شخصيًا.
في الأحوال العادية، يعود أمر تعيين السفير وتبديله لحكومته، وتقوم الدولة بعملية استمزاج الدولة المضيفة كإجراء (بروتوكولي) ولا يكون له تأثير مهم.
ما حدث في سورية ليس تعيين سفير جديد، بل تغيير الصفة ورفع نسبة الصلاحيات، وفي ظل وجود عسكري وارتهان لقرار النظام الحاكم، لا شك في أنّ هناك غاية روسية من التعيين.
إن روسيا، كما غيرها من القوى الفاعلة، تسعى لتعزيز دورها لتحقيق أهدافها ومصالحها والحفاظ على مكتسباتها، وفي سورية خطت خطوة مهمة جدًا لاتخاذ القرارات في سورية بسرعة دون انتظار الدورة المؤسساتية، وهذا دليل على مرحلة خطيرة من التطورات، التي يمكن أن تضاف إلى حالة التقاسم والصراع المخفي بين النفوذ الروسي والإيراني في أجهزة النظام، والمنافسة حقيقة واقعة وليست مجرد أقوال وتكهنات.
سوريًا، يمكن قراءة هذا التعيين كمؤشر على تغيير طبيعة الوظيفة – المهمة التي سيضطلع بها السفير، ولا سيّما أن يفيموف كان يشغل منصب سفير روسيا في دمشق، فهو ليس جديدًا بل تم توسيع صلاحياته وإضافة مهمات أخرى إليه، وأرى أنها تعني بداية مرحلة سياسية جديدة، هذه المرحلة تتطلب القرارت السريعة دون المرور بالدورة المؤسساتية لصنع القرار، وخاصة في روسيا بوتين، الذي يتصرف كقيصر.
يُقرأ هذا القرار أيضًا كرسالة من روسيا، كدولة عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وذات حضور في الساحة الدولية، وليس فقط الحليف للنظام السوري، وهذه الرساله في سياق التطورات السياسية للحالة السورية.
إن المبعوث الرئاسي دبلوماسيًا هو سفير مفوض فوق العادة، لم تعد مرجعيته وزارة الخارجية الروسية فقط، ولا مقام الرئاسة الروسية، بل الرئيس بوتين شخصيًا، ولذلك دلالات واضحة على أولوية الملف السوري بالنسبة إلى بوتين أولًا، وعلى تطورات متوقعة قادمة ثانيًا، وهذه التطورات تحتاج إلى سرعة التواصل والقرار.
من جهة أخرى، إن وجود جهات روسية عدة تعمل في سورية، وهي بطبيعة الحال لا تتبع لوزارة الخارجية، وهي: الدفاع والاستخبارات، إضافة إلى قطاعات أخرى حكومية اقتصادية، يجعل من المنطقي تكييف الصلاحيات بما يتناسب مع تعدد هذه الجهات واختلاف مرجعياتها.
نرى دلالة واضحة على التمسك بشرعية الوجود الروسي، من خلال تعبير (تطوير العلاقات مع الجمهورية العربية السورية)، وبهذا فهي خطوة شكلية لتأطير العمل في العلاقة مع النظام والجهات الروسية العاملة في الملف السوري ضمن قناة واحدة، مع انتهاء العمل العسكري باعتقادي، وأن هذا التغيير هو استمرار ورفع مستوى العلاقات بين روسيا وسورية، حيث إن الوجود الروسي حتى العسكري كان “شرعيًا”، والآن يتم تطوير العلاقات بين “البلدين”.
هذه الخطوة أتت لتجاوز الاستخفاف والإهمال الروسي خاصة لرأس السلطة الذي ساد في المرحلة الماضية، وليس من قبيل إعادة التعويم للأسد ونظامه، بل للإمساك بالورقة السورية أكثر في عملية المساومة والتفاوض مع القوى الدولية الأخرى، وكذلك مع الأطراف السورية استمرارًا لسياساتها من سلسلة اتفاقات (أستانة) و(سوتشي) وخفض التصعيد والتسويات، لتفرض واقعًا على القوى الدولية تجعلها المفاوض الرئيس في أي حل وفي كل القضايا المتعلقة بسورية، من المعتقلين إلى المهجّرين واللاجئين إلى ملف إعادة الإعمار.
يبدو أن الصيف السوري سيكون حارًا هذا العام، وسيحمل كثيرًا من الأحداث التي نتمنى أن تكون مفرحة للسوريين بعيدًا عن الخراب والدمار.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة