فصول من كتاب “الأحزاب والقوى السياسية في سوريا” الحلقة السادسة

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

الحلقة السادسة: قراءة في المسار العام للتيار الناصري في سوريا /4

المولود الجديد: التنظيم الشعبي الناصري

في هذا الوقت بالذات ظهر “التنظيم الشعبي الناصري”، ويبدو في ظهوره شكلا من أشكال الرد على الإشكالية المطروحة في الاتحاد الاشتراكي، وإن كان واضحا أن الرد على هذه الإشكالية ليس أكثر من سبب واحد من أسباب ولادة هذا التنظيم.

إن غنى تجربة الاتحاد الاشتراكي، ووضوحه، والمعرفة المتاحة للكثير من قياداته الحالية والسابقة، وتوفر وثائقه، ومساره العام، ومكانة أمينه العام كرجل فكر وسياسة، كل ذلك أتاح لنا أن نقف مع هذا التنظيم وقفة طويلة، وأن نندفع لإجراء تقييمات، ولإعطاء آراء وأحكام، تتناسب والمكانة التي يحتلها هذا التنظيم في تاريخ العمل السياسي الناصري منذ الانفصال، ومنذ بروز العمل السياسي الناصري على وجه التخصيص.

ونحن نقف لننظر في التنظيم الشعبي الناصري، ونحاول أن نجري قراءة له، فإننا نفتقد تلك الفرصة، ويغيب عنا الكثير جدا مما كان متوفرا لنا مع الاتحاد الاشتراكي، ورغم توفر وثائق التنظيم بين أيدينا، فإن الحياة الداخلية للتنظيم غير متاحة لنا لعرضها، وحداثة عمره السياسي تجعل الحديث عنه، وتقييمه، عملية شاقة تكتنفها المخاطر، وتجعلنا مفتقدين إلى السياحة المريحة معه.

ومع ذلك فنحن مضطرون إلى الاقدام في هذا الميدان، ويدفعنا إلى تناول هذا التنظيم ظواهر محددة تجعل تناوله ـ رغم المحظورات والنواقص ـ ضرورة لاستكمال صورة ومسار العمل السياسي الناصري في الإقليم السوري.

** الظاهرة الأولى: أنه يشكل ـ إلى جانب الاتحاد الاشتراكي ـ التنظيم الناصري الوحيد في ساحة الإقليم السوري، ويحمل في جوانب ولادته أثرا من آثار الاتحاد الاشتراكي، وحيث يفترض بطبيعة النشأة أن يتصدى لمعالجة إشكالية العمل التنظيمي التي كشفت عنها تجربة ذلك التنظيم.

وإذا كان وجود تنظيمين ناصريين على ساحة واحدة يفترض وجود حالة تنافس بينهما، فإن هذا الافتراض لا يمكن ملاحظته على الأقل في المرحلة التي ننظر فيها.

** الظاهرة الثانية: أنه إبان الأحداث الدموية التي اجتاحت الإقليم السوري منذ العام 1978 وقف هذا التنظيم موقفا جماهيريا متميزا عن موقف الاتحاد الاشتراكي، وعن موقف كثير من التنظيمات الوطنية في سوريا، ولم يُؤخذ كثيرا بظاهرة انتشار العمل المسلح للتيار الديني، وامتد تميزه إلى الكثير من الأحداث الوطنية والقومية، ومنها الحرب العراقية ـ الإيرانية، والصراع الجاري ضمن منظمة التحرير الفلسطينية.

** الظاهرة الثالثة: أنه استطاع أن يظهر مرونة مميزة في حركته، واتصاله بالشارع الجماهيري، حيث كان التنظيم التقدمي الوحيد الذي استمر بإصدار نشره الجماهيري في فترة الصراع الشديد بين الأخوان المسلمون والسلطة، ولم يتوقف هذا النشر، رغم الإرهاب السائد الذي دفع بكل القوى إلى الانزواء وإلى وقف النشر الداخلي والخارجي، تماما وذلك في محاولة منها لتمرير عاصفة الإرهاب العاتية.

وإذا كان ما بأيدنا من وثائق مقتصر على النشر العام الذي يقوم التنظيم بتوزيعه على الجماهير عبر نشرته “الراية الناصرية”، ووثيقة رئيسية عنده تحمل عنوان: الوثيقة السياسية”، وأيضا تقريرا لأحد مؤتمراته، فإننا سنعتمد على هذه الوثائق في استطلاع رؤيته للأحداث، وفهمه للمرحلة، وللناصرية، وطبيعة التزامه.

أولا: رؤيته للأحداث:

حددت نشرة “الراية الناصرية” مواقف هذا التنظيم من أهم ما يجري على الساحة الوطنية أو القومية أو الدولية من أحداث، وتحقيقا لهدفنا في الكشف عن تفكير هذا التنظيم، فإننا سنكتفي في هذا الجانب برصد موقفه من ثلاث قضايا رئيسية مثلت، وما تزال تمثل، محور خلاف وجدل بين كافة القوى السياسية، وهي تكشف لنا عن منهجه في تحليل الأحداث، وفي تحديد المواقف:

ـ القضية الأولى: الصراع الذي تفجر في سوريا بدءا من العام 1978

ـ القضية الثانية: الحرب العراقية ـ الإيرانية

ـ القضية الثالثة: أزمة المقاومة الفلسطينية

في القضية الأولى: يضع التنظيم الشعبي الناصري عنوانا عريضا للصراع المتفجر في سوريا منذ العام 1978 باعتباره “صراعا طائفيا”، ومن هذا الاعتبار فإنه يقف خارج دائرة هذا الصراع، يدين هذا الصراع، ويكشف عن الظروف التي يراها كامنة خلفه، ويحدد ما يعتقد أنها السمات الطائفية فيه، ويدعو في مواجهة هذا الصراع إلى قيام تكتل وطني يحمل على عاتقه إعادة رسم خريطة الصراع الوطني بشكل صحيح، بحيث تعود الحياة السياسية لتنتظم على النحو المألوف والمعبر عن حقيقة الوضع السياسي السوري.

منذ البداية يلحظ التنظيم أن دخول التيار الديني ـ السياسي إلى الحياة السياسية بهذا الشكل ظاهرة جديدة لم تشهدها سوريا سابقا، حتى ولا في عهد الحكومات البرجوازية، وأهم سمات الجدة فيها أنها أخذت بعدا شعبيا واضحا، وبعدا طائفيا واضحا.

ويعيد سبب ذلك إلى دور مباشر قام به النظام السوري، وتبدى بوضوح في مرحلة الحركة التصحيحية، ويرصد في هذا الدور عددا من المؤشرات:

** إضعاف القوى السياسية التقدمية والوطنية عموما، وفي المقدمة منها الناصرية، بعد ان تحقق له ـ عقب الحركة التصحيحية ـ مد جماهيري عزً على كثيرين، وذلك بالطريقة التي أخرج بها صيغة “الجبهة الوطنية التقدمية”، والمنع الذي مارسه تجاه كل نشاط سياسي خارج إطار الجبهة، وتذويبه لنشاط قوى الجبهة ذاتها، وتدخله المباشر في محاصرة وإرهاب الحركة الناصرية ممثلة بالاتحاد الاشتراكي، وفي إضعاف الاتجاه القومي في الحركة الشيوعية عموما، والحزب الشيوعي السوري تحديدا.

** رعايته الدؤوبة والواضحة للهيمنة الطائفية على أجهزة السلطة، والأمن، والمؤسسة العسكرية، وإقامة تشكيلات عسكرية مستقلة ذات صبغة طائفية واضحة، وتمركز هذه الظاهرة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الحساسة، وبروز الطائفية كأداة امتياز في الحياة العامة، وإفساح المجال لإقامة جمعيات وتشكيلات سياسية طائفة.

** رعاية تكتل مالي طفيلي يجمع بين أعمدة السلطة، والطبقة التجارية، وتضخم القطاع المالي لهذا التكتل حتى أصبحت الملايين أرقاما بسيطة في حسابات هؤلاء، وما يتبع هذه الظاهرة من تفشي الفساد، والروح الاستهلاكية، وتصاعد الأزمات المعيشية في الحياة العامة.

** غض الطرف ـ إن لم نقل تشجيع ـ عن نشاط الجماعات الدينية، في نفس الفترة التي كان الخناق يضيق حول القوى التقدمية الوطنية، والسماح لها بإعادة تنظيم صلاتها الخارجية، وتقوية أدوات الاتصال عندها، وساعد على ذلك في هذه المرحلة حالة التحالف والصراع المتناوبة مع كل من النظامين الأردني والعراقي، ومع المقاومة الفلسطينية.

** نمو القدرة الاجتماعية والمالية للتيار الديني نتيجة تداخل مواقفه الاجتماعية والاقتصادية مع ذلك التكتل المالي الطفيلي، واستفادته بالطبيعة من تلك العلاقات التي أقامها النظام مع الدول البترولية.

أما على جبهة الحركات الدينية السياسية، وفي المقدمة منها “الاخوان المسلمون” فإن التنظيم الشعبي الناصري يرى فيها أصلا قوى طائفية تتلاءم وتنمو مع هذا الجو المتاح، وتمثل خطرا مباشرا على الحياة الوطنية، وقد تأكد هذا التقييم لديه في رؤيته لعمليات الاغتيال التي قامت بها المجموعات المسلحة، حيث يرى أنها بنيت على قاعدة “التكفير”، لكل من ينتمي إلى الطائفة الحاكمة، ويعطي نفسه الحق في الحكم عليه بالقتل، دون النظر إلى موقفه الوطني أو القومي، أو حتى موقفهم الديني كأفراد.

ويرى التنظيم أن حالة الاستقطاب التي شهدتها الحياة السياسية في هذه المرحلة بين طرفي الصراع: الأخوان المسلمون، والسلطة، لم تتشكل من قبيل الصدفة، أو نتيجة التداعي الذاتي للأحداث، وإنما جاءت وفق مخطط مدروس ينفذ على أرض الواقع بدقة، وبتتابع، وعلى قاعدة الطائفية، ووفق هذا التحليل يفسر التنظيم مجزرة مدرسة المدفعية، ومجازر حلب وحماة، وما حدث في أغلب المدن السورية.

فالأخوان المسلمون ـ وفق هذا التحليل ـ خططوا لتحييد الجيش في صراعهم مع السلطة ، بعد أن خبروا قدرتهم على التأثير عبر العديد من الصدامات المسلحة الجزئية التي دخلوها، وخبروا تأثيرهم في الشارع السياسي والجماهيري حينما لحظوا تحولهم إلى “نماذج” في التضحية، وبدء عمليات الاستقطاب حولهم، ولم يجدوا سبيلا إلى هذا التحييد غير القيام بضربتهم في مدرسة المدفعية في حلب، تلك التي راح ضحيتها عدد كبير من طلاب الضباط من الطائفة العلوية على وجه التحديد والحصر، وكان أملهم أن تؤدي هذه الضربة إلى ردات فعل من ذات النوع في بقية المدارس والقطعات العسكرية تصيب الضباط ” السنة”، وتؤدي في تفاعلاتها إلى انقسام الجيش، أو شلله وانشغاله على أقل تقدير، فتفقد السلطة السورية بذلك واحدة من أهم أجهزة العنف لديها، وقد أثبتت القيادة العسكرية والسياسية في سوريا وعيها الدقيق لهذا الغرض المفترض، فأجهضته، وامتصت كل ردات الفعل، وقامت بهجومها  المعاكس.

إن السلطة وقد رأت هيبتها تتهاوى، وأجهزة الأمن المتعددة تخترق من قبل جماعات العمل المسلح، ولم يفدها في مواجهة هذا الوضع العدد الضخم من العملاء الذين جندتهم أو بثتهم في كل مكان، اختارت أن تستند إلى الطائفة في حماية ظهرها ـ سواء بتشكيل ميليشيات منها أو باستخدام التشكيلات العسكرية الطائفية ـ وأن تواجه أعمال الجماعات المسلحة “بالإرهاب العام”، فقامت بمجزرة مروعة في حلب وفي جسر الشغور، وعدد من المدن السورية، واختتمت هذه الموجة بمجزرة حماة التي راح ضحيتها آلاف الشهداء من السكان الذين لا علاقة لهم بشيء.

ولم يكن هناك مبرر فعلى لهذه المجازر، وكما نجحت السلطة في إفشال هدف “الاخوان المسلمون” في شل القوات المسلحة وتحييدها، فإنها نجحت أيضا في زرع الخوف العام في قلوب المواطنين بعد أن سقط منهم عشرات الآلاف، وزج بأضعاف ذلك في السجون ـ لا يعرف حتى الآن مصيرهم ـ، واستخدمت السلطة للوصول إلى هذا الهدف، بالإضافة إلى التشكيلات الطائفية، قطعات الجيش النظامي، كاختبار لها، وكتوريط يسقط عنها مستقبلا أهلية القيام بأي رد فعل.

وإذ يشترك الطرفان: السلطة، والجماعات الدينية المسلحة في ضرب البنية الوطنية في سوريا من خلال إشاعة الجو الطائفي فإن السلطة تتحمل المسؤولية الأولى:

** فسلوكها، وسياساتها، هي التي أضعفت الروح الوطنية، وأثرت تأثيرا سلبيا ومباشرا على القوى الوطنية في سوريا.

** ومسيرتها الاقتصادية هي التي أفرزت ذلك التحالف الطفيلي الذي سمح وعزز ظهور الاتجاه الطائفي في كل القطاعات.

** وأخيرا فإنها بحكم المسؤولية التي تقوم بها، تتحمل هي تبعات الضرب عرض الحائط بهدف الوحدة الوطنية، وإشاعة أجواء الإرهاب والقمع، وإقامة التشكيلات الطائفية، والاستناد إلى حكم الأجهزة الأمنية، وتعطيل أجواء الحوار السياسي، وهو ما كان متاحا في الفترة التي أعقبت الحركة التصحيحية مباشرة.

2 ـ في القضية الثانية:

في تحليل موقف التنظيم من الحرب العراقية الإيرانية، فإنه من الواضح أن التنظيم لا ينظر إلى هذه الحرب نظرة جزئية، وإنما يربطها بطبيعة النظامين وخصائصهما، وتاريخهما، وبالوضع العربي، والدولي.

** فالنظام العراقي: نظام قهري داخليا، متواصل مع الامبريالية الأوربية والأمريكية خارجيا، متحالف مع نظام الشاه، وهو الذي وقع اتفاقية الجزائر التي تم فيها إعادة رسم الحدود في الخليج العربي، والتنازل عن عربستان، وهو النظام ذاته الذي أخرج الزعيم الديني قائد الثورة الإيرانية من العراق بناء على طلب شاه إيران، واستقبل بنفس الوقت الامبراطورة الإيرانية “فرح ديبا” في آخر مسرحية تقوم بها لامتصاص الانفجار الشعبي حينما زارت النجف الأشرف.

** والنظام الإيراني: هو النظام الذي قام على أنقاض نظام الشاه، وقاد الصراع العنيف ضد الامبريالية الأمريكية “عدوة العرب الأولى”، وأعلن التزامه بقضية فلسطين، وأقام حكما إسلاميا شعبيا، وسعى إلى الانفصال عن الحضارة الغربية، وتحقيق الاستقلال الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، أي الاستقلال الحضاري عن الغرب الاستعماري.

وإذ بدأ النظام العراقي الحرب فإن كل المبررات التي أطلقها لا تمثل من وجهة نظر التنظيم غير أسباب وهمية، أما السبب الحقيقي ـ كما يراه ـ فهو العمل على إسقاط الثورة الإيرانية، وذلك بأحد ثلاثة أساليب، أو بها جميعا:

** الهزيمة العسكرية.

** دفعها إلى الاستناد الفعلي على الجيش الإيراني قبل أن يعاد بناؤه عقائديا، وبالتالي إعادة الهيبة والاعتبار له، بما يتيح له الانقضاض على الثورة بفعل تربيته الإمبراطورية، وعقيدته العسكرية.

** إثارة الأقليات في إيران مما يعني حتما تفتيت الدولة الإيرانية لصالح إرادة الغرب مع ما يصحب ذلك من تقوية للنزعة الفارسية.

أما عربستان، الإقليم العربي الذي تحتله إيران، فإن التنظيم يرى أن حل مثل هذه القضايا مع الجارات المسلمات، مثل تركيا وقضية لواء الاسكندرونة، وكيليكيا، وإيران وقضية عربستان، فلا تكون إلا في إطار الخيار الحضاري، وفي ظل دولة عربية موحدة وقوية.

وإذ يُحَمل التنظيمُ النظامَ العراقيً مسؤولية البدء بهذه الحرب، كما يحمله مسؤولية إشغال وتخريب الطاقات الوطنية العراقية والإيرانية، ولمصلحة الإمبريالية مباشرة (الشركات التي سوف تعيد بناء ما تهدم، والشركات التي تبيع العراق نتاج مصانع الأسلحة عندها، وسيل الدماء الذي جرى بين العراق العربي، والثورة الإسلامية في إيران)، فإن هذا الموقف لم يستمر على ثباته، بل بدأت تدخل عليه المتغيرات التي ظهرت سواء على ساحة المعركة، أو في الساحة الإيرانية ذاتها.

** فقد أدان التنظيم الصبغة الدينية الطائفية التي ارتضتها الثورة لنفسها، ورأى في هذه الصبغة عنصر إجهاض لجوهر فكرة الثورة.

** وأدان التنظيم القمع الشديد الذي ووجهت به القوى المختلفة في إيران.

** وأدان أسلوب الثورة في مواجهة قضايا الأقليات، حيث اعتمدت على السلاح والقهر، في وقت بدت فيه متساهلة تجاه النزعة الفارسية التي بدأت تنمو.

** وأخيرا فإن التنظيم أدان الأسلوب الذي رسمته الثورة في تعاملها مع النظام العراقي، وهو الأسلوب العسكري القائل بوجوب إسقاط النظام العسكري بقوة السلاح، واعتبر أن إسقاط النظام العراقي، أو تحديد طرق التعامل معه، من مسؤوليةُ القوى الوطنية العراقية. وأن ما يطرحه النظام الإيراني إذ يحبط إمكانات هذه القوى العراقية على الفعل، فإنه يكشف عن رغبة إيرانية في فرض نظام حكم في بغداد على هواها، وهذا أمر يهدد عروبة العراق نفسه، والمساس بعروبة العراق أم لا تساهل معه.

لأجل كل ذلك فإن التنظيم تبنى الدعوة إلى وقف الحرب المدمرة القائمة بين النظامين، واعتبر الإصرار على استمرار الحرب هو إصرار يعمل واقعيا على تحقيق مصالح الدول الكبرى، كما يعمل على إهدار مصالح الشعبين.

3 ـ في القضية الثالثة:

يرى التنظيم الشعبي الطبيعة الإقليمية، والرجعية لقيادة منظمة التحرير، ويرصد هذه الطبيعة الملازمة لها منذ تسلم قيادة فتح للمنظمة، وهيمنتها عليها، حتى وضوح تحالفها مع الرجعية العربية، ويضع في مكان بارز من تحليله وتقويمه صدامها مع القيادة الناصرية، ثم السبيل الذي سلكته في التعامل مع القوى الوطنية سواء في الأردن، أو في لبنان.

إن التنظيم يعتبر الموقف من الجماهير هو معيار أصيل في التقييم، وهو يرى أن موقف هذه القيادة من الجماهير الفلسطينية، والجماهير العربية، موقفا إقليميا محضا.

إن فلسطينية الثورة، وإبراز الشخصية الفلسطينية، إذ يجسدان موقفا ضروريا وثوريا لمواجهة محاولات الطمس التي تقوم بها الصهيونية العالمية لهذين العنصرين في الوطنية الفلسطينية، فإن قيادة منظمة التحرير اتخذته أداة في مواجهة الحركة الشعبية عموما، فنمت بسياستها هذه إقليمية فلسطينية بالغة السلبية، وبنت علاقاتها الجماهيرية على هذا الأساس، وكان طبيعيا ألا يخلف الموقف الإقليمي من قضية قومية بالأساس غير التهاون، والدخول في لعبة الاستسلام، والرهان على العدو الأمريكي.

والتنظيم إذ يتخذ هذا الموقف فإنه يفرق تفرقة شاملة، وقاطعةـ بين اندفاعة الجماهير الفلسطينية نحو مواجهة العدو الصهيوني في داخل الأرض المحتلة، وخارجها، والتضحيات العظيمة التي قدمتها على هذا الطريق، والمثل الذي ضربه المقاتل الفلسطيني في مواجهة الآلة الحربية الإسرائيلية، وبين العقل السياسي الذي يقود ويوظف هذه النضالات، لذلك هو رحب ب “الانتفاضة داخل فتح”*، ورأى فيها ومضة نور في الطريق المظلم الذي دخله ذلك العقل السياسي، لكن ترحيبه ظل مشوبا بالقلق، ومحاطا بشروط، لأنه يرى أن الرفض الحقيقي لخط الاستسلام يفترض توفير الشروط العملية المحققة لهذا الرفض، وفي المقدمة منها صحة ودقة الموقف القومي عمليا ونظريا، وحتى يتحقق هذا فعلى قيادة هذه الانتفاضة أن تثبت تحركها على ثلاثة محاور متكاملة:

** عليها أن تقدم رؤية نقدية جذرية لخط فتح، ولقيادة منظمة التحرير من زاوية كشف الموقف الإقليمي الرجعي، وتحالفاته عبر مسيرته كلها.

** وعليها بناء نظرة قومية في رؤية الصراع مع العدو الصهيوني، وأبعاده وأدواته.

** واتساقا مع المحور الأول والثاني عليها أن تبدل في بنيتها، وتحالفاتها لتكون البنية قومية، والتحالفات مع القوى الشعبية أساسا.

وإذ يظهر من مجمل التحليلات السياسية التي تعرضت لهذه المسألة أن التنظيم قلق على قدرة الانتفاضة في التحرك على هذه المحاور، فإنها تكشف أسبابا هذا القلق وتحددها في عدد من العناصر:

1ـ بنية الانتفاضة: حيث يلاحظ أنها تحتوي على جملة متناقضات لا تمثل خطا سياسيا أو فكريا موحدا، وتضم عددا من العناصر القيادية التي تعتبر نماذج مصغرة من القيادات التي تمثل الخط الرسمي لفتح ولمنظمة التحرير، وتحمل كل سواءتها،

وتزيد أحيانا، ومثل هذه التركيبة سوف تدفع إلى انقسامات وانشطارات مستمرة.

2 ـ  طبيعة الحلفاء: حيث اتخذت من النظام السوري ـ بحكم الجغرافيا والخط السياسي ـ حليفا لها، وسندا في تحركها، وإذ لا يرى التنظيم في هذا الحليف أهلية القيام بهذا الدور فإنه يتنبأ في أن يضع النظام السوري هذه الانتفاضة في إطار رؤيته وحركته السياسية بإحكام بالغ، عند ذلك لا تكون الانتفاضة قد ابتعدت كثيرا عن موقف قيادة منظمة التحرير مع كل الاحتمالات المطروحة والمؤدية إلى إعادة العلاقات بين النظام السوري وتلك القيادة.

3 ـ الخطأ في رؤية قضايا أساسية: نتيجة الحصار الإعلامي والسياسي فيصار على التضحية بمكتسبات النضال الوطني تحت وهم أن هذه المكتسبات موضوعة في حساب تلك القيادة، وفي المقدمة من ذلك وحدة منظمة التحرير، وتمثيلها للشعب الفلسطيني، والامتناع عن الاقتتال الفلسطيني، وتسوية الخلافات الفلسطينية في إطار الحوار الديموقراطي.

4 ـ طبيعة القوى الحليفة لها فلسطينيا: ويسجل التنظيم هنا ضعف مصداقية الفصائل الفلسطينية المؤيدة للانتفاضة واتسام بعضها بالارتباط المباشر بالنظام السوري،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الانتفاضة داخل حركة فتح عام 1983 والتي جاءت على خلفية الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ونقد قيادات فلسطينية لأداء قيادة منظمة التحرير في مواجهة هذا العدوان، وكان من قادتها أبو خالد العملة، وتشكل على إثرها ما عرف ب “فتح الانتفاضة”.

وبعضها الآخر بنظرة للعدو الصهيوني متناقضة كليا مع النظرة القومية، واتصاله المباشر مع رموز معينة من الكيان الصهيوني.

لقد أظهرت تطورات الأحداث مشروعية القلق الذي لف الموقف الأولي للتنظيم من الانتفاضة، لذلك فإنه عبَر في نشرات لاحقة عن مواقف أشد نقدا لمسلك “الانتفاضة”، وللصراعات الدائرة فيها، والتي تبدد قدرتها على جذب وتحلق الموقف الفلسطيني حولها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى