رواد العوام روائي سوري من جيل الشباب، هذه الرواية الثانية التي نقرأها له، بعد غريق جنة الإغريق. وهي زمنيا تسبق تلك الرواية، يعني هي باكورة اعماله الروائية. والروايتين تتابعان منعكسات الربيع السوري على كل المستويات.
البث التجريبي لجهنم، رواية كتبت بلسان الراوي الذي هو ايضا الشخصية الأهم في الرواية، لنقل أن الرواية تتابع بطلها في كل حيثيات حياته. كما أن للرواية فصول ومقاطع، ليست مرتبة لا زمانيا ولا مكانيا، يعني تتحدث عن الماضي أو تقفز الى المستقبل، تتناول القبل او البعد، فقط حسب ما يراه الراوي، كما أنها لا تقف عند موضوع معين، بل تتابع ما يدونه الراوي البطل، السرد يحكمه المخطط الذهني للراوي، وتكتمل صورة الرواية عند اكتمال الاطلاع عليها، أغلب الرواية متابعة الحوار الذاتي داخل عقل ونفس بطل الرواية، كما أن في الرواية بعض المقاطع التي تبدو لاول وهلة انها مبهمة، او خارج السياق، لكن بعد اكتمال الصورة، ومتابعة قراءة الرواية، ستتضح الحالة ويزول الإبهام ويبرر استعمال هذه الصيغة الضبابية، سواء بالتكلم عن رئيس البلاد الذي يعبد ذاته، ويُدعم من كل العالم، ويدمر البلاد، ويقتل ويشرد العباد، وهو راض عن نفسه ودوره، هو مجرد أداة. كذلك اولئك الثمانية المتماثلين في كل شيء الذين تحط الطائرة بهم يعقدون اجتماعا، يبرمون اتفاقا، يوقعون أوراقا، ويعودون من حيث أتوا، انهم القوى العظمى التي سلمت البلد للنظام لحرقها وتدميرها وقتل شعبها وتهجيرهم. عقدوا الاتفاقات ودعموه ومنعوا سقوطه… الخ.
تبدأ الرواية من مشاهد مدينة مدمرة يعيث بها الخراب، والقطط والكلاب، والقناص سيد المكان لا يترك مكانا آمنا، حوّل المدينة لمدينة رعب، اي متحرك في دوائر الموت مهدد بالقنص والموت، صاحبنا الراوي يعيش معاناة شاب لم يمت للآن -صدفة- مما حصل في سورية، يتصرف الراوي وكأن من البداهة معرفة أن شعب سورية ثار على النظام المستبد، وأن النظام لم يقبل ان يتنازل للشعب، وانه واجه الناس بالقتل والحديد والنار وتدمير المدن وتهجير اهلها، وان هذا الرد من النظام استدعى ردا من الشعب، وتشكلت المجموعات المسلحة لمواجهة النظام، والتي أدت لصراع جعل بعض البلاد تحت سيطرة هذه المجموعات، والبعض الآخر ما زال تحت سيطرة النظام، واصبحت سورية بعد ذلك مسرحا لصراعات إقليمية ودولية، تحصل على أرضها وبدماء شعبها، كل السوريين خاسرين كما يقول الراوي، سورية التي تركت للموت العلني العام، لا غالب ولا مغلوب، تأبيد النظام المستبد القاتل، وتخليق جماعات مسلحة، دخلت عالما جديدا عليها، اعطت للنظام مبررا أن يدمر البلد ويقتل الشعب تحت دعوى أنه يحارب الارهاب، كما ان الجماعات المسلحة كانت عشوائية وقادتها من قاع المجتمع وبعضهم من أصحاب الجنايات والجنح السابقة، وبعد فترة يكتشف الناس أنهم خرجوا من جحيم النظام إلى جحيم الجماعات المسلحة. في هذا الجو قرر صاحبنا أن يغادر سورية الى المنافي، اقتل سيارة أجرة بصحبة رجل وامرأة وابنته اضافة الى السائق، خمسة اشخاص يتحركون داخل البلاد متوجهين إلى الحدود للانتقال الى دولة مجاورة، حيث قرر صاحبنا ان يهاجر فارا بنفسه. اغلب الحدث الروائي في السيارة وما يحصل معها ومع ركابها. السائق من طائفة النظام ويدافع عنه والرجل من الذين كانوا ضحية النظام، هناك حوار طرشان بين السائق والرجل، كل يدافع عن طرف، اطروحة السائق، تتركز على قدسية الوطن والنظام والجيش، وان البلد مستهدف وان الاعداء يريدون تدمير سورية وإسقاط النظام المقاوم للاعداء، وان الذين يحاربون النظام هم ارهابيون من صناعة اعداء النظام والشعب، أما الرجل فيكون رده، أن النظام قد أجرم واستغل وظلم الشعب على مدى عقود، وأن الثورة عليه هي الحل الامثل، وان كل الأخطاء من الثوار، هي تبعات حتمية الحرب التي أرادها النظام واستفاد من تبعياتها، وهكذا استمر الحوار والصراخ لكن دون نتيجة، كل يتمترس عند رأيه. الرجل كان من المجموعات المسلحة، وكان مساعدا لقائد ميداني، يعترف بالأخطاء ويعتبرها طبيعية، الصراع بين القادة الميدانيين، بعد ان حرروا المدن والبلدات من النظام كان بحجم سوء صراعهم مع النظام، القتل والحيلة والتعذيب والتنكيل، الرجل هارب بعائلته من قائد ميداني كانوا يريدون تصفيته لصالح آخر، لكنه سبقهم صفى البعض وهرب البعض ومنهم هذا الرجل وعائلته، أما ابنته التي تبادلت النظرات مع الراوي صاحبنا عبر مرآة السيارة، كانت تخبره اشياء واشياء، تذكره بحبيبته هناك في سورية، حبيبته التي وقعت ضحية قصف على مقصف احدى الجامعات و قيل إن الجماعات المسلحة من قامت به، إصابتها القذيفة وحولتها الى اشلاء، الحبيبة التي ماتت جعلت صاحبنا يزداد يأسا ويدرك أن ما كان يربطه بالبلد قد مات، وسارع بالمغادرة، الفتاة تشبه حبيبته، والفتاة كانت من بلدة استطاع الثوار أن يحرروها من النظام، الفتاة وقعت ضحية خلاف والدها مع بعض القادة الميدانيين، وتآمره على البعض مع البعض، حيث انتقموا منه، بأن هاجموا بيته و اغتصبوا ابنته تحت عين وحضور أمها، وتُركت لتخبر والدها نتيجة خيانته، هرب الأب و الأم والفتاة الى الخارج خوفا من الأسوأ، كان والدها قد وعد أحد القادة بان يزوجها له، الفتاة تعيش أحاسيس الانسانة المغتصبة الهاربة من الجحيم الى الجحيم، والدتها الضعيفة، ووالدها التاجر الذي يبيع كل شيء حتى عرضه. صاحبنا تبادل مع الفتاة النظرات، قارنها مع حبيبته المقتولة، استعاد بعضا من الامل، لقد اعطته الدنيا بارقة نور جديدة لروحه، لعله يحبها ولعلها تحبه، كان يفكر هكذا. كان الطريق طويلا مليئا بالحواجز، حواجز النظام التي يتناوب عليها عساكر يريدون الانتقام من الهاربين لان لهم اهل واصدقاء قتلوا على يد الثوار، او يعتبرون الحواجز مركز جباية وسطو غير مباشر على أموال العابرين لكي يعبروا. كان لبعض المناطق على الطريق صعوبات اخرى، فبعض أجزاء الطريق يحكمه الثوار، والبعض عصابات اجرام وسرقة، توالدت على هامش الحرب السورية، كان لبطء الحركة وتوقفها احيانا، واللجوء لأحد الفنادق على الطريق، فرصة للتعارف بين صاحبنا والفتاة التي اسمها شمس، تعارف ولقاء وحب ومعرفة كل منهم لحكاية الآخر، أصبح بينهم حب ووصال جسدي، و تواعدا على الزواج، وان يساعدها على الهرب من اهلها عندما يصلا الى البلد المجاور ويتجوزوا ويذهبا معا في رحلة غربته. وصلت السيارة بعد طول سفر وخوف وتوقيف حواجز الى الحدود. حيث يتم اعتقال الوالد لمعرفتهم كونه من الجماعات المسلحة، واستمرت الرحلة بصحبة السائق وشمس وامها، أصبح صاحبنا شبه مسؤول عنهما. وعند عبور الحدود وفي المنطقة الفاصلة بين الحدودين، وقعت السيارة تحت وابل إطلاق نار بين أطراف متصارعة، أدت لمقتل الام والسائق، وتم إنقاذ صاحبنا وحبيبته شمس من قبل عائلة على الحدود، يتعرفوا عليهم كزوجين، يساعدهم رب الاسرة وكذلك عائلته. في تلك الاثناء يقرر صاحبنا ان يعود الى بلدته المدمرة لعله يعيد بناء حياته. لم يستطع تحمل فكرة الهجرة والاقتلاع، خاصة أن رئيس البلاد المحمي من كل العالم طالب الناس بالعودة ليعيدوا إعمار البلاد التي كان قد دمرها. كما ان هناك في بلده مازال صديق عمره الطبيب الذي نذر عمره لمساعدة المصابين من الطرفين واسعافهم، اعتقد انه سيجده هناك ويساعده باعادة تأسيس حياة جديدة مع زوجته شمس. قرر صاحبنا أن يعود الى بلدته المدمرة والتي لم يبقى من معالمها الا الخراب وصراع الكلاب والقطط على بقايا جثث الناس المقتولين، وقناص متربص بكل ما يتحرك. وصل وزوجته إلى مكان قريب من مسكنه المهدم ولا يوجد فيه إلا القليل من الناس، استقبله جاره القديم ببعض ارغفة الخبز، طلب من زوجته شمس أن تنتظره ليبحث عن صديقه الدكتور، غادر متحاشيا أن يكون ضحية القنص، وجاءت الطائرات المحملة بالبراميل المتفجرة، وضربت قرب مكان زوجته، عاد الى هناك وجن جنونه، لقد فقد حبه مرتين، لقد ندم على عودته. يحضر صديقه الطبيب ويبحث عن زوجته ويجدها حية، وينقذها من تحت الانقاد.
هنا تنتهي الرواية، في الرواية أيضا محطات بمثابة حواشي توضح الصورة ليكتمل العمل الروائي ما بين العام والخاص. في الرواية اشارة على ان واقع سيطرة النظام وتدمير سورية وقتل وتشريد الشعب، حصل بناء على توافق دولي وصراع فرعي اقليمي خدم هذا الصراع للوصول الى ما وصل إليه، بحيث أصبح السوريين مجرد أدوات في لعبة الكبار. كما ان الرواية تومئ الى توافق دولي اقليمي على استمرار النظام رغم كل شيء، فلا حساب على ما فعل، ولا محاسبة على استعمال الكيماوي، ودائما يتفق الكبار ويكون السوريون الضحية تحت الطلب. لا يغير من ذلك الايحاء بجنون العظمة لرأس النظام ولا انفصاله عن الواقع، ولا تراكم اجرامه ليصل الى ذروة لم تحصل من رئيس دولة بحق شعبه من ظلم وقتل وتدمير وتشريد عبر التاريخ.
في تحليل الرواية نقول:
نحن أمام رواية محبوكة بشكل متكامل توصل رسالتها الخاصة والعامة بكل وضوح، لكن الرواية لم تجب عن سؤال مركزي لا تكتمل الصورة دون الاجابة عنه: لماذا ثار السوريون؟ إن عدم الإجابة بدقة عن مظلومية مجتمعية دامت لعقود، وولادة طبقة اجتماعية عسكرية امنية تعتاش على ظلم وقهر الشعب وسرقة خيرات البلد، وامتلاء السجون ومحاسبة أي معارض، جعل الشعب قطيعا في مزرعة النظام، عبيدا حقيقيين، في حضرة حكام الهة…الخ. عدم وضوح هذه المبررات للثورة، جعل الكاتب ينتقل إلى النتائج عن أن عنف النظام أدى لعنف الثوار ومن ثم تساويهم في الظلم والأخطاء في الواقع العياني، نعم هذا صحيح بالمباشر، لكن في البحث عن السبب الحقيقي سيكون النظام خلف ظواهر السرقة والرشاوي والعصابات، ابو الوليد حارق الحمير وابو هديل سارق النحاس، هم ابناء النظام وصناعته، ولو انتهوا قادة لفصائل مسلحة تدعي انها مع الثورة، كما ان معتقلي الإسلاميين الذين تأثروا واصبحوا جذريين وسلفيين ومعقدين وحاقدين بسبب الاعتقال والظلم في السجون، لذلك عندما أطلق سراحهم، كوّنوا المجموعات المسلحة السلفية وكان أخطرها داعش والنصرة، كل ذلك من فعل النظام. الذي منع اي مناخ إنساني لنشأة طبقة فكرية سياسية متنورة تنير الدرب أمام الناس للحياة الافضل. ثم الغائب الآخر في الرواية هو الحديث عن النظام نفسه، الذي ثار الناس عليه. نظام ولد الشباب الذين ثاروا وعاشوا كل عمرهم تحت نير قهره وظلمه. نظام استحوذ على البلاد عبر عقود انقلابات عسكرية ابّدت الاسد الاب منذ ١٩٧٠م حاكما مطلقا للبلد، هيمن على البلد عبر الجيش والامن وحزب البعث الذي حوله لاداة لخدمته، جذب اليه اغلب الطائفة العلوية على أنه سيجعلها سيدة للسوريين، جعل أبنائهم عسكرا ضباطا وجنود ومرتزقة، وجعلهم مخابرات تقض مضجع الناس، وعندما حاول الناس مواجهة ظلم الاسد الاب أباد جزء من الدولة قتلا وتدميرا في حماة وحلب وجسر الشغور في ثمانينات القرن الماضي، وأودع اغلب المعارضين الديمقراطيين السجون، كما أن الأسد الابن حاول أن يعدل صورة الاب في أول حكمه الذي جاء اليه بشكل وراثي عام ٢٠٠٠م، واندفع الناس الى حراك تم قمعه مجددا، بعد أمل بمناخ ديمقراطي. وكان تتويج قمع النظام للشعب السوري، في زمن الرواية، أكثر من مليون قتيل ومثلهم مصاب ومعاق أكثر من نصف الشعب السوري يعني اثنا عشر مليون لاجئ داخل سورية وخارجها، نصف سورية مدمر، سورية مقسمة ومحتلة من روسيا وامريكا وايران وحزب الله وميليشيات طائفية ومناطق نفوذ لل ب ي د وال ب ك ك، وتركيا وبعض الدول الأوروبية….الخ. في هذا المناخ والواقع يحق للكاتب التحدث عن الثوار والمعارضة والمجموعات المسلحة، وحتى السياسيين الذين يدعون تمثيل الثوار والشعب السوري، واخطائهم بالقياس مع اخطاء النظام عدو الشعب الأول والأكبر. لا نبرر الخطأ ولكن نحيل حجمها لواقعها الحقيقي.
كما أن الرواية توضح جزئيا كيف سمح الغرب والقوى المتحكمة دوليا بالوصول الى ما وصلت إليه الحالة في سورية ودول الربيع العربي. اسقاط نموذج الربيع العربي المطالب بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، واستمرار مصالح العدو الصهيوني واستمرار دول الاستبداد والقمع، واستمرار نهب خيرات العرب من نفط وغيره. و استمرارنا عبيدا في بلادنا الى امد بعيد.
أما عن الأمل في ختام الرواية عند العثور على شمس… فلا ارى له أثر في مسار الحكاية السورية. حيث سيأخذنا المسار السياسي الآن إلى إعادة تأبيد النظام بكل إجرامه على رقابنا الى مدى غير منظور. للاسف.
كل ذلك يمثل المناخ العام للرواية التي اعترف بانها انارت جانبا مهما من حكاية الثورة السورية.