تتأسس العملية الثورية في أي بقعة من العالم، بدلالة قربها من الهم العام للناس، وبمدى قدرتها على محاكاة متطلبات شعبية، كانت قد افتقدتها، عبر سنيها الخوالي، ومن ثم فإن العودة إلى ممارسات عصبوية، وتغولات أمنية في الواقع السوري في الشمال /خارج سيطرة النظام، يعيد المسألة وببساطة إلى المربع الأول، يوم خرج الناس في كل أرجاء الوطن السوري منادين بالحرية والكرامة، وبذلوا الأرواح وضحوا بخيرة أبناء سورية، من أجل إنجازها.
ولعل ما جرى ويجري اليوم في الشمال السوري الذي يُفترض أنه (المحرر)، وخاصة في مدينة عفرين، يشير وبوضوح إلى انحرافات بنيوية عن كل مسارات العمل الوطني الثوري، ويؤشر إلى حجم الكارثة الذي تم دفع السوريين إليها، سواء عبر ممارسات ممنهجة من قبل النظام السوري المجرم، أو عبر سياسات إقليمية ودولية لم يكن همها في يوم من الأيام إلا مصالحها، وبعيدًا كل البعد عن نصرة ثورة الشعب السوري في الحرية والكرامة، ولكأن نظام الاستبداد بدوره الوظيفي، وهو الذي كان ومازال يخدمها، هو القادر الوحيد على تلبية طلبات أمن إسرائيل، ومصالح تلك الدول برمتها. وإذا كان الانفلات الأمني في شمال سورية، يقض مضجع السوريين بشكل يومي، فإن الصمت عليه (هو الآخر) جريمة لا تقل عن حجم المشكلة بحد ذاتها، وتتحمل مسؤولية ذلك كل فصائل المعارضة المسلحة والسياسية، وكذلك الدول الضامنة، التي آلت على نفسها إنجاز الأوضاع الأمنية المستقرة، كي تشعر المواطن السوري بأمنه وأمانه. لكن الوقائع التي تجري والتفلت والانفلات، وانتشار السلاح بين أيدي الجميع، وعدم وجود آليات لضبطها، يساهم ويؤجج الحالة المنفلتة من عقالها، ويكشف المستور.
نحن ندرك تمام الإدراك أن الأوضاع غير المستقرة، وغياب وتغييب الحكومة المؤقتة، وعدم قدرتها على إيجاد ضابطة شرطية مدنية، والسياسة العشوائية الانفعالية، غير المرتكزة على أسس علمية، وهي عادة ما تبنى عليها الدول، التي تود النهوض أو الاستقرار، ما يساهم أيضًا في الوصول إلى هذا العبث بأرواح الناس الذي فروا من منازلهم، وكان قد هجرهم النظام من مناطق أخرى، فجاؤوا إلى هنا بحثًا عن الأمان. لكن الجلوس على طاولة حوار مسؤولة، والتعاطي مع المسألة بجدية حقيقية، دون النظر الى المصالح الأنوية البينية، البراغماتية، ونقد الذات، والاشتغال بحزم على لجم حقيقي لكل من تسول له نفسه العبث بأمن الناس، فالسلاح وجد لدى (جيش الإسلام) أو (الحمزات) أو أي فصيل آخر من أجل الدفاع عن المواطن السوري، في مواجهة البغي الأسدي، وليس من أجل قتل الناس المدنيين أو التغول على مقدراتهم ورزقهم اليومي، في ظل واقع مأسوي لا يخفى على أحد.
ويبقى السؤال الذي مازال يطرحه الناس على أنفسهم وعلى هذه الفصائل: هل الشعب السوري ضحى بالغالي والنفيس من أجل تغول فصائلي على حيوات البشر، وهل نسيت هذه الفصائل أو بعضها، ما جرى في الغوطة الشرقية أو شمال حلب وإدلب، عندما انشغلت بمعارك جانبية بينية أدت إلى ما أدت إليه عبر تمكن النظام من اقتلاع هذه الفصائل من مجتمعاتها، ومنازلها؟ ألا يكفي ما حصل في السابق؟ وهل نعيد الكرة، ونسمح لبعض ذوي النفوس الضعيفة أن تستمر في حرف الثورة عن مسارها وقيمها ومبادئها التي خرجت من أجلها أو استشهد أكثر من مليون سوري وهجر نصف الشعب السوري، واعتقل ما يزيد عن 400 ألف، وتم تهديم 60 بالمئة من سورية، وتعويق أكثر من 300 ألف كإعاقة حرب. ألا يكفي كل ذلك لنعود إلى رشدنا ونحاسب المسيء ونجعل القانون هو السيد، وليس أي فصيل أو أي مجموعة مهما كانت قدراتها؟
الوضع المأساوي في الشمال السوري يزداد سوءً ويفترض أنه بات يدق ناقوس الخطر، ويدفع الجميع دفعًا من أجل ضبط الحالة المنفلتة من كل عقال، وإعادة تأسيس جيش وطني سوري قوي بحق، يحمي أمن الوطن والمواطن، ويساهم في لجم كل أنواع التغول على حرية وكرامة السوريين، دون رحمة، فلا دولة قادمة دون ضابطة أمنية وعدلية، تؤسس إلى عمل تراكمي منجز، يسود فيه القانون، ويُنحّى جانبًا كل فصيل أو مجموعات لا تقبل بالانضواء تحت سقف الفانون.
ما جرى ويجري ينبه إلى ضرورة وأهمية الإسراع في إنجاز الأسس التي يُتفق عليها، ويلتزم فيها الجميع، ويحاسب المقصر، ويمنع الفلتان الأمني من تحقيق مصالحه، التي تبتعد عن مصالح عامة المجتمع. وهي كما أشرنا مسؤولية الجميع بلا استثناء، وأولوية باتت ملحاحة، ولا تقبل التأجيل. فهل الفصائل، وارتباطاتها، والائتلاف والحكومة المؤقتة بقادرين على تحقيقها؟ سؤال ما يزال برسم (المتنطحين) للإمساك بالمرحلة والإجابة عليه عمليًا وليس نظريًا مسؤوليتهم جميعًا.