بين طرفَين سودانيين لا يبحثان، حتى الآن، عن تسوية أو حل وسط، لا تعرف القوى الدولية والإقليمية كيف تتدخّل، رغم أن الوضع دقيق ويتطلّب التدخّل، وإلّا فإنه مرشح للانزلاق الى حرب أهلية في بلد ينطوي على كل عناصر الانقسام والتفكّك. وعندما تفشل الدعوات الى وقفٍ فوري للقتال والاحتكام الى الحوار فإنها تتحوّل شيئاً فشيئاً الى نوع من استدراج عروض للتدخّلات. كان الجيش و”قوات الدعم السريع” أوحيا للقوى الخارجية بأنهما متعايشان ومتفاهمان ومتضامنان، أو أنها توقّعت صداماً حتمياً بينهما لكنه مؤجّل حتى اشعار آخر بعيد، لذا استمرأت لعبة الجيشين، والقائدين، فعملت مع الاثنين وعاملتهما على قدم المساواة ولا تفضّل واحداً على الآخر إلا بمقدار ما تنجح في استدراجه الى تنازلات. وراح كلٌّ من عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، من جهتهما، يتباريان في استقطاب “الحلفاء” لتدعيم موقعه في السلطة.
تتمايز القوى الخارجية إما بما لديها من مصالح واستثمارات تريد الحفاظ عليها في السودان، أو أنها دخلت حديثاً في تنافس لاستقطابه والمراهنة على نيل مصالح فيه. وبما أن البلد شهد ثورة وارهاصات لانتقال سياسي من حكم عسكري الى حكم مدني، فقد دخل هذا التغيير في حسابات الدول على اختلافها مع تنصيب حكومة انتقالية برئاسة عبدالله حمدوك في 2019، لكن العسكر انقلبوا عليه في 2021 فزجّوا البلد وأنفسهم في أزمة كبيرة عجزوا خلالها عن ترسيخ سلطتهم مجدداً ثم اضطروا للتلويح بتنازلات أهمها الخروج من الحياة السياسية وإخضاع مؤسساتهم الاقتصادية لإشراف “الحكومة المدنية” التي ستنشأ تنفيذاً لاتفاق سياسي جديد. ومعروفٌ أنه أمكن التوصّل الى هذا الاتفاق بجهود الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”) وضغوط الرباعية الدولية (الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والامارات).
لا تزال هذه الجهات تدعو الى العودة الى هذا الاتفاق، كأساس لحلّ الأزمة، لكنه أعدّ في سياق مختلف تماماً، وأفقده الاقتتال الكثير من زخمه، فضلاً عن أنه ربما يصعب اعتماده قاعدة سياسية لوقف الاقتتال. فحتى لو تمّ التغلّب على الصعوبات للحصول على وقف إطلاق النار وإجلاس الطرفين العسكريين الى طاولة المفاوضات، سيتبيّن أن أولوياتهما تغيّرت، وأن ثمة شكوكاً في أن يجدد أيّ منهما، خصوصاً الجيش، موافقته على التنازلات التي أقدم عليها سابقاً. فالجيش لن يكون متساهلاً إزاء أطراف مدنية تعاملت بحياد بينه وبين “قوات الدعم”، بل سيكون أكثر إصراراً على اتفاق سياسي يحظى بتأييد أطراف يعتبرها قريبة منه وكانت استُبعدت من المفاوضات نظراً الى ارتباطها بالنظام السابق أو لأنها تنتمي الى “الحركة الإسلامية” “الإخوانية” وتفضل دول مانحة عديدة اقصاءها عن المشهد.
أمكن بصعوبة شديدة فرض “هدنة عيد الفطر” لثلاثة أيام، وحُدّد لها هدفان: معالجة الوضع الإنساني وتمكين المدنيين من الابتعاد عن المناطق الخطيرة، والعمل على إجلاء الرعايا الأجانب. وعادةً ما يكون هذا الإجلاء علامة سيئة، ولا تلجأ إليه الدول إلا عندما تفقد الثقة في ضمان سلامة مواطنيها أو عندما تقدّر الموقف وتقرّ بالعجز عن التأثير في مجرى الأحداث. وهذا ما استنتجته من شراسة القتال في بعض المناطق، تحديداً في الخرطوم حيث يعتقد كل من الطرفين أنه سيحسم المعركة، ولم يتردّد الجيش في استخدام الطيران الحربي لقصف مواقع “قوات الدعم” في العاصمة رغم وجودها أو متاخمتها لأحياء سكنية. وتفتقد “قوات الدعم” للسلاح الجوي، علماً أن قائدها “حميدتي” حاول إقناع روسيا وتركيا وغيرهما بتزويده طائرات مسيّرة لكن من الواضح أنه لم يفلح، ثم أن حرب أوكرانيا أطلقت سباقاً الى المسيّرات لم يكن في مصلحته، غير أن إطالة الحرب وتبدّل الاصطفاف الدولي والإقليمي قد يساعدانه.
خلال الأيام الأولى للقتال تيقّنت الدول الراغبة في التوسّط من صعوبة المهمة. سرعان ما تناسى الاتحاد الأفريقي سفر رئيس مفوضيته “على الفور” الى الخرطوم، ولم تتمكّن الجامعة العربية من تفعيل وساطة اقترحها اجتماعها الطارئ، ولم تجد نداءات بعثة الأمم المتحدة أي صدى لدى الطرفين على وقع انتقادات من أنصار الجيش تحمّل رئيسها مسؤولية اندلاع الحرب، وبالكاد استطاع الأمين العام أنطونيو غوتيريش انتزاع “هدنة العيد” بعد مفاوضات مع البرهان و”حميدتي”، لكن احترام الهدنة كان متقطّعاً أو معدوماً في الخرطوم. وفي الأثناء تكثّفت الاتصالات بين مختلف العواصم لرصد ما يمكن عمله، طالما أن أي طرف لم يتمكّن من حسم المواجهة، وأن كلّاً منهما مصممٌ على إنهاء الآخر ويستخدم التضليل الإعلامي للتغطية على الواقع الميداني. إذن، فهذا هو الوضع الذي يقود حتماً الى حرب طويلة ويطرح كل الاحتمالات، خصوصاً أسوأها.
حين تتأكد استحالة الحسم الداخلي، عسكرياً وسياسياً، يُطرح التدويل تلقائياً، انطلاقاً من هاجس امتداد أزمة السودان الى الدول السبع المحيطة به، وإذا لم يؤدِّ التدويل السياسي الى نتيجة فإنه يُستبدل تلقائياً بالمراهنة على الوقت وعلى تمويل الحرب الأهلية، وفي هذه الحال تتعقّد الأزمة أكثر فأكثر ويخضع حلّها لميزان القوى على حساب الأهداف الوطنية. فمن جهة سينشط الطرفان الداخليان لرسم خطوط التماس بين المناطق، ومن جهة أخرى ستجد الأطراف الخارجية أن مصالحها تقتضي، كما هو الوضع الآن، التعامل مع الأمر الواقع المنقسم، الذي ربما يصبح أكثر تشظّياً مع وجود حركات مسلّحة في مختلف أرجاء السودان. ويُستدلّ من الاتصالات بين الدول كافةً أنها لم ترَ أي فائدة في تحريك مجلس الأمن، إذ إن الحدّ الأدنى المتوقّع سيكون مناشدة لوقف القتال، لكن الجيش لا يقرّ بهذه الصيغة لأنها تكرّس فكرة أن السودان أصبح طرفين، وتشكّل بداية “اعتراف (دولي) غير مباشر” بـ “قوات الدعم” وبدور مستقبلي لها.
لا شك في أن أفضل السيناريوات بالنسبة الى الداخل أن يتوقف القتال ويُستأنف الحوار على اتفاق عسكري “تاريخي” يتجاوز الخلافات الشخصية بين القائدَين ويُلزم الأطراف كافة داخل الجيش باحترام وحدته وعدم تسييسه بـ “إعادة تثبيت اسلاميي النظام السابق” في صفوفه. في المقابل لا بدّ أن يُعاد بالتالي تفعيل الاتفاق السياسي واستكمال الاجماع الوطني حوله كي تكون هناك دولة يستطيع المجتمع الدولي التعامل معها على قاعدة وحدة أراضيها والتوزيع العادل لمواردها لئلا تبقى التظلّمات المناطقية (دارفور، كردفان، قبائل الشرق…) أداةً لزعزعة السلم الأهلي. أما أخطر السيناريوات جرّاء إطالة الحرب فتكمن في استسلام المناطق لإغراءات الاستقلال والانفصال، سواء بالتواصل مع الدول المجاورة أم بالخضوع لتقاسم السودان قطعاً بين الدول المعنية.
المصدر: النهار العربي