مبادرة “قسد” للحل في سياق التطبيع مع النظام السوري

بشير البكر

تقدمت “الإدارة الذاتية” التابعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بمبادرة للحل في سورية، بضوء أخضر أميركي، وبالتزامن مع الانفتاح الإقليمي على النظام السوري، الأمر الذي يشكل مصدر أهميتها، والمدخل للاهتمام بها من قبل الأطراف المعنية بالمسألة السورية.

تتضمن المبادرة، التي أعلنت عنها “الإدارة الذاتية” في 18 إبريل/نيسان الحالي خلال مؤتمر صحافي في مدينة الرقة، تسع نقاط، منها الاعتراف بوحدة سورية، مع ضرورة الاعتراف بالحقوق المشروعة لمكونات المجتمع السوري، واعتماد نموذج الإدارة الذاتية في كل البلاد، وتوزيع عادل للثروات بين كل المناطق السورية.

ومن النقاط التي جاءت عليها المبادرة، التأكيد على استعداد الإدارة لاستضافة النازحين واللاجئين في مناطق سيطرتها، ومكافحة الإرهاب. ومقابل تأكيد “الإدارة الذاتية” على خروج القوات التركية من الأراضي السورية، دعت الدول العربية والأمم المتحدة وجميع القوى الفاعلة في سورية إلى تأدية “دور إيجابي وفعال”، يضمن حلاً مشتركاً بينها وبين النظام والقوى الوطنية الديمقراطية (المعارضة).

هذه ليست المرة الأولى التي تتقدم فيها “قسد” بمبادرة للحل، ولكنها الأولى التي تطرح بعض الاقتراحات القابلة للدرس والتطبيق، في ظل الوضع السوري الذي يعيش جموداً تاماً ويفتقر إلى مساعي جادة للحل.

أهداف مبادرة “قسد”

أهداف “قسد” من المبادرة متعددة، يأتي في الصدارة منها حجز مكان على طاولة مفاوضات الحل عندما يأتي أوانها، فهي لا تريد أن يتحرك قطار التسوية من دون أن يكون لها مقعد محجوز سلفاً.

وهي بذلك تتقدم إلى حجز المقعد بنفسها، ولا تنتظر من أحد أن يقوم بذلك. والهدف الثاني هو أنها تحاول أن تظهر بمظهر من يبدي قدراً من “البراغماتية” والتعامل مع التطورات على نحو استباقي، من خلال طرح رؤيتها التي تخولها أن تكون شريكاً في الحل، قبل أن يُفرض الحل عليها، وذلك بعد بدء خطوات الانفتاح عربياً على النظام، وعدم وجود ممانعة أميركية فعلية.

والهدف الثالث هو أن “قسد” تعمل على اعتراض طريق أي اتفاق مستقبلي من قبل أطراف الحل السوري تكون فيه مستبعدة أو ضحية، فبدلاً من أن تتفق الأطراف ضدها، تعمل على تعطيل هذا الاحتمال، ولا سبيل أمامها سوى أن تكون طرفاً أساسياً في الحل.

تكمن خلفية المبادرة في مخاوف “قسد” من أن يكون الانفتاح الإقليمي على النظام على حسابها، وهذا يعبّر عن استشعار الطرف الكردي ببداية توافق روسي إيراني تركي على إعادة تأهيل النظام. ويأتي تحرك “قسد” ليؤكد أن التوافق الثلاثي هو الوحيد المطروح سبيلاً للحل، في ظل استقالة الولايات المتحدة وأوروبا من أي دور جدي.

التوافق الذي يجرى العمل عليه بإدارة روسية يتقدم ببطء حتى الآن، ولكنه قطع شوطاً على طريق بناء تفاهمات بين النظام السوري وتركيا، ونجحت موسكو في عقد عدة لقاءات أمنية وسياسية بين مسؤولين أتراك ونظرائهم من ممثلي النظام وإيران وروسيا.

وهناك مخاوف فعلية لدى “قسد” من أن تتوحد مواقف روسيا وإيران وتركيا ضدها، وتدرك أن التنازلات التركية للتطبيع مع النظام السوري هدفها الحصول على مقابل وهو تفكيك مشروع “قسد” للإدارة الذاتية، وهو ما لم تنجح فيه أنقرة عسكرياً، بسبب الدعم الأميركي الذي تتلقاه هذه الإدارة.

شهادة جويل ريبورن

وكشفت شهادة المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى سورية جويل ريبورن أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، في 18 إبريل الحالي، عن عدة مؤشرات حول موقف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من التطبيع مع النظام السوري، تجعل الأطراف المعنية بالمسألة السورية تراجع مواقفها.

المؤشر الأول هو، حسب ريبورن، أن مسؤولي إدارة بايدن، شجعوا العواصم العربية على تطبيع علاقاتها مع نظام بشار الأسد، وشجعوا جيران سورية على ضم الأسد إلى صفقة طاقة إقليمية، وأكدوا للعواصم العربية والأوروبية والبنك الدولي أن “قانون قيصر” لا يجب أن يكون عائقاً.

المؤشر الثاني هو أن مسؤولين كباراً في إدارة بايدن أبلغوا نظراءهم العرب أنهم يفضلون رؤية الأسد يستعيد العلاقات الطبيعية مع العواصم العربية، بدلاً من رؤية روسيا تتوسط في صفقة تطبيع بين الأسد وتركيا، لأن الأخيرة ستزيد من خطر هجوم تركي جديد ضد الولايات المتحدة و”قوات سوريا الديمقراطية” المتحالفة معها.

أما المؤشر الثالث فهو أن مسؤولي إدارة بايدن لم يحذروا أي طرف من أن استعادة العلاقات الطبيعية مع الأسد قد تؤدي إلى تعرضهم لعقوبات أميركية، إذا كان الأمر يتعلق بعلاقات اقتصادية من أي نوع.

ونقل ريبورن كل هذا الكلام عن مسؤولين عرب، وليس من الإدارة الأميركية، وقاله في الكونغرس، الأمر الذي ولّد انطباعاً بأن مسؤولي الادارة يرغبون في تنفيذ استراتيجية تطبيع تجاه الأسد، ولكن عبر القيام بذلك خلسة، وتشجيع الآخرين على الذهاب في هذا الاتجاه وخلق وضع يمكن تقديمه في واشنطن على أنه أمر واقع.

الواضح من الشهادة هو أن وضع “قسد” مهم بالنسبة للإدارة الأميركية، فهي شريك أساسي في الحرب على “داعش”، خصوصاً في ما يتعلق باحتجاز مئات من مقاتلي التنظيم الذين جرى اعتقالهم بعد معركة الرقة.

وتعد حراسة “قسد” سجنَ الحسكة الذي يضم مئات الدواعش، ومعسكر الهول الذي يستقبل آلافاً من عائلات التنظيم من سوريين وغير سوريين، مسألة ذات حساسية عالية بالنسبة لواشنطن، خصوصاً أنها لم تحاكم هؤلاء أو تقنع بلدانهم باستقبالهم.

وتطمح “قسد” لأن تكون طرفاً فاعلاً في الحل، ولذلك قدمت ما يشبه الحلول الوسط لمشاكل تعد صعبة، مثل قضية اللاجئين السوريين في تركيا، الذين ترغب أنقرة في عودتهم إلى بلدهم ويرفض النظام ذلك.

تطرح “قسد” استقبال هؤلاء في المحافظات الثلاث التي تسيطر عليها في شمال شرق سورية، وهي الرقة، دير الزور، والحسكة. وترى “الإدارة الذاتية” أن هذه المنطقة يمكن أن تستقبل عدة ملايين، لكونها تشكل أكثر من ثلث مساحة سورية ومصادر ثرواتها من النفط والحبوب والقطن.

وقد يشكّل ذلك مخرجاً لـ”قسد” نفسها ويجنبها الصدام مع تركيا، ولكنه يمكن أن يصبح طريقاً لاستدراجها على الطريقة الروسية، كما حصل مع فصائل المعارضة المسلحة في مسار أستانة، الذي انتهى بتهميشها بعد أن تنازلت عن مناطق خفض التصعيد في مقابل إغراءات وهمية.

تدرك “قسد” أن الإدارة الأميركية لن تتخلى عنها، وهي تشجعها على حل مباشر مع النظام كي تحمي من خلاله نفسها، غير أنها لن تتدخل في حال تعرضت إلى هجوم من تركيا بمفردها أو من الأطراف الثلاثة معاً: روسيا، إيران، تركيا. وهذا وارد في ظل اتجاه إعادة تأهيل النظام.

“قسد” مقتنعة بقدرتها على التفاهم مع النظام السوري

ويسود انطباع لدى قيادة “قسد” أنها قادرة على إيجاد صيغة تفاهم مع النظام، وأحد أسباب ذلك هو الصلات الجيدة بينها وبينه، والتي تعود إلى بدايات الثورة السورية في عام 2011، عندما حصل اتفاق بين النظام وحزب “الاتحاد الديمقراطي”، الجناح السوري لحزب “العمال الكردستاني”.

ويعزز من قناعة “قسد” أنه بالإضافة إلى أن صلاتها بالنظام لم تنقطع طيلة الأعوام الماضية، توجد مصالح مشتركة بين الطرفين، خصوصاً أن النظام لا يمتلك الأدوات الكافية لبسط نفوذه مباشرة على المحافظات الثلاث، وسيعتمد على “قسد” من أجل ذلك، ليتمكن من الأمر بطريقة تدريجية.

وهناك إشارة مهمة تسترعي الانتباه، وردت في بيان “قسد”، هي إعلان “الإدارة الذاتية” عن استعدادها للحوار مع جميع الأطراف السورية، النظام والمعارضة. وهذا جديد على مستوى موقفها من المعارضة، وخاصة المتحالفة مع تركيا.

“قسد” والتطبيع مع النظام

وفي كل الأحوال، لم يكن في وسع “قسد” أن تسترسل في رؤيتها للحل من دون وجود سياق جديد للوضع السوري، أملته تطورات تطبيع العلاقات العربية مع النظام، وعلى نحو خاص زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى دمشق، التي أعطت النظام جرعة دعم مهمة.

بعيداً عن تصور “قسد” للحل في سورية، هناك مصاعب كثيرة تحول دون اللقاء بينها وبين النظام في منتصف الطريق. وعلى مستوى النظام، لا يمكن أن تكون بورصة التنازلات مفتوحة، وما في وسعه أن يقدمه لا يلبي السقف العالي لمطالب “قسد” الخاصة بالإبقاء على “الإدارة الذاتية”.

قد يقوم النظام بتحسين العروض التي قدمها في بداية الثورة لحل المشكلة الكردية المزمنة في سورية، لجهة تسوية أوضاع الجنسية لأكثر من 100 ألف كردي، والسماح ببعض الحقوق الثقافية، ولا يمكن للأسد أن يذهب بعيداً في هذا الموضوع، وسبق له أن اعتبر القضية الكردية “وهم كاذب”.

أما بالنسبة إلى “قسد”، فهي بحاجة إلى مواءمة نفسها مع احتمال استعادة النظام المحافظات الثلاث، وهذا يتطلب عملية التفاف صعبة تفرض عليها التفكير بمصير جيشها الكبير الذي يتجاوز 100 ألف مقاتل، بما في ذلك إدماجه بقوات النظام، وهذا أمر يحتاج إلى وقت.

يبقى أن قبول النظام مبادرة “قسد” من عدمه ليس هو العامل الحاسم، ويتوقف الأمر على روسيا وإيران، ومدى استعدادهما لاستيعاب “الإدارة الكردية” ضمن ترتيبات إعادة تشكيل النظام السوري من جديد.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى