(مقدمة)
في الذكرى السنوية الثانية لرحيل محمد خليفة، رحمه الله، الباحث والكاتب الصحفي، والمناضل ضد نظام آل الأسد طوال سني حياته، نعيد نشر دراسة قيمة له، تكريماً ووفاءً وتذكيراً بمواقفه الوطنية المبكرة ونظرته الاستشرافية. الدراسة كتبها ونشرها على أربع حلقات، وباسم مستعار: “خالد العربي”، في مجلة “النشرة” التي كانت “تعنى بشؤون حركات التحرر العربية والعالمية” مساهمة منه في إطار ملف كبير عملت عليه، النشرة حينها، تحت عنوان: (أزمة المعارضة السورية).
الدراسة نشرت في الأعداد 119حتى 122 في الفترة الممتدة بين شباط/ فبراير 1989 حتى نيسان/ أبريل من العام نفسه.
في هذا الصدد الشكر الجزيل للأخ محمود خزام رئيس تحرير مجلة النشرة الذي قدم لنا ما يملك من اسهامات راحلنا الكبير محمد خليفة في المجلة المذكورة.
اليوم، في ظل المحنة السورية كم نحن بحاجة، لمحمد خليفة وأمثاله، لقلمه ورؤيته ومواقفه.؟
***************************
من أكثر الأخطاء شيوعًا تحديدُ المعارضةِ بالمعيار «الحزبي» فقط.
المعارضةُ النخبوية من أهمِّ الأطرِ والوسائل التي ظهرت في السنوات الأخيرة.
الشعب السوري منفصلٌ انفصالًا كاملًا وشبهَ مغلق عن النظام.
علينا المحافظة على الطائفة العلوية وعلى تاريخها الوطني المشرف
من هي القوى المعارضة…؟ وما هي أشكال المعارضة في سوريا…؟ عن هذين السؤالين يُجيب زميلنا «خالد العربي»، في الحلقة الثالثة من دراسته الهامة عن أزمة المعارضة السورية: بوجود ثلاثةِ أشكال رئيسة للمعارضة حاليًّا، أولها: المعارضة السياسية المنظمة (أحزاب، ومنظمات)…وثانيها: المعارضة النخبوية (أفراد، وفئات، وجمعيات عديدة)…وثالثها: تشكل الغالبية، وهي المعارضة الشعبية غيرُ المؤطرة…هنا الحلقة الثالثة الخاصة بالشكلين الثاني والثالث للمعارضة…
في مقدمة هذا الجزءِ الثالث من دراستنا عن سوريا في حقبة الأسد)، وهو جزءٌ مخصصٌ عن قوی وأشكال المعارضة، لا بدَّ أن نؤكد:
1ـ أنَّنا نعبِّر عن وجهة نظرٍ شخصيةٍ لا حزبية، رغم وجودِ صلةٍ أو تبنٍ لرأي تنظيمات المعارضة السورية، من جانبنا.
2ـ وهي وجهةُ نظرٍ تحاول أن تكون محايدةً بعضَ الوقتِ تجاهَ جميع قوى المعارضة، وذلك بهدف اكتسابِ النظرة الموضوعية المتجردة.
3-وهي في الوقت نفسِه تتبَنَّى القاسمَ المشترك من جميع هذه القوي، أي أنَّها تتبنَّى «موقف المعارضة» مجتمعة، في نقطة التقائها غيرِ المباشر حول مناهضة النظام القائم في وطننا الغالي.
4-نحاول أيضًا تناولَ المسألة، تناولًا بحثیًّا نقديًّا، لا تعبيرًا ولا تمثيلًا لوجهة نظرٍ سياسيةٍ حزبيةٍ محدَّدة، بهدف توكيدِ التفاعل والتضامن والتعاطف مع جميعِ قوى المعارضة على الدرجةِ نفسِها في إيجابيَّاتها، وفي سلبياتها، بلا تحاملٍ أو مجاملة مع أيٍّ منها، ونترك وجهةَ النظر السياسية أو الأيديولوجية التي نتبنَّاها إلى مكان آخر، ووقت آخر…وتحديدًا نتركُها إلى سياق العمل الوطني وإطار القضايا التفصيلية.
5ـ نطمح أن تكون هذه الدراسة، مع الأخريات اللواتي كتبها أخوةٌ ورفاقٌ وأصدقاءُ تعبيرًا عن رغبة في الحوار الخلَّاق، الذي يقدم للعمل السياسي الميداني دفعةً إلى الأمام، لا أن تكتفيَ ب: (قل كلمتك وامشِ).
6-كما نطمح أخيرًا أن يحاول جميعُ المعارضين، قوىً وأفرادٌ تجاوز الذاتية، وتقبل النقد، والنظر إلى انتقادات الآخرين ليس بوصفها سهامًا معادية، وإنَّما باعتبارها رياحًا محملةً بالطلع.
المعارضة في سوريا:
من أكبر «الأخطاء» التي وقع بها الكتَّابُ الذين ساهموا في حوار «النشرة» حول المعارضة في سوريا، وأكثرِها فداحةً، انصرافُهم إلى تحديد المعارضةِ وفقًا للمعيار «الحزبي» فقط؛ ومع اتفاقِنا معهم على أنَّ المعارضةَ المنظمة أي الحزبيةَ هي أرقى أشكال المعارضة، وأكثرُها شجاعةً وعطاءً، إلَّا أنَّنا نختلف معهم في إنکار أو «نسیان» قوى وأشكال المعارضة العديدة الأخرى، ومستوياتها وفئاتها.
وفي تقديري أنَّ هذا «الخطأ» الذي شاب جميعَ الآراءِ التي سبقتني هو في الواقع تعبيرٌ عن عيب بصري»، أو قصورٌ في رؤية الآخرين يعكس أيضًا شيئًا من الأنانية تجاههم، ولا سيما تجاه المعارضة السلبية لجميع فئات شعبنا الصامد الصابر في الوطن. ولتفادي هذا الخطأِ، لا بدَّ أن نبدأ بالإجابة عن السؤال التالي: «من» هي القوى المعارضة؟؟ وما هي أشکال المعارضة في سوريا؟؟
في الواقع هناك ثلاثةُ أشكالٍ رئيسة للمعارضة حاليًّا، هي: أولًا: معارضة سياسية منظمة: تنقسم إلى أحزاب ومنظمات عديدة، وسوف نؤجل الحديث عنها إلى ما بعد تعداد الشكلين الثاني والثالث؛ لأنَّها هي محورُ الحديث والحوار. ثانيًا: معارضة نخبوية: وتشمل عددًا كبيرًا من الفئات والجمعيات في داخل سوريا وخارجِها، تنشط في مجالات نقابية، وتحتل المواقع المحدودة على قدر ما تسمح لها الظروفُ الموضوعية، ومجالاتُ حقوق الإنسان، وهذه من أهمِّ الأطر والوسائل التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة، كما تشمل جمعياتٍ خيريةً وثقافيةً وفنيةً واجتماعيةً ورياضية.
ونعني هنا بالتحديد أنَّ أيَّ جمعيةٍ شعبيةٍ مدنيةٍ تتصدى لمواجهة أحدِ جوانبِ الواقعِ الاجتماعي والسياسي الذي أفرزه نظامُ الأسد الطفيلي ـ الطائفي-الاستبدادي، هي في النهاية وفي الجوهر شكلٌ من أشكال المعارضة والمناهضة.
وعلى سبيل المثال:
– أيُّ جمعيةٍ شعبية لبناء المساكن بصورة تعاونية بين مجموعة من العمال أو الموظفين، تساهم في تقوية المجتمع المدني في مواجهة النظام والدولة، وتساهم في حلِّ إحدى أكبر المشاكل التي أفرزها النظام، وقهر بها أفراد الشعب.
– وأيُّ جمعيةٍ ثقافية تنشط في مجال حماية الفنون والأغاني والموسيقى الكلاسيكية الأصيلة هي شكل من أشكال المعارضة والمناهضة لنمط من الفنون والأغاني والموسيقى التافهة التي عمل النظام على ترويجها لإفساد أذواقِ الناس، وتهديمِ المقومات الفنية للمجتمع العربي السوري العريق.
– أيُّ جمعية خيرية لبناء مسجد أو کنیسة، أو مستشفى مجاني، أو حضانة أطفال، تُشكِّلُ مساهمةً قويةً وفعليةً في معارضة النظام؛ لأنَّ هذه المؤسساتِ تخلق شيئًا فشيئًا حالة استقلالٍ للمجتمع عن هيمنة السلطة، وتسعى لنشر القيم والأخلاق والفضيلة في مواجهة البذاءةِ والسفاهةِ والتحلل الأخلاقي التي روجها النظام في سياسة مقصودة لإضعاف المجتمع وتدمير عناصره الأساسية التي يقوم عليها.
في يوم من الأيام قال علماء الاجتماع في العالم عن ظاهرة ارتداء «الشادور» في إيران قبل الثورة: إنَّه شكلٌ من أشكال المعارضةِ الشعبية لنظام الشاهِ الذي خطط ؛ وسعى لنشر وإقامة نموذج اجتماعي ـ أخلاقي أميركي استهلاكي متحلل. وقياسًا على ذلك، لا يجوز النظرُ إلى اتِّساع ظاهرةِ ارتداء الحجاب في سوريا على أنَّها علامةُ تراجع وتخلف؛ لأنَّ المجتمعَ في الحقيقة يُفرز الكثيرَ من هذه الظواهرِ الفردية في محاولة توكيدِ ذاته، وتمسكِه بقيمه في مواجهة السلطة المضادة.
ولذلك أيضًا يجب النظرُ إلى اتِّساع نطاقِ حركة بناء المساجد كمحاولة اجتماعية؛ للرد على اتساع نطاقِ حركة بناء الملاهي، والكباريهات، والمقاهي، وانتشار المخدرات، والقيم الرذيلة…إلخ، كما لا بدَّ أنْ ننظرَ إلى اتِّساع حجم المشاركة الشعبية في الاحتفالات الدينية؛ کردِّ على اتساع وفظاظة احتفالات النظام بمناسباته الخاصة.
غير أنَّ أهمَّ أشکال وقوى المعارضة النخبوية، هي المعارضةُ الفردية للكتّاب والباحثين والمفكرين والأدباء والفنانين.
وعلى الرغم من أنَّ السلطة في سوريا، مثلُ أيِّ سلطة في الدنيا، تقوم بنشر «ثقافتها» المعبرةِ عنها اجتماعيًّا وأيديولوجيًّا وفنيًّا وذوقيًّا، وعلى الرغم من أنَّ السلطة في سوريا استطاعت أن تُغلقَ عشراتِ المؤسسات الثقافية المستقلة في سوريا طوال العقدين الماضيين، ولاسيما الصحافة ودور النشر، وهيمنت على حركة التأليف والنشر وعلى اتحاد الكتاب.
على الرغم من ذلك كلِّه، ففي تقدیرنا، أنَّ بين الكتَّابِ والأدباء في سوريا، من بقي خارج ساحة النظام، وبعيدًا عن إغراءاته وإرهابِه؛ وأنَّه نجح في التعبير عن وجهة النظر الأخرى، المضادة للنظام بهذا القدر أو ذاك، ونجح أكثر في التعبير عن تطلعات الشعب السوري وآماله وأشواقه، وصوَّر معاناتِه الفرديةَ والجماعية، اليوميةَ والتاريخية، الاجتماعية والوطنية، في ظل نظام الأسد.
ويستطيع الناقدُ أو الباحث المدقق أن يعثرَ على مئات الأعمال الفكرية والأدبية والفنية التي تمثل تلك الحقيقة الهامة؛ صدرت لكتَّاب وأدباء من سوريا، ونشرت داخل سوريا أو خارجها.
وبطبيعة الحال لا يجوز أن نطلب من الأديب أو الفنان أن يحمل البندقية ويقاتل أو لا نحسبه في عداد «المكافحين» في سبيل الحرية والوطن، أبدًا، لا يجوز أن نطالبه بكتابة نصوص مثل المنشور السياسي في وضوحها وجرأتها.
ورغم ذلك، فإنَّنا لو رجعنا بالذاكرة، وجردنا السنوات العشرين الماضية، لوجدنا نصوصًا أدبيةً في سوريا، كان لها وقعًا وتأثيرًا أخطرَ من المنشور السياسي، وأخطر من البندقية الحربية.
وبالإمكان هنا ذكرُ عشراتِ أسماء الكتَّاب من سوريا يندرجون، وتندرج أعمالُهم في قائمة المعارضة والمعارضين لنظام الأسد بثقافته وأيديولوجيته، وأدبه، ولكن المانع الوحيد لذكرهم، هو ضيق المجال، وعدم التسبب في أذی بعضهم.
ومما يُسعد، ويرفع المعنوياتِ أنَّ معارضة المثقفين في سوريا تتطور وتتحول إلى مؤسسات داخل البلد، تحاول وتساعد في صمود المثقف المعارِض المضطَّهد ونشر أعماله، ومن ذلك مثلًا وجودُ دورِ نشرٍ مستقلة لأول مرة في سوريا، وأنَّ أعدادَ الكتَّاب والرسامين والشعراء والقصاصين والمسرحيين المعارضين (کلیًّا أو جزئیًّا) في اتساع دائم.
ثالثًا: المعارضة الشعبية العامة غيرُ المؤطَّرة: هنا لا بدَّ أن نشير إلى دقيقة قد تستفز وتُزعج، وقد «تُفزِعُ بعضَ الأخوة الرفاق، ولكن لابدَّ أن نذكرَها، وهي أنَّ حجم ومجموع المنخرطين في العمل السياسي والحزبي المعارض بكل فئاته، قد لا يزيد عن واحد في المئة (1٪) من مجموع شعب سوريا.
حقَّا إنَّ هذه النسبةَ لا تستند إلى دراسة عملية، ولكنَّها مستنبطةٌ من ملاحظة عيانية طويلة للواقع وللقوى السياسية.
والوجه الثاني لهذه الحقيقة المزعجة: أنَّ الشعب السوري يمر في مرحلة انكفاءٍ على نفسه، فهو يعارض النظامَ وأدواته التنظيمية المتاحة للعمل السياسي، ولكنَّه في الوقت نفسِه يعارض المعارضة الحزبية أيضًا، أي أنَّ له موقفًا سلبيًّا من غالبيتها، أو منها جميعًا، وهو ما سنأتي عليه لاحقًا.
نتيجةً لذلك، فإنَّ المراقبَ الموضوعي يستطيع تصوير حالة الشعب السوري حاليًّا على النحو التالي:
«منذ عام 1982 وحتى الآن انقسمت سوريا اجتماعيًّا وسياسيَّا إلى طرفين متناقضين تمامًا، تفصل بينهما هوةٌ سحيقةٌ وعميقةٌ جدًّا.
الطرف الأول: هو النظام.
والطرف الثاني: هو الغالبية الساحقة من الشعب.
هذه الحالة، تمثل تطورًا في منتهى الأهميةِ والإيجابية، فللمرة الأولى منذ حكم حزب البعث (1963)، وللمرة الأولى منذ حكم الأسد (1970 ـ 1989) يصبح النظام في طرف والشعبُ في طرف مقابل، مضاد. ولم يعد هناك من اختلاط في رؤية القوى والفئات الاجتماعية الوطنية تجاه النظام، ولم يعد هناك اختلافٌ كبيرٌ في موقف أكثرية المواطنين حول تحديد هوية النظام وطبيعته وعدائيته للناس، فهو نظام دیکتاتوريٌّ، طفيليٌّ، طائفيٌّ، في اعتراف وتقدير أكثر من 99% من الشعب السوري أفرادًا وجماعات، بمن فيهم أعدادٌ ضخمةٌ ونقابات ومؤسسات سلطوية، كالجيش، والإدارات… إلخ.
ويلاحظ في هذه الصورة الموصوفة أيضًا، أنَّ الشعب السوري يعاني اقتصاديًّا وأمنيًّا، ونفسيًّا، معاناة لا مثيل لها، وربما تفوق معاناة الشعوب التي اشتهرت في الخضوع لأنظمة دیکتاتورية عاتية، كالشعب الأرجنتيني أو الشعب التشيلي، أو الشعب الإيراني.
مما أدَّى بالشعب السوري الجريح أن ينكفئ على نفسه، يداوي جراحَه، ويدير شؤونَه الصغيرة اليومية، وينتهي طموحه اليوم أن يستمر على قيد الحياة.
ضمن أسبابه للانكفاء، فإنَّ الشعب السوري يشعر أنَّ القوى السياسية المعارضة (بصورة عامة) تتحمل جزءًا من مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها سوريا، فهذه القوى إمَّا تخلت عنه (عن الشعب)، وإمَّا خانته وغدرت به، والتحقت بالنظام، وإمَّا باعته في الخارج، وإمَّا تاجرت بآلامه؛ لكي تعيش في عواصم أخرى معززةً مكرمة، وإمَّا قادته في مواجهة داميةٍ مع النظام لبعض الوقت دون استعدادٍ کافٍ، رغم أنَّها صورت له إمکاناتها وقواها تصويرًا مبالغًا به، فعدَّه «كذبة» دفع هو ثمنًا فادحًا وباهظًا وغاليًا، وهو كان ومازال مستعدًّا لتقديم ثمنِ حريته وكرامته مثل ما قدم وأكثر، ولكن بشرط أن يكون ذلك في وقته وخلف برنامج واضح يلبي طموحاته وأمانيه.
وآخر ما في هذه الصورة، أنَّ الشعب السوري يعاني الآن من الوحدة، والعزلة، ولا يرى أحدًا يعبر عنه، أو يدافع عنه في محنه القاسية الكثيرة لا في الداخل ولا في الخارج (نكرر بصورة عامة). إلى هنا تنتهي الصورة الراهنة لحالة وحياة الشعب في سوريا.
حيال هذا الوضع الذي قد نتفق عليه کلِّه، أو نختلف على بعض قليلٍ منه لا أكثرـ فإنَّ شعبَنا العربيَّ السوري البطل، انكفأ على نفسه يداوي جراحه، ويعاني آلامه وهمومه، ولكنَّه لم يستسلم أبدًا، وإنَّما اختار أشكالًا وأساليبَ أخرى للرفض والمعارضة والمقاومة، تتلاءم وأوضاعه، ولكن لا يجوز الاستهانةُ بتأثيرها وفعاليتها إطلاقًا. ومما يؤسف له أنَّ قوىً معارضة، أو فئاتٍ مثقفةً تصنف نفسها في عداد المعارضين، تنساق أحيانًا كثيرة لإدانة الشعب واتهامه بالاستسلام والقصور، والانتهازية، وهي إذ تفعل ذلك، لا تتخلى عن جذورها الاجتماعيةِ والشعبية وتعبر عن عجزها وقصورها في فهم حقائق الواقع المأساوي الذي تعيشه جماهير سوريا، فحسب، وإنَّما تعبِّر عن اضمحلال دورها نهائيًّا، ووقوفها في موقف واحد مع النظام الذي يعاني ـ والرئيس الأسد شخصيًّا بالذات ـ من عدم فهمِ أسبابِ كرهِ الجماهيرِ له، ومعارضتِها له، وهذا في الواقع حالة معروفة في العالم والتاريخ وحددتها علوم النفس، ذلك أنَّ كلَّ «صفوة» متعالية، أو دیکتاتور فاشي لا يرى نفسه كذلك، وإنَّما ينظر إلى نفسه كنبيٍّ أو منقذٍ أرسلته السماء أو أنجبه التاريخ لكي يقودَ شعبه إلى الازدهار والمجد، وهو طبعًا لا يرى جرائمه، باعتبارها جرائم…إلخ.
هكذا كان فرانكو، وموسوليني، وهتلر، وستالين، والشاه…وهكذا هو الأسد.
فهل نقف في صف واحد أو نلتقي معهم على موقف واحد؟ وهل ننسى أنَّ الشعب هو القائدُ والمعلم، وهو الضمير الذي لا ينطفئ، وأنَّ الأمة لا تجتمع على خطأ؟؟ وهل نغفل أنَّ الجماهير هي الملهِم، وهي مصدرُ الشرعية، وهي المنبع الذي يتدفق بالعطاء والتضحيات والإبداع، وهي التي تشكل عبقرية الأمة؟؟ نحن من أولئك الذين يرون أنَّ الشعب هو القائد والمعلم والخالد والذي لا ينحرف.
ونحن من الذين يرون أيضًا أنَّ الشعب العربي في سوريا اليوم هو القوةُ المعارضة الرئيسة والكبرى لنظام الأسد، وهو يمارس معارضته يوميًّا، وفي كل لحظة، وبكل شكل من الأشكال، وأسلوب من الأساليب، تُتيحها له الظروف، ويعبر عنها بمظاهرَ وظواهرَ كثيرةٍ، واضحةٍ وجلية وضوح الشمس أحيانًا كثيرة، ورمزية وغير مباشرة في أحيان أخرى.
إنَّها معارضةٌ غيرُ مؤطرة، وغيرُ منظمة في أوعية حزبيةٍ وتنظيميةٍ فعَّالة، ولكنَّها معارضةٌ فعَّالةٌ على كل حال، ويَحسب النظام لها ألفَ حساب وحساب.
إنَّ السلبيةَ والانكفاءَ والتقوقعَ على الذات والعزلة الفردية أو الجماعية، كلّها صورٌ لحالة معارضةٍ إراديةٍ يُبديها المجتمع، ورفضٍ للنظام، وللسلطات، وللسياسة، القائمة والسائدة في البلاد.
إنَّ إهمالَ العمالِ والموظفين في أعمالهم ومواقع إنتاجهم والتهرب منها، وأحيانًا التخريب المقصود هي أيضًا صورٌ للمعارضة، قد تكون صورًا غيرَ سوية، وغير سليمة، ولكنَّ منشأها الرفضُ والمعارضة والرغبة في إضعاف السلطة والنظام الحاكم.
الشكوى والتذمر من أي صعوبةٍ يوميةٍ من صعوبات الحياة اليومية هي دفقةٌ من دفقات شلال الغضب والنقمة المكبوتين، ويستطيع أيُّ «مثقف» أنْ يلاحظَ أنَّ المواطن السوري عندما يتذمر ويشكو من أزمة المواصلات أو سوء البرامج التلفزيونية يقصد شيئًا أوسع وأكبر من ذلك، وأنَّه يتعمَّد أن يعبَّر عن معارضته ورفضه للنظام السياسي على هذا النحو البسيط.
ابتكارُ «النكتة» وتداولُها عن أطراف أو رموز السلطة، وترويجُ القصص والحكايات والأخبار الواقعية عن فساد رجال النظام، وتعذيبُ المعذبين في السجون، واعتقالُ الناس، وتدخلُ رجالِ المخابرات في حياة المواطنين، وأخبارُ السرقات والرشوة، هي كلُّها نماذجُ أدبيةٌ وفنيةٌ من أدب الحياة، والفن الواقعي من إبداع العبقرية الجماعية للشعب، وهي موجودةٌ ومنتشرةٌ بكثرة في أوساط الشعب السوري حاليًّا، وعلى نطاق واسع وتعبير حاد عن «الوعي» بالواقع وعن السخط والاستنكار والرفض والغضب والاحتجاج على هذا الواقع وعناصره ورموزه وأسبابه المؤدية إليه.
إذن سوريا بكل فئاتِها وقواها الوطنية، الشعبية، الشريفة في حالة رفض ومعارضة للنظام السياسي ـ الاجتماعي الحاكم فيها، ولا تقتصر المعارضةُ على القوى المنظمة بل ربما كان التحليل العميق يقود إلى اكتشاف أنَّ القوى المنظمة تقف خلف الشعب بمسافات طويلة في ممارسة المعارضة، والشجاعة، والتعبير عن مأساوية الواقع، والوعي بجوانبه وعوامله المسببة. وأيًّا كانت وجهاتُ النظر، فإنَّنا نعتقد أنَّ الإجماعَ معقودٌ بين جميع الذين يدرسون الواقع الراهن في سوريا على أمرين اثنين في غاية الأهمية، ذكرناهما، ونعود لنؤكدَ عليها مجددًا.
الأول: هو انفصال الشعب السوري انفصالًا کامًلا وشبهَ مطلق عن النظام، وفقدانُ هذا الأخير لأيِّ قاعدةٍ شعبية، باستثناء الفئات الطفيلية والطائفية التي يتكون منها.
الثاني: وجود مظاهرَ معارضةٍ متعددةٍ ومتنوعة إيجابية وسلبية، ووجود بوادر مناهضة فعَّالة وقوية في أوساط الشعب، تصل إلى أعلى درجات الاستعداد للكفاح والنضال، تقابلها حالةُ فراغ سياسي وشبه غياب أو انحسار للقوى السياسية المنظمة، وفقدانها للقدرة أو للصيغة أو للمنهج أو الأيديولوجية التي يمكن من خلالها تعبئة طاقات المجتمع، وتنظم القوى الثورية الخلَّاقة للشعب، وتحويلها إلى قوة هادرة وطاقة إيجابية في الاتجاه الصحيح، وتوليد الكهرباء منها، لإضاءة المستقبل وإنارة الطريق، وإشعال الآمال.
ونخلص من ذلك إلى القول: إنَّ الأزمة السياسية التي تعيشُها المعارضةُ السورية هي في الأساس أزمةٌ كامنةٌ في القوى السياسية المنظمة والمؤطرة وفي النخب السياسية والفكرية بالدرجة الأولى والثانية، وأزمة مجتمع بالدرجة الثالثة، وسنأتي عليها فورًا، ولكن قبل ذلك يجب أن نشيرَ بسرعة إلى أنَّ أزمةَ القوى والأحزاب والمنظمات والنخب الفكرية المعارضة في سوريا، هي أزمةُ صيغةٍ وأوعية تنظيمية، وهي أزمةُ اتصالٍ وتفاعل مع المجتمع والجماهير، وهي أزمةُ أشكالٍ ووسائل نضال وكفاح وعمل، وهي أزمةُ خطاب ولغة سياسية وأيديولوجية، وهي أزمةُ مناهج ونظریات و أفكار، وهي أزمة قيادات ورموز وأشخاص.
أي أنَّها باختصار أزمة شاملة، تحتاج لإعادة نظر في كل جزيئة من جزيئات العمل السياسي، لاسيما في ظل عاملين موضوعيين:
الأول: هو أنَّ «سوريا الأسد»، ليست سوريا ما قبل الأسد وعبر التاريخ الماضي كله. لقد نشأت خلال الثمانيةَ عشرةَ عامًا الأخيرة أوضاعٌ وحقائقُ جديدة بحاجة لوسائل وطرق وأفكار جديدة في مواجهتها ومعالجتها، ونظامُ الأسد نظامٌ ذو طبيعة ونوعية مختلفة عمَّا عهدناه من أنظمة في الماضي، وتتطلب مواجهتُه طبيعة ونوعية مختلفتين عمَّا هو سائد في العمل الحزبي السياسي في سوريا.
الثاني: هو أنَّ العالمَ كلَّه يقف اليوم على نهاية عصر، ينسحب إلى الماضي، ويستقبل عصرًا جديدًا بالكامل، وكل الجدة.
والمعطياتُ الأولية للعصر الجديدِ تفرض علينا فكرًا وحركة طليقين لمواجهة العالم الجديد والعصر القادم وعلى ضوء تلك المعطيات، لابدَّ أن نُخضعَ جميعَ مسلماتِنا وبدهياتنا ونظرياتنا وأفكارنا ومناهجنا لمبضع الجراح، ونظرةِ النقد العلمي الصارم، بهدف التجديد والمواكبة والانسجام لا بهدف التدمير والعبث.
على هذا نقول أيضًا: إنَّ وسائلَ العمل السياسي، واللغة والخطابة، والكتابة، والتفكير والشعارات، والمقولات والطروحات، التي حددتها أحزابُنا وتنظيماتُنا وفئاتُنا السياسية والفكرية في مرحلتي الخمسينات والستينات وما قبل ذلك لم تعدْ بمجملها صالحةً في المرحلة الراهنة، ولم تعدْ هي الأسلحةَ الفكريةَ والتنظيمية المجدية في معركة إسقاط النظام السوري الحالي.
لا ندعو طبعًا إلى إلغاء تجاربِنا وتراثنا السياسي وخبراتنا التنظيمية والحزبية والنضالية، وإنَّما ندعو لتجديدها وتحديثها على ضوء العلوم والأفكار والفلسفات الحديثة في العالم.
ففي علوم الكيمياء والفيزياء، وفي علوم اللغة واللسانيات وفنون الأدب والتعبير، وعلوم الفلسفة، والفكر السياسي، حقائقُ ومعطياتٌ جديدةٌ، تفرض نفسها على الجميع لابدَّ أن نُحیطَ بها ونستوعبَها، ونخرجَها مع تجاربنا الماضية وتراثنا الحزبي والوطني والقومي والإنساني، لنُعيدَ هضمَها وإخراجها في شكل جديد وصياغة جديدة.
أزمة المعارضة والأزمة الاجتماعية للمعارضة:
قبل أن نتفرغَ كليًّا للحديث عن المعارضة السياسية في سوريا، يجب أن ننتهيَ كليًّا من المعارضة الشعبية، والاجتماعية التي يخوضها المجتمع دفاعًا عن ذاته، وكذلك الأزمة التي تُعيقه عن تحول معارضتِه إلى قوة مطلقة في مواجهة النظام، وكذلك لا بدَّ أن نتوقفَ أمام التحولاتِ الاجتماعية السلبية التي أحدثها نظام الأسد في بنية المجتمع المدني السوري، التي تشكل عوامل جذب للوراء في نشاط وحيوية المعارضة السياسية، وهما في الحقيقة عاملان متكاملان متقاربان، ولذا وضعناهما في موقع واحد من حديثنا.
لقد سبق وأشرنا إلى الشرخ الطائفي العمودي الذي أوجده نظام الأسد في المجتمع السوري، وبقي أن نشير هنا إلى أنَّ هذا التمزقَ الطائفي هو الأزمة الرئيسة التي يعاني منها المجتمعُ في مواجهته للنظام، وتُعيق معارضتَه ومقاومته للنظام، ولولاها لانتهى النظام نهائيًّا، أو لكان المجتمعُ كلُّه قد أصبح في ناحية واحدة، والنظامُ وحدَه في ناحية أخرى، بلا أي قاعدة شعبية أو شرعية.
إنَّ وجودَ قسم (ولا نقول كل) من الطائفة العلوية مع النظام أدَّى مع عوامل أخرى لاستمرار النظام حتى الآن، وأدَّى لإضعاف المجتمع على النحو الحاصل.
وعلى الرغم من استفحال الواقعِ الطائفي، فإنَّ من العسير القولَ: إنَّ المجتمع السوري أصبح مجتمعًا طائفيًّا، يتبنى المنهجَ الطائفي في مواجهة طائفية النظام. ولقد شهدنا أثناء المواجهةِ الدموية بين الإخوان المسلمين والسلطة، أنَّ الشعب السوري لم يُظهر أيَّ تعاطفٍ مع العمليات المسلحة التي نفذها مقاتلو الإخوان ضد رموزٍ علوية أو طائفية لمجرد أنَّها تنتمي لطائفة النظام الحاكم، بل أظهر امتعاضًا واستنكارًا لها؛ فهو يرفض العصبية الطائفية من أية جهةٍ بدرت.
وربَّما كان على الإخوان المسلمين أن يدرسوا أسباب فشلِ تجربتِهم تلك، والنتائج التي أدَّت إليها على ضوء تلك الحقيقةِ الحضارية الرائعة، وعلى الذين مازالوا «يبررون» لأنفسهم شرعيةَ استغلالِ طائفيةِ النظام ودغدغة الغريزة الطائفية العمياء لدى قسم من مواطنينا، أو لدى أقسامٍ كبيرة منهم في بعض البرهات التاريخية العابرة، أن يعوا خطيئةَ هذا المنهج تمامًا، ورفضَ المجتمع العربي السوري له رفضًا مطلقًا، وأن يُبدعوا طريقًا وطنيًّا أرقى لإجراء التغيير السياسي والاجتماعي المنشود…وإلَّا تردينا جميعًا في هاوية سحيقة، وانجرفنا في اندفاعة حيوانية هوجاء.
إنَّ مجتمعنا يخوض حاليًّا معارضةً إيجابيةً وسلبية، ولكنَّها وطنيةٌ صرف، ضد النظام على أسس اجتماعيةٍ وديمقراطيةٍ وطبقيةٍ ووطنية…ولو أنَّه قَبِلَ المجازفة بالمعارضة الطائفية، لكان النظامُ قد سقط منذ سنوات…ولكن سوريا كانت ستسقط هي الأخرى، وتتفتت.
بل إنَّ مجتمعَنا الآن في حالة تفكير جماعي، يصح أن نطلقَ عليها حالة تفكير سري، حالة اعتكاف على الذات بحثًا عن وسائل وأساليب مواجهة مع النظام تحقق أهدافه دون أن تضحي بقسم من المجتمع أو بتقسيم الوطن، أو السقوط في احتمال النموذج اللبناني للحرب الأهلية.
بمعنى آخر، أنَّ مجتمعَنا العريقُ يمرُّ بحالة انتظار لذلك الجزءِ العزيز من الطائفة العلوية؛ لكي ينتبه ويعيَ إفلاسَ الوعود الخلابة والمصالح الفئوية التي قدمها له النظام؛ لكي يمنحه القاعدة الشرعية، الشعبية، ثم لكي يتخلى عن نظام الأسد…ويسحبَ من تحت قواعده وقوائمه آخر قاعدة شعبية.
أي أنَّ المجتمعَ السوري ينتظر الطائفة العلوية لكي تنضمَّ إليه في مواجهة النظام، وهو انتظارٌ مُجْدٍ وسليم، وهناك بوادرُ عديدةٌ تؤكد خروج شرائحَ متتالية من القاعدة الطائفية للنظام من محيط النظام وانضمامها إلى صفوف المعارضة؛ وما الشاعر الدكتور (أحمد سليمان الأحمد) إلَّا رمزًا من رموز هذه الفئة، وتعبيرًا عن انسحابها من دائرته وعودتها إلى شعبها.
وعلى الأحزاب والقوى السياسية المعارضة أن تشارك مجتمعنا السوري حالة البحث والتفكير والانتظار تلك، وعليها أن «تستقبل» المنسحبين من الطائفة التي يحكم الأسد باسمها…بالتشجيع والتأييد لا أن تصدَّها، وتغلقَ الأبواب في وجهها…هكذا حتى يتجرد النظام من القاعدة الاجتماعية فيسقط…ويحافظ الشعب السوري على وحدته الوطنية والاجتماعية.
إنَّ الحرصَ على عودة الطائفةِ العلوية التي أُقحمت وضُللت في ظل نظام الأسد هو حرصٌ في غاية الأهمية والخطورة؛ لا من أجل حشدِ جميع القوى الاجتماعية والوطنية في معركة إسقاط النظام وإحداث التغيير فقط، وإنَّما من أجل حمايةِ المجتمع نفسه من الانقسام والتمزق…وهو خبرٌ لو تحقق أكثر مما هو حاصل الآن، ربما لن تشفى منه سوريا في المدى المنظور، حتى ولو رحل الأسدُ ونظامه وأشياعه.
وبالتأكيد فإنَّه لا يوجد أحدٌ فردًا کان أو حزبًا في الساحة الوطنية يقبل أو يؤيد عن وعي سابق بأن ندفعَ هذا الثمن الفادح لقاء إسقاط الأسد.
ولا أعتقد أنَّ أحدًا منَّا يقبل أيضًا أو يرضى أن ندفع بكل الطائفة العلوية، أو بجزء منها مهما كان حجمه، دفعًا إلى مواقفَ أكثر طائفية، وأن نكون سببًا في دفعها للالتجاء إلى قوى خارجية معادية لسوريا بحجة طلب الحماية على غرار ما حصل مع الموارنة أو مع الشيعة أو مع الدروز في لبناننا العربي الجريح.
ولا أعتقد أيضًا أنَّ أحدًا منَّا يقبل، أو يرضى بأن تتحول أخطاؤنا في التصرف حيال الطائفة العلوية في هذه المرحلة سببًا لأن تُنجب هذه الطائفةُ نماذجَ أخرى من حافظ الأسد، وأن يتحول هذا الطائفُ العابر على سوريا، وعلى التاريخ المشرف للعلويين إلى «سلالة» مستمرة…ذلك أنَّ هذا الاحتمالَ سيصبح واردًا لو أنَّنا أغلقنا الأبواب في وجه الطائفة لكي تتخلى عن نظام الأسد، وتعودَ إلى مجتمعها الوطني السوري وأمتها العربية. نخوض معها معارك الاستقلال والحرية والتقدم.
أمَّا الجانب الاجتماعي في أزمة قوى المعارضة السياسية في سوريا، فهو يتجسد في انهيار الطبقةِ الوسطى، وشرائح البورجوازية الصغيرة والوطنية في المجتمع السوري في حقبة الأسد (كما شرحنا في الحلقة الثانية من الدراسة).
على ضوء اکتفاء تلك الطبقة الرئيسةِ التي صاغت في السابق مجملَ الحياة الثقافية والسياسية في سوريا، نستطيع الآن أن نحلل وندرس عددًا كبيرًا من جوانب أزمة المعارضة الحزبية والفكرية.
ذلك أنَّ غالبيةَ الأحزاب والمنظمات السياسية، والفئات الوطنية والمثقفة القائمة حاليًّا التي تتشكل منها المعارضة السورية هي من نبات تلك الطبقة وبناتها.
سواء القوى الوطنية والليبرالية منها، أو التقدمية والقومية، وكذلك الإسلامية أيضًا.
ولعلنا لا ننسى أنَّ داخل الطبقة المتوسطة العريضة شرائحُ متعددة، وفئاتٌ ومصالح مختلفة، ولذلك فليس خطأ أن نقول: إنَّ غالبية الأحزاب والمنظمات والتيارات السياسية كانت من داخل هذه الطبقة، بما في ذلك طبعًا القوى التي تتبنى الفكر الماركسي، وتزعم تمثيل فکر الفقراء والطبقة العاملة.
إنَّ هذه القوى جميعَها أو غالبيتَها الساحقةَ كأشخاص وفئات من الطبقة المتوسطة، وما الادعاء بتمثيل فكرِ الطبقة العاملة إلَّا تطوعٌ من بعض شرائح تلك الطبقة، لصالح الطبقة العاملة، وتعبير عن حسن نواياها ومقاصدها، وهذا في أحسن الافتراضات.
لكن الطبقة العاملة نفسها (وربما فکرها أيضًا لم تكن ممثلة في الواقع أبدًا خلال أيِّ فترة من الفترات الماضية إلَّا في أضيق نطاق).
تبعًا لانهيار الطبقة المتوسطة السورية، خلال النصف الثاني من السبعينات ومطلع الثمانينات، فقدتِ الأحزابُ والتنظيمات السياسية السورية والتيارات الإيديولوجية والفئات الثقافية فيها، البيئة الاجتماعية، وانقطعت جذورُها الطبقية عن التربة الحقيقية لها، وأصبحت أحزابًا تمثل فئاتٍ شعبيةً غير موجودة في الواقع والحياة.
في تقديرنا أنَّه لهذا السبب يمكن إرجاعُ مختلفِ جوانب الأزمة والخلل والشلل في المعارضة السياسية.
كما أعتقد أنَّ هذه المقولة (أو الفرضية) بحاجة إلى بحث وتحليل ودراسة متأنية ومتعمقة أكثر بكثير مما فعلنا، وتحديد عناصرها المكونة ومراحل تطورها ونشوئها ونتائجها.
ونكتفي هنا بما ذكرنا مع الربطِ بين هذه المقولةِ من جانب، ومقولتنا الأخرى أنَّ المجتمع السوري الآن يمارس معارضةً ومواجهة النظام السوري بمفرده تقريبًا ودون دورٍ بارزٍ للقوى السياسية؛ لنخلص من هذا الربط أو الدمج إلى أنَّ غالبية الشعب السوري تحول إلى طبقة فقيرة عريضة جدًّا هي مجموع الشعب السوري تقريبا باستثناء الفئة الطفيلية الصغيرة، لم تعد لها تعبيراتٌ سياسيةٌ منظمة تمثلها، وتعبر عنها، ولاسيما في حالتها الجديدة ومعاناتها الراهنة، وصيرورتها الحالية؛ ذلك أنَّ الفقراء والكادحين في سوريا أصلًا کانوا ومازالوا بلا أشکال سياسية متناهية معهم، تتبنى مصالحهم وثقافتهم من داخلهم وبلا نيابة من أبناء الطبقة الوسطى. نقول هذا مع الإشارةِ إلى وجود استثناءات قليلة سنأتي عليها في القسم التالي من البحث، وقبل أن نختم هذا الجزء نشير إلى حالة الكمون والهجوع التي نرى أنَّ المجتمع السوري يمرُّ بها حاليًّا، وتظهر على سطح الحياة؛ فهي ترجع فيها إلى تحوِّل الشعب السوري إلى طبقة فقيرة واسعة، وتحولِ الأحزاب السياسية السابقة إلى أحزاب لا تمثل الواقع الجديد، هي مرحلة انتقالية لا بدَّ أن تنتهيَ إلى فرز قوى وأشكال وأحزاب وأفکار ووسائل نضال جديدة مختلفة، عن السابق، وتمثل الواقع الجديد، والشعب السوري في صيرورته الراهنة.
وعلى الأحزاب والفئات السياسية المعارضة القائمة حاليًّا أن تستوعب هذه الحقيقة وتتمثلَها، وتجري على ذاتها ثورة أو في داخل بناها وأفكارها، وإلَّا فإنَّها ستستمر بلا جذور وبلا تربة اجتماعية وطبقية حتى تذبل وتذوي وتموت شيئًا فشيئًا.