استثارت الصحافة الروسية التي تناولت رأس النظام السوري، منذ أسابيع، أطرافاً سورية عدة، سواء من المعارضة والموالاة ومن عموم متابعي الشأن السوري، خصوصاً أنها ترافقت مع تسريباتٍ ذات دلالات، وضعت كل هؤلاء في متاهاتٍ من التساؤل بشأن مصير النظام تحديداً، فأخذ كثيرون في البحث والتدقيق، ومحاولات التأويل، وإن غلب على بعضها، أحياناً، طابع التصوّر والتقدير لا الجزم. وربما أسقط بعضهم على قراءته رغباته وأمانيه.. ولكنّ ثمة ميلاً موضوعياً عاماً قد ذهب إلى أنَّ أركان النظام السوري آيلة إلى السقوط.
أهم ما جاء ردة فعل على تلك المقالات من الموالاة على شكل تهديدات لروسيا، وللرئيس بوتين تحديداً، أبرزها افتراضات أمين سر مجلس الشعب، خالد العبود، عمَّا يمكن فِعْلُه في بوتين إذا ما غضب عليه بشار الأسد؟ إذ قال بإيجاز لا بطرده من سورية فحسب، بل من الكرملين ذاته، ومن التاريخ أيضاً! وفي السياق ذاته، نظمت وجوه مخابراتية عريضة أرسلتها تحت اسم مثقفين سوريين توجهوا بها إلى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، طالبوه فيها باعتذار هؤلاء الصحفيين، وعلى نحو غير مباشر، بلجم الإعلام الروسي، متجاهلين أن الإعلام الروسي كالإعلام السوري تماماً، لا ينطق عن الهوى، فديمقراطية بوتين هي ديمقراطية حافظ الأسد بالذات أو العكس، وقد تقدَّم الموقّعين بهجت سليمان ذو الماضي الحافل الذي يعدُّ من أركان الدولة الأمنية، أما البقية فليسوا أكثر من كتبة تقارير، إذ لم يُلحظ في العريضة أسماء ثقافية لها أهميتها، وقد أثارت مقالة العبود والعريضة تعليقات ساخرة في المواقع الإلكترونية.
أما من جهة المعارضة أو من يتبنّى خطها العام فقد كُتبت مقالاتٌ عديدة بدت فيها وجهات نظر
مختلفة.. ولكن رسالة صوتية ومكتوبة تركت وقعاً خاصاً، وهي للمعارض الطبيب كمال اللبواني، إذ وجهها إلى الرئيس السوري مباشرة، يطلب منه التنحي والنجاة بروحه وأرواح أولاده! وذكَّرَه بمجريات سنيِّ حكمه كلها. وتحيل الرسالة، في بعض جوانبها، إلى الرسالة التي كان قد أرسلها حافظ الأسد إلى صدّام حسين قبيل أن تشن أميركا حرباً في شهر أغسطس/آب 1990 لاسترجاع الكويت، بعد أن احتلها الجيش العراقي، وقد نصح ظاهر الرسالة صدَّام بالانسحاب، بينما كانت حروفها تنقط كراهية، وتتمنّى له الموت الزؤام.. وهكذا أيضاً حملت رسالة اللبواني في طياتها كثيرا من التشفّي! وذكّرت الأسد بجرائم القتل التي ارتكبها ضد معارضيه.
والحقيقة أن الجانبين، موالاة ومعارضة، قد حملا ما حملاه على محمل الجد، وكأنَّ النظام مغادر لا محالة. وإذا كان في رسائل المعارضة شيء من البشرى، فإن في رسائل الموالاة شيء من الخوف الواضح، ولكن لا على الأسد، بل على ضياع مصالحهم ومستقبلهم المجهول. ولعلَّ بعضهم يحسب حسابات لمصير لا يتمناه. ويتضح مما تقدم ما يلي:
أولاً: يدرك الطرفان أن موقع روسيا في سورية الآن هو الأقوى، وأنه، بعد صمت المدافع، (أو إصماتها، كما حصل بفعل الروس أنفسهم، وبالاتفاق مع بعض حلفائهم) لا بد من التوجه إلى الفعل السياسي، والروس على قوتهم، فإن وضعهم الاقتصادي لا يسر، ولتحسينه هم بحاجةٍ إلى استرداد وإنْ جزءٍ مما تكلفوه، في سورية، فأسعار النفط في تدهور بسبب كورونا.
ثانياً: لعلَّ الروس أكثر من النظام يدركون النتائج التي يقود إليها قانون قيصر الذي أخذ يدق الأبواب. وهو يضاعف الضغوط الأوروبية والأميركية المتعلقة بإعادة الإعمار، ولا يستطيع الروس تجاهلها. وهم على ثقةٍ بأن أحداً لن ينافسهم على ما نالوه من اتفاقيات اقتصادية طويلة الأمد أبرموها مع النظام.
ثالثاً: لعلَّ الروس خبروا أكثر من غيرهم طبيعة سورية والسوريين، إذ هم على اطلاع مباشر بما حلّ بهم من مظالم، بل هم من ساهم في صناعة الدمار الشامل الذي لحق بالشعب السوري، ويدركون، من جهة أخرى، الصورة الحقيقية لبشار الأسد ووزنه لدى الأغلبية الساحقة للسوريين.
رابعاً: جاءت فيديوهات “رجل الأعمال” رامي مخلوف، (بالفضائح التي أحدثتها والذيول التي خلفتها وستخلفها) لتشكل ثقلاً داخلياً موجعاً، فالكل يعلم أن المذكور في الدائرة الضيقة من قمة هرم السلطة، وهو حجر في جدارها الكتيم، ففي سقوطه ستتوالى أحجار أخرى كثيرة.
خامساً: ما وصل إليه الوضع المعيشي من تردٍّ أوصل المواطن إلى حال من الذل لم يعهدها من قبل، وهو أمر يرفضه السوريون كافة، خصوصاً أنه يترافق مع انهيار مرعب لليرة السورية، وصعود فئات جديدة من أثرياء الحرب، وانتهاز الفرص تحت سقف “الدولة” وحمايتها، إضافة إلى فقدان أمن المواطن، فإن ذلك كله يكمل عامل الضغط الخارجي على النظام وعلى رعاته، ويحول دون إمكانية استمراره.
سادساً: غدت سورية اليوم أشبه بهيكل عظمي لن تُردَّ إليها الروح إلا بالسلام، وضخ مئات
مليارات الدولارات، وهذا ما يسمّى إعادة الإعمار المشروط بحلول سلمية تلتقي عندها أطراف الشعب السوري كافة. ولا شك أن ذلك يتطلب الإفراج عن المعتقلين السياسيين كافة، وبتسهيل عودة المهجرين، وإلغاء بعض القوانين كالقانون رقم 10 الذي سمح بمصادرة أملاك المهجّرين، وهذا لا يمكن لبشار الأسد أن يفعله.
سابعاً: يعرف الروس والدول المتدخلة، والدول الأخرى المتابعة للمشهد السوري، والشعب السوري نفسه، أن النصر الذي يتحدث عنه الأسد مهزوز، لم يكتمل، “نصر أجوف” كما أسمته مجلة فورين أفيرز الأميركية، إذ لم تعد سورية كما كانت قبل العام 2011، فثمّة نفوذ لأربع دول على الأرض، وإذا كان النظام يغطي الوجودين، الروسي والإيراني، فإن الروس والمعارضة، وشيء من اتفاق أضنة الموقع بين النظام وأنقرة في العام 1998، يعملون على تغطية الوجود التركي، أما الأميركان فليسوا بحاجة لأي غطاء.
ثامناً: عاش النظام على إطالة أمد الحرب، مستفيداً مما كان في البنك المركزي من مليارات، ثم مما قدمه الروس والإيرانيون من مال وعتاد وعسكر وموت لئيم للشعب السوري. وإذا كان النظام قد عاش، من جهة أخرى، على هشاشة المعارضة، وضعف تجربتها، وخلافاتها، ومطامحها،
ومئات الفصائل العسكرية التي اختبأت تحت أجنحتها، فإن ذلك كله صار يشكل، إلى جانب النظام، حجر عثرة في طريق الجميع، وحتى مقولة أن لا بديل فلم تعد كافية ليختبئ أحد خلفها، فقد يكون المجلس العسكري/ المدني الجامع للأطياف السورية الذي يجري الحديث عنه كفيلاً بأن يكون البديل الأمثل لمرحلةٍ هي انتقالية، وتحت إشراف الدول الموجودة والأمم المتحدة.
تاسعاً: يبقى ضعف المعارضة السورية مرتبطاً برموز محددة، لا بالشعب، وقد أوجدت تلك الرموز ظروف استثنائية ومرحلة طويلة من القمع الرهيب. وإذا كان نصف السوريين على الأقل قد أيدوا الاحتجاجات الأولى، وهتفوا للحرية، فإن النصف الآخر أو معظمه لم يعد اليوم يؤيد النظام الذي لم يُحسن التعاون مع السوريين شعبا، ولا بد أن يفرز هؤلاء وأولئك من لم تزل تتوهج في داخله صيحات الحرية، وعبارة “يا الله ارحل يا بشار” التي تحولت إلى سيمفونية تمجد روحية الشعب السوري وعشقه إلى الحرية.
عاشراً: لعلَّ ما سوف تنجزه اللجنة الدستورية من وثيقة دستور جديد، وقانون انتخابات، وما يترتب عليهما، ووفقهما من مجريات عملية تأخذ سورية إلى حكم ديمقراطي يطيح دولة الاستبداد إلى الأبد، وينسي الشعب في زحمة البناء الجديد ما عاناه وما افتقده، ويعود ليكحِّل عيونه كل عدة سنوات برئيس جديد ينسب إليه، وإلى مجمل الهيئات المنتخبة ديمقراطياً إنجازات جديدة، ترتقي بالشعب، وتعطي الوطن لونه ومعناه.
المصدر: العربي الجديد