بفعل المصادفة وحدها تزامن توزيع الطبعة الثانية من كتاب راتب شعبو «قصة حزب العمل الشيوعي في سورية» مع إنشاء عضو سابق آخر في الحزب نفسه، هو مروان محمد، منذ أشهر، قناة على يوتيوب بعنوان «قصة سجين»، تهدف إلى توثيق تجارب معتقلين من الحزب عبر لقاءات أسبوعية مصورة.
يسود التبسّط الحلقات التي بثتها القناة، وعدم الوقوع تحت ضغط الوقت، وربما كان الأهم هو انطلاقها من سؤال مركزي ثابت عن نشأة الضيف والدرب الذي قاده إلى الحزب وتجربته فيه، قبل الانتقال إلى مرحلة السجن الذي طال معظم أعضاء الحركة. مما يرشح هذا الأرشيف لأن يكون أحد مراجع تاريخ الحياة السياسية السورية، كما كتب ابن ثالث للتجربة، هو مالك داغستاني، في مقالة فرحة ومحقة.
في حين أن الكتاب، الذي حمل توقيع محلل سياسي وروائي، يهدف إلى دراسة الحزب ومراحل تطوره الأساسية، تنظيمياً وسياسياً، ليقدم أكمل محاولة حتى الآن لتأريخ هذا الحزب، بالاعتماد على قاعدة مكتبية يصعب الوصول إليها من الكراسات والصحف الحزبية التي باتت نادرة، بالإضافة إلى شهادات عدد من الفاعلين فيه لملء الثغرات واستكمالها.
يرصد شعبو ظروف نشأة الخلايا المكونة لهذا التيار، التي عُرفت باسم «الحلقات الماركسية»، في أواخر الستينات بفعل عوامل ثلاثة؛ فعالمياً كانت تلك مرحلة ظهور اليسار الجديد المحمول على أكتاف طلابية ضد المؤسسات، وعربياً كانت هزيمة عام 1967 دافعاً لكثير من الشباب إلى البحث عن خيارات راديكالية بعد الفشل المدوي والمهين للنظام العربي، ومحلياً تأثر شبان سوريون بالتحول اليساري لبعض المنظمات الفلسطينية الناشئة، ولا سيما الجبهتين الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين، بالإضافة إلى توافر الكتب الماركسية إبان حكم يسار البعث في سلطة 23 شباط 1966.
تكونت «الحلقات» من أعضاء سابقين في حركات قومية أو اشتراكية. وكانت تشكيلات ثقافية فكرية مستقلة ومبعثرة دون هيكلية ومركزية تنظيمية. وانشغلت بتأصيل فهم ماركسي، ولينيني، للواقع، مما سيظهر لاحقاً في كراسات «الخط الإستراتيجي»، وهي ثلاثة عشر، منها: «جدل بناء الحزب الشيوعي في الساحة السورية» و«الطبقة العاملة السورية» و«البرجوازية الصغيرة والسلطة السورية» وأخرى عن المسألة الفلسطينية، والوحدة العربية والأقليات، والصراع الطبقي العالمي، وسوى ذلك.
بسبب هذا الطابع النظري ونشاطها شبه العلني لم تكن «الحلقات» على أولويات الأجهزة الأمنية التي اكتفت بالرصد وجمع المعلومات. حتى بدأت بعقد اجتماعات للتواصل والتعارف والتنسيق والعمل على توحيد الرؤى وتطوير الحالة التنظيمية، وصولاً إلى الاجتماع الثالث الموسع في آب 1976، الذي حضره 30 مندوباً يمثلون 120 عضواً، وجرى فيه الاتفاق على تأسيس «رابطة العمل الشيوعي».
وكان هذا إيذاناً بانتقال هذه الحركة من الانشغال النظري إلى السياسة، استجابة لتطورها الذاتي وبتأثير ردة الفعل الغاضبة في أوساطها على التدخل السوري في لبنان ضد الفصائل الفلسطينية و«الحركة الوطنية» ذات الطابع اليساري.
نتيجة تكوينها المتمرد رفضت «الرابطة» منصب الأمين العام واختارت نمط القيادة الجماعية عبر «لجنة عمل» بدل المكتب السياسي، وهدف اسمها إلى «ربط» التنظيمات الشيوعية القائمة، بعد تثويرها، في تنظيم واحد راديكالي لا إصلاحي. ولذلك دخلت في سجالات مع طرفي الحزب الشيوعي السوري آنذاك؛ الرسمي المشارك في الحكم برئاسة خالد بكداش، والمنشق بقيادة رياض الترك. ومن المعروف أن الشرخ بينها وبين هذا الجناح الأخير صار حاداً ورضّياً، واستمر بين بعض بقايا التنظيمين حتى الآن.
في آب 1981 اقتنعت «الرابطة» أن لا مكان لها في النادي الشيوعي السوري إلا بشكل مستقل، بما أنها لم تكن بالأصل فرعاً من الشجرة الأم، الحزب الشيوعي السوري، فقررت، في مؤتمرها الأول الذي حضره 55 مندوباً، التحول إلى حزب بالاسم نفسه «حزب العمل الشيوعي» الذي سيستمر حتى إلقاء القبض على الجيل الأخير من قيادته عام 1992.
وذلك لأن الميل إلى الفعل والتأثير في اللحظة السياسية أفضى أوتوماتيكياً إلى التعرض للقمع الذي بدأ باعتقالات فردية ثم أخذ شكل «حملات» شهيرة في تاريخ الحركة، تولاها جهاز المخابرات العامة ثم شعبة المخابرات العسكرية، مما أدى إلى نزيف مستمر في الكوادر أفضى إلى استئصال التنظيم بعد أن استحق وصف «الحزب اليساري الأكثر سعياً…».
يعرض الكتاب لمراحل مفصلية من تاريخ الحركة، أبرزها موقفها من الصراع الدموي بين السلطة والإسلاميين في الثمانينات، وهو الموقف الذي ما زال محط سجال حتى اليوم كذلك. فيوضح أن «الرابطة» نظرت إليه على أنه صراع بين استبدادين، إسلامي وبعثي، ومعركة بين شريحتين من البرجوازية السورية، برجوازية بيروقراطية تمثلها السلطة، وهي أقل سوءاً من البرجوازية التقليدية التي يمثلها الإسلاميون، فهي حرب بين نظام ديكتاتوري وفاسد ولا وطني وذي طابع طائفي وبين حركة رجعية فاشية طائفية. ويشرح ظروف رفع شعار إسقاط السلطة ثم تجميده، وضغط بعض الكوادر السجناء لفتح حوار مع السلطة لمواجهة الإخوان المسلمين، والإفراج عن 150 من المعتقلين الشيوعيين في شباط 1980، أكثرهم من الرابطة، ومراهنة النظام على انتصار «خط معتدل» فيها يدفعها إلى ضفته. وهو ما لم يحدث فعلياً مع رفض الحركة التحالف مع «الشر الأهون»، وسعيها لاستقطاب «الشعب» حول خط ثالث عبّر عنه إصدارها، في خضم الصراع في نيسان 1980، العدد الأول من جريدة «النداء الشعبي» المخصصة للتوزيع على الناس خارج الحركة. وهو الرهان الذي فشلت فيه «الرابطة»، ثم «الحزب»، للخروج من الحالة النخبوية والتحول إلى تنظيم جماهيري.
فمن ناحية تكوينية تشكلت الحركة من أغلبية طلابية من البرجوازية الصغيرة، في العشرينات من أعمارها، تستعيض بالكفاح عن السياسة، وبالثقافة الكتبية عن الصلة بالواقع، وتستخدم لغة إطلاقية شديدة الوثوق، تعليمية وساخرة على الهدى اللينيني، مما كان يدغدغ شعور أعضائها ويجذب إعجاب محيطها الصديق الذي تركز بين الأقليات، مع حضور لافت للعلويين، ونسبة تمثيل للمرأة هي الأعلى في المعارضة السورية.
في نهايته يشير الكتاب إلى خيط غير سياسي جمع بين أبناء هذا التنظيم، وهو النزوع إلى التمرد والنفور مما هو رسمي، ابتداء من اللباس وانتهاء بالتقاليد الاجتماعية، والنفَس الاقتحامي. وقد أسهمت سنوات السجن التي عاشها الجميع، تقريباً، في تقوية رابط وجداني حوّلهم إلى عائلة عريضة، أو إلى «عشيرة» كما عبّر أحد ضيوف الحلقات المنشورة على يوتيوب، التي تكسو هيكل الدراسة التي قدمها الكتاب لحماً، وتعرضها في تجارب شخصية حية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا