تقع قاعدة التنف إلى الغرب من بوابة الوليد الحدودية مع العراق بحوالي 25 كلم، على المثلث الحدودي بين العراق وسوريا والأردن. اكتسبت تلك المنطقة بعداً استراتيجياً كبيراً بعد سيطرة تنظيم داعش على معظم جانبي الحدود السورية-العراقية في العام 2014، بما في ذلك البوابة الحدودية القريبة من موقع القاعدة الحالي. كان خطر تنظيم داعش داهماً في تلك اللحظة، ليس على سوريا والعراق فقط، لكن على الأردن أيضاً في البادية المفتوحة، وهي بيئة اعتاد مقاتلو تنظيم داعش التحرك فيها خاصةً العراقيين منهم، في الفترة التي تلت القضاء على التنظيم للمرة الأولى في العراق، عندما كان يسمى الدولة الإسلامية في العراق.
بعد إطلاق التحالف الدولي ضد تنظيم داعش من قبل الولايات المتحدة في شهر آب (أغسطس) من عام 2014، بدأت جهودٌ لشخصيات سورية من محافظة دير الزور لإنشاء مجموعات قتالية من أجل محاربة التنظيم، الذي سيطر على أغلب أراضي المحافظة ودفع التشكيلات المقاتلة المرتبطة بالجيش الحر والفصائل الإسلامية للخروج منها.
جزءٌ وازنٌ من فصائل دير الزور والمنطقة الشرقية فضَّلَ التحرك نحو البادية، والانطلاق من قواعد في منطقة القلمون الشرقي التي تتيح حرية الحركة في البادية السورية الكبيرة، وذلك بهدف العمل مستقبلاً على العودة إلى محافظتهم. فصائل أخرى من الشرق السوري فضلّت الذهاب نحو الشمال الغربي لسوريا، وهو ما وضعها ضمن إطار التنسيق ومن ثمّ التبعية التامة لاحقاً لتركيا. لكنَّ هذه قصة أخرى.
بحلول نهاية العام 2015 كانت تلك الجهود قد أثمرت عن إطلاق فصيل سُمي جيش سوريا الجديد، معظم عناصر هذا الفصيل كانوا آتين من فصائل الجيش الحر في دير الزور، وتحديداً جبهة الأصالة والتنمية التي كانت تجمعاً ضمّ فصائل إسلامية وأخرى تابعة للجيش الحر، وذلك في تحالف عُدَّ الأكبر في محافظة دير الزور وقتها. بدأ العمل من أجل طرد تنظيم داعش من منطقة البوابة الحدودية مع العراق والمثلث الحدودي، دون الحديث عن قاعدة للتحالف الدولي أو تحديد قواعد الانطلاق.
خلال العام التالي، كَشفت تسريبات صحفية وجود مقاتلين أميركيين وبريطانيين يقومون بدعم وتدريب فصيل جيش سوريا الجديد (سيُصبح اسمه لاحقاً مغاوير الثورة). كانت قاعدة التنف في ذلك الوقت قد أُنشأت بالفعل.
بدأ فصيل سوريا الجديد، انطلاقاً من تلك القاعدة، بمحاربة تنظيم داعش في المنطقة التي أمّن فيها طيران التحالف الدولي دائرةً قطرها 55 كلم في محيط القاعدة من أي تهديدات، سواءً من تنظيم داعش أو النظام. في الفترة نفسها، بدأ فصيلٌ آخر؛ فصيل أسود الشرقية، والذي ينتمي مقاتلوه لمحافظة دير الزور، بالعمل على محاربة تنظيم داعش في البادية الجنوبية والغربية، لكن دون الانطلاق أو الاستقرار في القاعدة، محافظاً على قواعد له في القلمون الشرقي والشريط الحدودي مع الأردن.
أصبح لقاعدة التنف، أو منطقة الـ 55 كما بات يُطلق عليها محلياً نتيجة مدى منطقة الحماية المشار إليه أعلاه، حضورٌ غير قابل للتجاهل في العمليات ضد تنظيم داعش، أو في التنافس للسيطرة على الحدود السورية العراقية لاحقاً بين الولايات المتحدة وإيران التي زجّت بقواتها في المناطق غرب وجنوب نهر الفرات، وهي المناطق التي كانت خارج غطاء طيران الولايات المتحدة بحسب الاتفاق بين واشنطن وموسكو بعد دخول الأخيرة على خط العمليات العسكرية في سوريا نهاية 2015.
لكنّ القاعدة، التي كانت حسب تصريحات قيادات فصيل سوريا الجديد وآمال مقاتليه نقطة انطلاق نحو تحرير مدنهم وبلداتهم في دير الزور من تنظيم داعش، كانت في الواقع كما سيظهَر لاحقاً مساحة عازلة للأخطار عن الأردن، وموضع قدم للولايات المتحدة في منطقة استراتيجية للغاية خلال حرب ضد تنظيم داعش، وتنافس استراتيجي مع إيران في المنطقة.
ليس بعيداً عن القاعدة، كان مخيم الركبان الذي أقيم على الشريط الحدودي مع الأردن ملاذاً للآلاف من الهاربين من تنظيم داعش وقوات النظام السوري، من أبناء وبنات المحافظات الشرقية أو ريف حمص الشرقي والقلمون. ضمّ المخيم أيضاً عائلات مقاتلي فصيل جيش سوريا الجديد، وعائلات مقاتلي الفصائل الأخرى التي تنشط في البادية لقتال تنظيم داعش بدعم من وزارة الدفاع الأميركية، مثل جيش أسود الشرقية من دير الزور وشهداء القريتين وقوات أحمد العبدو من ريف حمص والقلمون، اعتمد المخيم بشكل أساسي على المساعدات التي يتم إدخالها من الأردن في كل احتياجاته، بما فيها المياه بسبب طبيعة المنطقة الصحراوية والقاسية.
في شهر حزيران (يونيو) عام 2016، شهدت منطقة التنف والمخيم حدثين سيؤثران كثيراً على مستقبل المنطقة، إذ تسبب هجوم انتحاري شنه تنظيم داعش عبر مخيم الركبان على المخفر الحدودي الأردني القريب بإغلاق الأردن للساتر الترابي الذي يفصل الحدود عن المخيم، فيما كان توقف دعم التحالف الجوي فجأة عن مقاتلي جيش سوريا الجديد في منتصف معاركهم ضد تنظيم داعش جنوب مدينة البوكمال سبباً في فشل هجومهم هناك، وهو الهجوم الذي كان يُعوَّل عليه ليكون بوابة انطلاق تحرير دير الزور من التنظيم عبر الجنوب وانطلاقاً من قاعدة التنف.
أضاع الأميركيون الفرصة كما صرَّحَ وزير الدفاع أشتون كارتر للصحافة بعد فشل المعركة، لكنّ تلك الفرصة لم تكن مجرد جولة عادية من القتال بالنسبة لمقاتلي جيش سوريا الجديد، فقد أدّت التطورات اللاحقة، ومن بينها دخول الميليشيات المدعومة إيرانياً على خط قتال تنظيم داعش غرب النهر، إلى إغلاق البوابة أمامهم للعودة إلى دير الزور التي أصبحت مقسمة بين قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي شرق نهر الفرات (منطقة الجزيرة) والميليشيات الإيرانية وقوات النظام السوري المدعومة من الطيران الروسي غرب النهر (منطقة الشامية). أما مقاتلو دير الزور في البادية، فقد ظلّوا في البادية دون أي أمل بالعودة إلى بلداتهم.
منذ تلك اللحظة كانت العودة إلى محافظة دير الزور مرهونة أميركياً بتبعية الفصائل في البادية لقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما رفضته تلك الفصائل. في الحقيقة، كانت الشروط الأميركية تعجيزية أحياناً أكثر من ذلك، إذ شملت تفكيك الفصائل والانضمام كعناصر لقوات سوريا الديمقراطية، وهي شروط كانت تخفي على ما يبدو خشية أميركية من العلاقة التي جمعت جبهة الأصالة والتنمية وفصائل الجيش الحر في دير الزور مع جبهة النصرة في وقت سابق، وهو ما كان يسبب هواجس أمنية أميركية ستؤدي إلى بقاء المقاتلين في منطقة الـ 55.
قادَ فصيل جيش أسود الشرقية محاولات منذ ذلك الوقت لمحاربة تنظيم داعش في البادية في المنطقة الممتدة من شرق السويداء وشرق القلمون نحو عمق البادية، واستطاع الفصيل على الرغم من قلّة مقاتليه تحقيق إنجازات ضد التنظيم، الذي بدأ بالتوجه نحو البادية بعد الخسائر التي لقيها أمام قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية.
كانت تلك العمليات التي لقيت دعماً مباشراً من البنتاغون ناجحةً إلى حد بعيد، ما ساهم في تحسين صورة أسود الشرقية، لكن ليس إلى الدرجة التي تؤدي إلى ضغط الولايات المتحدة على قسد من أجل عودتهم إلى محافظة دير الزور. لتنتهي تلك المحاولات بضغوط أردنية على التحالف الدولي، إذ كانت عمّان قد بدأت مساراً للتصالح مع النظام السوري، دفعت بنتيجته فصائل الجنوب في محافظتي درعا والقنيطرة إلى توقيع اتفاقات مع النظام السوري، وذلك برعاية روسية وموافقة أمريكية خليجية. كانت تحركات أسود الشرقية التي استهدف بعضها النظام السوري، بالإضافة إلى وجود مخيم الركبان، عبئاً على تلك الاتفاقات.
لم تبدأ الضغوط الأردنية على مخيم الركبان منذ بدء مسار التصالح مع النظام السوري، إلّا أنّها زادت للغاية وأصبحت عمليات إدخال المساعدات نادرة للغاية، ما أدى إلى تطور أوضاع إنسانية بالغة السوء في المخيم، وهو ما أثَّرَ بدوره على معنويات الفصائل في المنطقة. وبينما فضَّلَ فصيل أسود الشرقية سحب مقاتليه شمالاً، دخل فصيل شهداء القريتين ضمن منظومة جيش سوريا الجديد الذي كان أصبح اسمه مغاوير الثورة في ذلك الوقت.
عام 2018، قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالإعلان عن سحب قوات بلاده من سوريا نتيجة ضغوط تركية. ذلك الإعلان، الذي جرى التراجع عنه تدريجياً، كان قد استثنى منذ البداية قاعدة التنف على الحدود مع الأردن. بقيت القاعدة موقعاً استراتيجياً على الرغم من تعويل الأردن على مسار تضمنه روسيا للتصالح مع النظام السوري مقابل إبعاد الوجود الإيراني عن الجنوب، وهي وعودٌ اتضح لاحقاً أنّها غير صحيحة أبداً، إذ كان كل موضع قدم لقوات النظام السوري ثغرةً تدخل منها الميليشيات الإيرانية لتجنيد المقاتلين وخلق قواعد عسكرية جديدة.
وبعد تراجع كبير في الدعم المقدّم للفصائل الموجودة في التنف، على الرغم من استمرارها في الوجود واستمرار تأمين الطيران لمحيط القاعدة، عادت الأنظار إليها مجدداً بعد اقتناع القيادة الأردنية بانّ الاتفاق مع النظام السوري لن يبعد الخطر الإيراني، وأضاف إلى ذلك المخاطر المترتبة على عمليات تهريب المخدرات التي ارتفع معدلها بشكل كبير في السنوات الماضية.
احتاجت الأردن والولايات المتحدة، التي لا تنظر إلى سيطرة إيران على معبر البوكمال الحدودي بين سوريا والعراق بعين راضية، إلى ما هو أكثر من المناورات التي أُجريت في البادية الشرقية للأردن تحت مسمى الأسد المتأهب صيف العام الماضي 2022. كان الوقت مناسباً لإعادة تشكيل الفصيل الموجود، ليَجري استخدام تهمة التوّرط في تهريب المخدرات نحو الأردن (وهو ما قد يكون صحيحاً) لإجراء ترتيبات جديدة في القاعدة والفصيل، وإبعاد شخصيات لم تكن على صلة جيدة مع الأردن نتيجة مشاكل سابقة ونتيجة الضغوط الأردنية وحصار مخيم الركبان، وتسليم قيادة جديدة من فصيل شهداء القريتين تحوز على رضا أردني.
إعادة التشكيل الجديدة، وعمليات التدريب العسكرية التي أُعلِنَ عنها من قبل قوات أميركية للعناصر الموجودين، بالإضافة إلى زيادة ميزانية القاعدة المرتفعة أصلاً، كل ذلك يبدو وكأنّه جزءٌ من استراتيجية جديدة لدعم الأردن مجدداً في خلق واقع جديد جنوب سوريا، الذي أصبح منطقة عبور أساسية للمخدرات، التي تنتجها معامل النظام السوري، نحو الأردن ودول الخليج عبر عدّة طرق من أبرزها الحدود الأردنية.
استراتيجية قد تهدف أيضاً لخلق منطقة عازلة عن النفوذ الإيراني، الذي أصبح ممسكاً بالكثير من المواقع الحيوية في مناطق سيطرة النظام السوري، خاصةً المناطق التي تعتبر بوابةً نحو جنوب سوريا. ضمن هذه المعادلة، فإنّ تقديم المزيد من الدعم وإعادة تشكيل فصيل قاعدة التنف سيكون جزءاً من استراتيجية أكبر لمواجهة تلك التحديات.
عام 2017 وخلال اجتماع جمع بعض الباحثين والمختصين السوريين مع المبعوث البريطاني إلى سوريا، قال المبعوث للحضور: ما الذي يمكننا فعله ما عدا قصف القصر الجمهوري؟. كانت تلك إشارة واضحة إلى أنّ القوى الدولية قد تجاوزت مرحلة دعم إسقاط النظام السوري. صحيحٌ أن الولايات المتحدة وحلفائها لم يكونوا في وارد تنفيذ عمليات عسكرية لإسقاط النظام في دمشق، وهو ما قاله مبعوثوها للمعارضة السورية منذ العام 2011، إلّا انّها نفذت استراتيجيات وقامت بالتنسيق للمساهمة بشكل غير مباشر في ذلك، وهو الأمر الذي تغير منذ سيطرة النظام على حلب نهاية عام 2016.
تقع قاعدة التنف على مثلث حدودي لا يمكن رؤيته على أرض الواقع، خطوط شبيهة باستراتيجية الولايات المتحدة التي لا تريد فعل شيء، لكنها تريد أن تظل ممسكةً بخيوط اللعبة لوقف تدهورها إلى حدود قد تضرّ بمصالح حلفائها في المنطقة. لم تنته قصة قاعدة التنف بعد، وهناك فصول جديدة ستكتب في هذه القصة الطويلة، لكنّ ما نعرفه حتى الآن أنّ هذه القاعدة تمثل شيئاً أكبر منها، وهو عدم رغبة واشنطن في القيام بتغييرات كبيرة وإصرارها في الوقت ذاته على منع أي مسار ليست راضية عنه.
المصدر: الجمهورية. نت