دخلت تركيا أجواء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعدما حسم الرئيس رجب طيب أردوغان موقفه وأعلن رسميا عن تقديم موعدها في الرابع عشر من شهر أيار المقبل. يخطىء من يعتقد أن الانتخابات التركية المرتقبة بعد شهرين ستكون مواجهة أمام الصناديق لتحدد الطرف الفائز في معركة الرئاسة والبرلمان ثم تعود الأمور إلى سابق عهدها.
صحيح أن الأحزاب التركية تفاهمت على أن تكون أجواء الحملات الانتخابية هادئة، دون موسيقا صاخبة ومهرجانات شعبية حاشدة وهتافات تحد واستفزاز، احتراما لضحايا كارثة الزلزال والنكبة التي حلت بمدن جنوب البلاد في مطلع شباط المنصرم. لكن ذلك لن يحول دون تحولها إلى مواجهة حزبية وسياسية صعبة بدأت معالمها تظهر إلى العلن منذ أشهر. سيكون قرار الناخب تحت تأثير إنجازات حزب العدالة والتنمية في العقدين الأخيرين في الداخل والخارج من جهة، وارتدادات كارثة الزلزال، والوضع الاقتصادي والمعيشي وملفات السياسة الخارجية المعقدة من جهة أخرى. لكن الذي سيحسم النتيجة هو الاصطفاف السياسي والحزبي الأول من نوعه بين جناحي الحكم والمعارضة. هي حالة سياسية لم تشهدها تركيا في العقود الأخيرة، من خلال ولادة تحالفات حزبية تقرب أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والقومي المتشدد إلى الليبرالي المنفتح، أمام طاولة التقاسم والتحاصص البرلماني والحكومي وربما الرئاسي من أجل الفوز وإزاحة الطرف الآخر.
يراهن حزب العدالة والتنمية على احتمال تفكك تحالف المعارضة السداسي “الهش والقابل للتبعثر” في كل لحظة، وحيث تحاول قيادات الحزب الحاكم سد الفارق في الأصوات من خلال التنسيق الانتخابي مع بعض الأحزاب اليمينية المعتدلة مثل حزب “الرفاه من جديد” الذي يقوده فاتح أربكان وحركة “هدا – بار” الإسلامية المنتشرة في مدن بطمان ودياربكر وأورفا وماردين في جنوب البلاد. لكن العديد من استطلاعات الرأي تبقي جناح المعارضة أمام الطاولة، خصوصا بعد عودة ميرال أكشينار رئيسة “حزب الخير” عن قرار مغادرتها التحالف وتبني دعم ترشح كمال كليتشدار أوغلو زعيم “حزب الشعب الجمهوري” لمنصب الرئاسة، واقتراب موعد الإعلان عن ولادة تنسيق سياسي جديد في المعركة الرئاسية بين جناح المعارضة و”حزب الشعوب الديمقراطية” الذي يحظى بشعبية واسعة في مدن جنوب شرق تركيا.
صباح الخامس عشر من أيار سنتعرف إلى نتيجة مواجهة تصفية حسابات بين تكتلين واصطفافين يريد الأول إعادة النظام البرلماني إلى الدستور ومؤسسات الدولة، بينما يسعى الطرف الآخر لتأمين بقاء الرئيس أردوغان على رأس الدولة لحقبة جديدة، ولتثبيت أسس النظام الرئاسي الذي تم قبوله في استفتاء شعبي قبل 5 سنوات. انتخابات ستحمل المواجهة المباشرة الأولى والأكبر من نوعها بين أردوغان وخصمه السياسي كمال كليتشدار أوغلو، الذي قرر دخول ساحة المبارزة بنفسه هذه المرة ودون وسطاء أو وكلاء كما سبق أن فعل في انتخابات عامي 2014 و2018.
خسارة انتخابات ما بعد شهرين قد تحسم باكرا أيضا نتائج الانتخابات المحلية المرتقبة بعد 8 أشهر والتي تحولت في العام 2019 إلى مواجهة “كسر عظم” في بلديات المدن التركية الكبرى وانتصرت فيها قوى المعارضة يومها.
بين ما ستحمله نتائج الانتخابات أيضا مصير حليف أردوغان الأول حزب الحركة القومية ومدى قدرته على حماية موقعه ودوره وبعدما وضعته الكثير من استطلاعات الرأي أمام مرحلة الخطر في مسألة تجاوز عتبة 7 بالمئة من مجموع الأصوات والبقاء تحت سقف البرلمان. ثم هناك حالة الإعلام التركي التي يصفها الكاتب محرم صاري قايا بأنها لا تختلف كثيرا عن توصيف الكاتب الألماني من أصل كوردي بيونغ شول هان “انفوبوليتيك” الناتج عن جلوس السياسة في حضن وسائل الإعلام، وحيث تحاول بعض المؤسسات الإعلامية التأثير في لعبة التوازنات السياسية والحزبية وتسجيل اختراقات لصالح مرشح أو حزب في مواجهة المرشح أو الحزب الآخر.
خصوصية المعركة الانتخابية في تركيا هذه المرة أيضا تتعلق بدور شركات استطلاعات الرأي التي نادرا ما تصيب في توقعاتها. بعضها يعلن فوز تحالف الجمهور بفارق كبير، وبعضها يرجح فوز قوى المعارضة دون أي تردد. هل يكون هناك بعد الانتخابات مراجعة شاملة لفعاليات هذه المؤسسات وطريقة عملها في اختيار العينات وقراءة النتائج لتكسب ثقة الناخب؟
سنعرف عشية الرابع عشر من أيار المقبل من هو الطرف الفائز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الذي سيطل على الجماهير المحتشدة لإلقاء “خطاب الشرفة” أمام أنصاره معلنا بداية مرحلة جديدة. فهل تتمكن قوى المعارضة من مواصلة ما حقّقته في نيسان 2019، أم أن “حزب العدالة والتنمية” سيستردّ ما فقده ويواصل قيادته للمسيرة؟
مشكلة مدرب الفريق البرازيلي “تيتي” الذي غادر العرين بعدما تولى المهمة الأصعب في تصفيات كأس العالم الأخيرة، كانت أن فرق المجموعات الأخرى التي لعب معها اكتشفت كل خططه وحركت ضدها الأوراق والأحجار التي تملكها في ساحة اللعب، فحيدت نجومه وأبعدتهم عن المرمى بسهولة. هل هذا ما يعاني منه “تحالف الجمهور” الذي يقوده “حزب العدالة والتنمية” اليوم؟ فبعد عقدين من الزمن هل يكون قد استنزف الكثير من الخطط والمفاجآت في مواجهة خصومه ومنافسيه السياسيين الذين بدؤوا يحاربونه بالسلاح نفسه الذي يستخدمه؟
خشبة خلاص حزب العدالة هي مغادرة حزب ميرال أكشينار الطاولة السداسية مجددا بعد التقارب الأخير بين “الشعب الجمهوري” و”الشعوب الديمقراطية”، وتمسك السياسي اليساري محرم إينجه بالتغريد خارج سرب المعارضة حتى النهاية.
الكرة في منتصف الملعب والمنافسة ستكون حول من يكسب أصوات الأحزاب الصغيرة ويسد الفراغ الذي يحتاجه لضمان 50 + واحد في الرئاسة وتأمين الأغلبية البرلمانية التي تمكنه من إصدار القرارات والقوانين في المجلس النيابي. والرهان أولا وأخيرا هو على ما سيقدمه “حزب الشعوب الديمقراطي” الذي قرر دعم كليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية وخوض الانتخابات البرلمانية تحت راية “حزب الجهد والحرية” بدلا من شعاره هو تحسبا لاحتمال حظره من قبل المحكمة الدستورية التي رفضت طلب إرجاء ملف القضية إلى ما بعد الانتخابات. فهل تعطي قرارها قبل هذا التاريخ مما يعني منع أكثر من 450 قياديا في الحزب من العمل السياسي والحزبي لمدة 5 سنوات؟
بدأ العد العكسي نحو 14 أيار التركي. ونتائج انتخابات ما بعد أقل من شهرين ستكون قاسية على العديد من القيادات السياسية والحزبية في الحكم والمعارضة معا. هي ستدفع أحد التكتلين إلى مغادرة الحلبة والانسحاب من المشهد. لكن المفاجأة قد تكون مع فوز أحدهما بالرئاسة والآخر بالأغلبية البرلمانية وعندها ستتجه الأنظار صوب موعد الانتخابات المبكرة الجديدة في تركيا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا