يقول صوت النيل حافظ إبراهيم:
الأم أستاذ الأساتذة الأولى *** شغلت مآثرهم مدى الآفاق.
الأم وطن وأمّة وصانعة سيدات ورجال أفذاذ خلد اسمهم التاريخ…
فهذه والدة الإمام الشافعي التي تولت تربيته بعد أن تُوفِي والده ورحلت به من غزة وهو ابن عامين متجهة إلى مكة التي كانت حينئذٍ موئلًا للعلماء والفقهاء ورغم أنها لا تملك المال الذي يعينها على تعليم ابنها إلا أنها استطاعت بفطنتها إرشاده إلى طريقة يستطيع الحصول بها على العلم الذي يحصل عليه أولاد الأغنياء فقالت: يا بني اذهب وادخل مجلس المعلم بأدب وهدوء فلا يشعر بك أحد واجلس مستمعًا وفي سن الخامسة أصبح يُسأل ويشرح لزملائه وبعد أن تجاوز مرحلة الحفظ ووصل إلى الكتابة والتدوين كان الفقر عائقًا مرة أخرى وكالعادة وجدت الأم بدهائها وحكمتها الحل حيث كانت تخرج إلى ديوان الوالي لتجمع الأوراق التي كتب على أحد وجهيها ليكتب هو على الوجه الآخر وتذهب إلى مذابح الإبل لتأخذ عظام الكتف وتجففها ليكتب عليها ابنها وكانت نتيجة كل هذا السعي والجد شاعرًا وإمامًا وحجة في النحو والبلاغة والحديث والفقه وكان من طلابه أئمة أشهرهم أحمد بن حنبل الذي نشأ يتيمًا وتولت تربيته أمه التي كانت له نِعمَ القدوة والمرشد حيث كانت تقوم الليل وتوضئه وتذهب به إلى المسجد وتنتظره حتى ينتهي وعملت على تحفيظه القرآن وعندما بلع السادسة عشرة من عمره شجعته على السفر لطلب العلم فانطلق ينهل علمًا وفقهًا من علماء بغداد والكوفة والبصرة ثم الشام ومكة والمدينة إلى أن اصبح إمامًا تكتظ حلقات دروسه بطلاب العلم وقد تخرّج على يده كثير من الأئمة منهم الإمام البخاري ذلك الطفل اليتيم الضرير الذي رحلت به أمه من بخارى إلى مكة وتركته هناك ليتلقّى علوم الحديث والفقه فأصبح علّامة وعلامة في علوم الفقه والحديث.
وهذه والدة سفيان الثوري الذي أحب أن يفرّغ نفسه للعلم فكانت أمه الداعم والناصح والراشد والمورد للرزق والعيش الكريم، حيث قالت له: “يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي وإذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك”
وتلك والدة محمد الفاتح التي كانت تصطحبه كل يوم إلى أسوار القسطنطينية وتقول:” أنت من سيفتح هذه الاسوار! وعندما كان يسألها: كيف لطفل مثلي أن يفتح مدينة كبيرة كهذه كانت تقول: بالقرآن والسلطان وحب الناس.
ولأن الأمومة ثقافة ولغة واحدة في كل المجتمعات فالطفل الذي نعته معلمه بالغبي وجاء لأمه برسالة قامت بإخفائها وقالت له: يقولون إنك عبقري وليس لديهم معلمون أكفاء لتعليمك لذا يا ولدي أنا من سيتولى تعليمك إلى أن كبر وأصبح المخترع العظيم “أديسون” الذي ننعم بفضل اختراعاته إلى يومنا هذا… هو الرجل الذي وجد في خزانة والدته بعد وفاتها رسالة المدرسة وقد جاء فيها: “ابنك ضعيف الفهم ولن نسمح له بأن يكمل تعليمه في هذه المدرسة” هي من حولت مصير ابنها من فاشل إلى مخترع يشهد العالم على عبقريته فكانت له المعلم الذي آمن بقدراته.
أما “بنيامين كارسون” الذي تدهورت حالته النفسية والأكاديمية بعد انفصال والديه حيث رفضت والدته التخلي عن طفليها وبسبب فقرها المادي والأكاديمي اضطرت للعمل كخادمة من أجل تعليم ابنيها إلا أن الفاقة وعدم الاستقرار الأسري أثرا سلبًا عليه فأصبح عدوانيًا وكسولًا وأخذ زملاؤه ومعلميه ينعتونه بالفاشل والغبي فسخطت والدته وانتفضت لفورها لإيمانها بذكائه وقدراته وألزمته بقراءة كتابين أسبوعيا وحرمته من اللعب وراقبت كل البرامج التي يشاهدها حتى أصبح أشهر جراحي الأعصاب في العالم و نجحت بقواعدها الماسية بتغيير حياة ابنها إلى النقيض حيث كان له السبق في إجراء عمليات لأجنّة داخل الرحم واختير من ضمن 89 شخصية أسطورية في العالم ومنحه الرئيس الأمريكي وسام الحرية ثم دخل الحقل السياسي وأصبح وزيرًا للإسكان والتنمية.
وهذا “إبراهام لنكن” الذي تحدت والدته زوجها الذي يريده أن يحمل الفأس بدل القلم ليصبح فيما بعد رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية
و”نابليون بونابرت” المدين لأمه بكل ما حازه من الفخر وما فاز به من العظمة فقد كانت – كما يقول:” أستاذة وكان عقلها كبيرًا وإدراكها واسعًا”.
و”مارتن لوثر كنك” الذي كانت أمه داعمة له حتى أصبح زعيمًا قاد ثورة ضد التمييز العنصري وأصبحت مسيرته منهاجًا يسير عليه كل من يطلب الحرية.
كل هؤلاء أمهات ربين أولادهن خير تربية فكنّ المعلم والمرشد والداعم والإمام والقائد والعالم كله لأبنائهن…
وقد سجلت أمهاتنا أجمل آيات الشجاعة والتحدي والصبر فتحملن غياب أبنائهن ووقفن بشجاعة أمام الظلم وكنّ صاحبات أقلام عادلة وكلمة صارخة في المحافل الدولية والمظاهرات فطوبى لأمهات الشهداء والمعتقلين طوبى للمنقذات اللاتي يعملن في الإغاثة وقت المحن والكوارث في بلاد أنهكها الظلم والخذلان اللاتي أثبتن للعالم بأن الياسمين رغم رقته وجماله يستطيع الوقوف بقوته التي لا تضاهى في وجه الأعاصير والمحن…
طوبى للمعلمات المربيات اللاتي يسعين ليل نهار لرفع مستوى المستقبل الذي دمرته يد البطش، طوبى لمن كانت قوية في وجه كل مَنْ وما قد يثنيها عن مهمتها الأولى والسامية وهي بناء الإنسان، طوبى لكل أم معلمة قدّمت التربية على كل ما هو ماديًّا وبيولوجيًا طوبى لمن لم تيأس ولم تدع وحش البؤس يبتلعها وهنيئًا لكل أنثى خُلقت بقلب أم وعقل قائد، وكل عام وأنتنّ الخير.