سورية في العيد الثاني عشر للثورة الشعبية  

 يرى المفكّر السوري الدكتور برهان غليون، في حوار مع المرصد السوري لحقوق الإنسان، أنّ الثورة لم تحقّق هدفها في إسقاط حكم الطغيان والانتقال إلى نظام سياسي جديد في مستوى تطلّعات السويين وبدل اعادة انتاج النظام انتجت الحرب للقضاء على الثورة البلاد في فوضى عسكرية وإيديولوجية عارمة ووضعتها امام تدخلات أجنبية متضاربة  لافتا إلى أن المعارضة لم تكن السبب في الثورة وما كان بإمكانها قيادتها بينما كانت متعلقة بوهم التدخلات الدولية.

المرصد: بعد 12 عام من المقاومة، هل فشلت الثورة السورية؟
غليون: كان للثورة السورية هدفان مترابطان. الأول إسقاط حكم الطغيان الفردي والعائلي والعشائري القائم الذي ضحى بمصالح السوريين الجماعية والفردية وقوض اجتماعهم وقضى على تطلعاتهم السياسية والاجتماعية والإنسانية. والثاني الانتقال نحو نظام سياسي جديد يضمن هذه المصالح ويستجيب لتطلعات السوريين ويعمل على تحسين شروط وجودهم وأحوالهم. الهدف الأول تحقق جزئيا وبتكاليف باهظة لكن حال دون انجازه تدخل الدول الإقليمية والعالمية وفي مقدمها إيران وروسيا.

-مع ذلك هذا لم يسفر عن إعادة إنتاج النظام الذي أراد السوريون إسقاطه ولكنه أنتج فوضى عسكرية وسياسية وايديولوجية عارمة وتدخلات أجنبية متقاطعة ومتضاربة انتزعت من النظام استقلاله وسلطاته الرئيسية وحولته إلى خرقة تستر بها عورة الاحتلالات المتعددة وجهها السافر، كما أدى إلى تفكيك الدولة وقضى على سيادتها، ومزق المجتمع ودمر الاقتصاد ووضع البلاد أمام تحديات غير مسبوقة. بمعنى آخر لم يستطع النظام القضاء على الثورة الشعبية التي لم تكن سوى الرد الشعبي على انتهاكات الطبقة الحاكمة حقوقه وتقويض مستقبله إلا بالقضاء على نفسه حتى أصبح ألعوبة في أيدي الدول المحتلة التي تتقاسم المصالح في سورية على حساب شعبها بأكمله.  والأمر الأوضح اليوم في المسألة السورية هي ان النظام لم يعد قادرا على البقاء وليس على إعادة إنتاج نفسه فحسب بالرغم من ان قوى المعارضة لم تعد قادرة أيضا على تحقيق أي إنجاز. وهذا هو جوهر الأزمة المستفحلة منذ 12 عاما.

-أما هدف الانتقال السياسي الذي يعني إقامة النظام الجديد أو البديل فهو اليوم رهين صراعات الدول الإقليمية والعالمية وتنازعها على النفوذ والسيطرة، وما  يحول دون تحقيقه إلى جانب ذلك إخفاق الأمم المتحدة التي رعته ووسطائها الأربع حتى الآن في السيطرة على النزاعات والحروب بالوكالة التي تجري على الأرض السورية وعلى حساب السوريين، وفشلها في إيجاد الوسائل والاجماعات الدولية الضرورية لثني هؤلاء عن مشاريعهم التقسيمية وإجبارهم على الاعتراف بحقوق الشعب السوري وسيادته كما تنص عليه مواثيقها، ومن المؤكد أن السوريين غير قادرين وهم في الحالة التي صاروا عليها بعد حرب طويلة وشرسة شنها النظام وحلفاؤه عليه ودمروا مدنه وشردوا نصف أبنائه على تحقيق هذا الهدف لوحدهم، نحن هنا أمام سياسة انتحارية واضحة طبقها النظام واستفاد منها حلفاؤه: علي وعلى أعدائي. والنتيجة بالتأكيد خسارة جميع السوريين واستباحة البلاد من قبل القوى الطامحة في تحويلها إلى مناطق نفوذ ومسارح حروب لتحقيق مصالح غير مشروعة وأهداف استعمارية على حساب حياة السوريين ووجود سورية ذاتها كدولة، وهذا ما غير طبيعة المعركة أيضا فأصبحت وطنية واستقلالية بامتياز لا يمثل فيها الأسد سوى حصان طروادة الذي فتح الباب للقوى الأجنبية ولا يزال يحتمي بها.

س- ماهي أكبر أخطاء المعارضة الوطنية وهل حان وقت تشكيل هيكل آخر يطرح الحلول بقوة؟
ج: الواقع أن المعارضة لم تكن وراء الثورة وما كان بإمكانها قيادتها، التحق بعضها بالثورة بالتأكيد لكن متأخرا وبطريقة عرجاء، وليته لم يفعل، وساهم في تشتيت صفوفها بمقدار ما كانت المعارضة السورية، ككل معارضة تنمو في حجر نظام شمولي فاشي، مقسمة، مشتتة، متناحرة وعديمة الثقة بنفسها وببعضها. كانت الثورة شعبية بامتياز، خطأ المعارضة كان في عدم وجودها الفعلي أو في الوهم الذي صنعته لنفسها وعن نفسها، بالرغم من انعدام تجذرها وتشوش فكرها وافتقارها الشديد للقواعد الاجتماعية والسياسية نتيجة انطوائها الطويل على نفسها وعيشها المديد في أنفاق وأقبية تحت الأرض محرومة من أي نشاط حتى الفكري منه، بمعنى آخر كان الرهان عليها من قبل النشطاء وأنا منهم هو الخطأ.

-أما بخصوص الشق الثاني من السؤال فالجواب نعم. لكن نعم مشروطة بنضج النشطاء الذين عاشوا الثورة أو ناصروها، واستعدادهم لخوض غمار العمل السياسي والنضال الوطني على أسس وبوسائل ومناهج غير تلك التي اعتمد عليها جيل السياسيين السابقين الذين حطمت معنوياتهم وقلصت زاوية نظرهم وقيدت أياديهم السلطة الفردية المطلقة ونظامها العبودي، وهذا يعني عندما يتحررون من أوهامهم وتقاليد شيوخهم وتوجساتهم ويتغلبون على الشكوك المرضية وانعدام الثقة بالآخر ونفسية طريدي المخابرات وأجهزة الأمن الدموية. وأعتقد بالرغم من كل ما عشناه من مآسي وبسببه أيضا أننا في بداية الطريق لتدشين حياة سياسية وفكرية جديدة حيث يوجد سوريون قادرون على النشاط بحرية نسبية، ما ينقص حتى الآن لتبرز القوى الجديدة إيجاد النواة المحركة أو الدينامو الذي يستطيع أن يدفع هذه العناصر والجماعات الوليدة إلى الحركة ويوحد صفوفها وخططها وينسق جهودها ويبث الثقة والأمل من جديد بين أفرادها.

س: أخيرا، هل ماتت القرارات الدولية بعد سنوات من إعلانها وصعوبة مسار تنفيذها؟
ج- القرارات الدولية تبقى بحكم الميتة مهما كانت إن لم تجد القوى التي تستطيع وتريد تطبيقها، والخطأ الذي ارتكبناه أننا منذ البداية إعتقدنا أنّ وجود قوى دولية أو عربية مناصرة للثورة يعفينا من أن نسعى إلى تكوين قوتنا الذاتية التي من دونها لن تجد القوى الدولية وحتى العربية أي حافز للعمل لصالح شعب أو معارضة أو بلد لا تعرف من سوف يحكمه أو يتحكم بقراره، من هنا أعتقد أن أصل المشكلة كامن هنا أيضا فينا لأننا تأخرنا كثيرا في إنتاج هذه القوة الذاتية، واستسلمنا لفكرة انه لا حل ممكنا ألا باتفاق الدول الكبرى أو الإقليمية وأننا لا نزن أمامها شيئا، وهذا هو أكبر خطأ ارتكبته المعارضة وأقنعت به النشطاء منذ الأسابيع الأولى للثورة، والحال أن الدول التي تدخلت وزجت بقوتها العسكرية في الصراع كانت تلك التي أرادت أن تستغل الوضع لتحقيق مصالح إستراتيجية لها لا لمساعدة الشعب السوري على الانتصار أو حتى على الخروج من الأزمة، وهذا ما لا تزال تفعله إلى اليوم، أما تلك التي لم تعتقد أن لها مصالح كبيرة في التدخل فقد تراجعت عن التزاماتها الدولية بسرعة، والواقع ما كان من الممكن أن يكون لدى هذه الدول حافز للعمل على تحقيق حل سياسي في سورية لصالح السوريين والتضحية من أجلهم طالما لم تتعرض حكوماتها لضغوط قوية من قبل قوى سورية منظمة وفاعلة، أي ما لم يجبرها السوريون على ذلك. ومن الأنفع لهم في هذه الحالة التفاهم مع المسيطرين على الفريسة لضمان مصالحهم.

-باختصار لن يسلم لنا أحد ولا أي دولة عظمى أو صغرى عربية أو أجنبية سورية على طبق من فضة مهما كان إيمانه بحقوق الإنسان والشعوب، ولن تكون سورية لنا، أقصد للشعب الذي ثار من اجل الكرامة والحرية، إن لم نقاتل لانتزاعها من بين أيدي قاهريها ولن نستطيع ذلك إلا إذا نجحنا في ان نستعيد وحدتنا وتفاهمنا داخل قوى الثورة واليوم بين ابناء الشعب وأطيافه فيما وراء الموالاة والمعارضة لبناء حياة جديدة وتدشين سياسة وطنية افتقدناها لعقود طويلة.

-وهذه هي بداية الطريق للانتقال من نظام الحكم بالقوة والقهر الى نظام الحكم بالسياسة أي بالاعتراف المتبادل بحق جميع الأفراد في المشاركة ومن ثم بحريات الأفراد وحقوقهم الأساسية والمتساوية، والقبول بقاعدة الصراع السلمي على المصالح المختلفة في إطار سلطة القانون الواحد والمطبق بشكل واحد على جميع الأفراد، وإلغاء كل أشكال التمييز القبلي او الطائفي او القومي او الجغرافي أو المناطقي.

 وهذه هي السياسة العقلية التي تستطيع وحدها أن تضع حدا للسياسة الهمجية القائمة على العنف التي أودت بمجتمعاتنا الى الهاوية. وهي السياسة التي تنقلنا من عالم الصراع الوحشي وإنتاج الدول المتوحشة إلى عالم أكثر أمنا، نحل فيه نزاعاتنا والتضارب الطبيعي لمصالحنا في إطار سلمي، ونتعلم فيه سبل الحوار والتفاوض ومعنى الحياة القانونية والالتزامات الجماعية والتضامن وروح المسؤولية، عالم يحل فيه العمل على بناء المستقبل ومراكمة عناصر التقدم المادية والروحية بدل البكاء على الماضي والتعلق بأذيال احقاده والسير الحتمي نحو الحرب والدمار والخراب.

المصدر: المرصد السوري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى