ربما كان التساؤل الأكثر حضوراً في المشهد السياسي السوري كامناً في الجدوى المرجوّة من المسعى العربي نحو التطبيع أو إعادة العلاقات مع نظام الأسد، وهو تساؤلٌ لا يخلو من وجاهة حين لا يخفى على أحد أن الحالة المتردّية لحاكم دمشق لم تعد – ومنذ سنوات – جاذبة لمصلحة أي طرف دولي بالاقتراب منها أو التفاعل معها سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، وما يؤكّد مشروعية هذا التساؤل هو أن الأطراف الدولية الزاحفة نحو مدّ الكف للأسد، وبخاصة العربية منها، تدرك في قرارة ذاتها، كما لا تخفي التعبير جهاراً بأن سعيها نحو بشار الأسد هو شر لا بدّ منه بالنسبة إليها، وبالتالي ما هو (الشر الجاذب) الذي يمتلكه الأسد لإرغام الآخرين على السعي باتجاهه؟
لعله من الضروري الإشارة دوماً إلى وضوح الموقف العربي العام حيال الثورة السورية إبان انطلاقها في آذار 2011، وقد بدا الموقف العربي أكثر تبلوراً موازاةً مع ارتفاع وتيرة العنف الذي مارسته قوات الأسد بحق السوريين، وكانت الترجمة العملية للموقف العربي هي تعليق عضوية نظام الأسد في الجامعة العربية منذ تاريخ (16 – 11 – 2011) لعدم استجابته للمبادرة العربية التي أُطلقت آنذاك. ومما لا شك فيه أن أحد الدوافع الكامنة وراء الدعم العربي لثورة السوريين هي الرغبة الخليجية على وجه التحديد في إبعاد السطوة الإيرانية عن سوريا، ليقينٍ خليجي بأن سوريا في ظل آل الأسد لن تكون سوى قاعدة حيوية للتمدد الإيراني باعتباره مصدر خطر على أمن المنطقة، كما تقاطعت هذه الرغبة الخليجية مع السياسات الأميركية، ومن خلفها الأوروبية، الساعية إلى تركيز الجهود نحو الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة عموماً.
إلّا أن هذا المسعى الدولي حيال إيران، وكذلك الموقف مما يجري في سوريا، قد تعرّض لانعطافة كبرى في العام 2015، إذ شهد شهر نيسان من العام ذاته أول اتفاق بين دول الخمسة زائد واحد وإيران بخصوص مشروعها النووي، وبات واضحاً آنذاك أن إدارة الرئيس أوباما تسعى إلى ترسيخ سياسة الحوار والاحتواء بدلاً من التصعيد تجاه إيران، كما شهد شهر تشرين الثاني من العام ذاته الإعلان الأميركي عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية والتنسيق معها لمحاربة تنظيم داعش في سوريا، وذلك موازاةً مع موافقة أميركية على التدخّل الروسي المباشر للقتال إلى جانب قوات الأسد في أيلول من العام المذكور أيضاً، وقد أسهمت جميع هذه الأحداث في بلورة الموقف الأميركي الذي يكرس الجهود لمحاربة داعش بعيداً عن زوال نظام الأسد. لا شك أن هذا الموقف الأميركي ترك تداعياته على الموقف الإقليمي والعربي معاً، فمن جهة أولى بات التدخل التركي في الشأن السوري محكوماً بمقاومته لمشروع حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري المتمثل بحزب الاتحاد الديمقراطي المدعوم أميركياً، وقد حاولت مذ ذاك توجيه نشاط المعارضة السورية المسلحة تجاهه، ثم شرعت فيما بعد في تأسيس محور أستانا الذي جسّد حوار المصالح التركية الروسية الإيرانية على حساب المصلحة الوطنية السورية.
أما تداعيات الموقف الدولي والإقليمي على المستوى العربي فقد تجلّت باتجاه بعض الدول نحو التنسيق مع روسيا بدلاً عن الدعم المباشر للثورة، ويمكن الإشارة إلى أن تشكيل هيئة التفاوض وانضمام منصتي موسكو والقاهرة إلى صفوفها عبر مؤتمري الرياض واحد واثنين، كان أحد أشكال التنسيق بين المملكة العربية السعودية وموسكو.
لقد أثبتت السنوات اللاحقة لعام 2015 أن الحضور الإيراني في سوريا لم يعد مجرّد نفوذ، بل تحوّل إلى احتلال خفي عبر تحكّم شبه كامل في مفاصل الدولة من الناحية العسكرية، فضلاً عن التغوّل الاقتصادي ونشاط التغيير الديموغرافي في البنية السكانية والسعي إلى اختراق الثقافة المجتمعية عبر تعزيز المدّ الطائفي والإفساد الاجتماعي للأجيال السورية، أضف إلى ذلك تحويل سوريا إلى بؤرة إنتاج للمخدرات ومركز تصدير للكبتاغون إلى كل المحيط العربي، الأمر الذي أعاد من جديد فكرة تفاقم الخطر الإيراني إلى أذهان العديد من القادة العرب، وكذلك بدا التفكير من جديد في البحث عن استراتيجيات جديدة يمكن لها أن تكون واقية من الخطر الإيراني المتفاقم في سوريا، والذي يُنذر بالانتشار والتطاير نحو الجوار، وفي ضوء السياسات الدولية، والأميركية على وجه الخصوص، المهادنة لإيران، كان لا بدّ من العودة إلى الاستراتيجية العربية التقليدية لمواجهة الخطر الإيراني والتي تتجسّد عملياً باحتواء نظام الأسد أو احتضانه لإبعاده عن الحضن الإيراني.
وعلى الرغم من قناعة معظم الأطراف الدولية بما فيها الجانب العربي، بهشاشة هذه الاستراتيجية وعدم جدواها حيال استمرار السياسات الإيرانية، إلّا أن مكْمنَ المفارقة المؤلمة في مقاربة الدول العربية للخطر الإيراني في سوريا تكمن في مسألتين:
1 – انفكاك نظام الأسد أو تحرره من الهيمنة الإيرانية لم يعد خياراً مُتاحاً لرأس النظام في سوريا، بل يمكن التأكيد على أن استمراره في السلطة وقدرته على استعادة السيطرة على أجزاء كبيرة من الجغرافية السورية إنما يدين فيها للدعم الإيراني والروسي، فضلاً عن التحكّم الإيراني العميق في المفاصل العسكرية لقوات الأسد.
2 – في الوقت الذي يعتقد فيه بعض القادة العرب أن إعادة الأسد إلى الحيّز العربي يمكن أن تسهم في انفكاكه – عضوياً – عن إيران، يعمل الأسد في الوقت ذاته على التماهي المطلق مع إيران لاعتقاده أن هذا السلوك يجسّد الاستراتيجية الأمثل لابتزاز دول الخليج وإجبارها على الاستمرار في الشعور بالحاجة إليه، وهي ذاتها الإستراتيجية التي ورثها عن أبيه الذي مارسها بحرفية كبيرة حيال دول الخليج طوال الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988.
يمكن أن يشمل الحديث الكثير من الذرائع المطروحة عربياً فيما يخص التطبيع مع نظام الأسد، وبخاصة أن كارثة زلزال السادس من شباط قد وفّرت المداخل الإنسانية التي يمكن أن تكون غطاء مناسباً لهذه الاستدارة، ولكن الجميع يدرك أيضاً فشل جميع الفواجع الإنسانية التي مُني بها السوريون سابقاً في إنضاج موقف عربي ينحاز ويتجسّد بطريقة عملية للحدّ من مأساتهم التي لن تتوقف إلّا بزوال مسبّباتها الجذرية الكامنة باستمرار نظام الإبادة الأسدي، وبالتالي هل تجسّد العودة العربية لاحتضان الأسد إسهاماً عربياً حقيقياً لإنهاء المقتلة الدامية في سوريا؟ المعطيات الراهنة والسابقة تؤكّد استحالة ذلك، ولكن هل يمكن لهذا الاحتضان الجديد أن يكون مكافأة للأسد في سبيل استرضاء إيران وإثبات حسن نية تجاهها اتّقاءً للمزيد من شرورها، وهل يمكن أن يكون نتيجة الفشل العربي في إنتاج استراتيجية أمنية ناجعة لمواجهة الخطر الإيراني؟ لعل معظم المعطيات تؤكّد ذلك.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا