قد يبدو الخبر المتداول عن تقارير إعلامية عن اجتماع قادة من فصائل مسلحة محسوبة على المعارضة السورية في الشمال مع رئيس مخابرات نظام بشار الأسد اللواء حسام لوقا في حلب الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) فجاً لسوريين كثيرين يرون أن أول ضحايا التطبيع التركي والعربي مع النظام السوري ستكون الفصائل المسلحة، التي تحتمي بالوجود التركي في الشمال السوري، وبغض النظر عن أن الاجتماع حسب شهود كان مع فصائل منضوية تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبحضور ضبّاط روس، حملوا الرسالة نفسها إلى من التقوا بهم من فصائل المعارضة في مدينة الباب تحت الاشراف التركي، فإن أي عملية تطبيع لن يُكتب لها الدوام، أو اكتمال الأركان، من دون إدخال الجانب المسلح في عملية تفكيك الخلافات لإنجاح المصالحات.
لو صحّ الخبر، يمكن أن يكون الاجتماع العملي الذي يدفع عملية التقارب التركي إلى موضع التنفيذ، ويمنح المسلحين السوريين خياراً جديداً يراهنون عليه، إلى جانب خيار الالتحاق بهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، المصنّفة على قوائم الإرهاب الدولية، وهي خطوة ضرورية في حقل تسارع خطوات التطبيع العربية مع النظام السوري، وربما تكون مدعومةً من أطراف التطبيع جميعها، لتهيئة مناخات مستلزمات الشروع بعمليات التعافي المبكّر الذي يفترض أن تنطلق من الشمال لتمكينه من استيعاب أعداد اللاجئين العائدين من الأراضي التركية والجوار العربي.
من المفيد التذكير أنها ليست المرّة الأولى التي يعمد النظام السوري إلى عقد اجتماعات تسوية أو تفاهمات مع المسلحين، فقد حدث ذلك في حمص وفي درعا، وفي ريف دمشق، المناطق التي استعادها النظام إلى سيطرته، بعد سنوات من خروجها عنه. ومن شأن اجتماع رئيس المخابرات أن يمثل خطوة عملية وجادّة ومباشرة، لفرز المناطق في مرحلة مسارات التطبيع الجارية، حيث يعوّل عليها رسم خريطة حدود جديدة، تعيد تشكيل مناطق النفوذ في الشمال، كما تعيد ترتيب أولويات القتال، ووجهات بنادق المسلحين، ما يعني أن اللواء لوقا حرص على تحذير “قسد” من مآلات عدم تسليمها مواقعها للنظام السوري، قبل أن تصبح هدفاً له ولفصائل المعارضة ما بعد التطبيع، حيث خيارات الفصائل المعارضة ستتراوح بين أن تنتقل إلى جانب النظام لقتال قوات “قسد”، أو تنتقل إلى جانب أمير “النصرة”، أبي محمد الجولاني، فتمنحه صفة “المعارضة”، التي نأى عنها خلال سيرته الأولية.
منطقياً، لا يمكن لفصائل مسلحة محسوبة معارضة للنظام السوري الحاكم الاستمرار في عملها، مع إغلاق بوابات تمويلها بشقّيه المالي والعسكري، ما يعني أن واقعها مرهونٌ بما تقرّره الدول الداعمة لها، منذ نشأتها إلى يوم تقرير مصيرها، ومع التفاهمات التي يمكن أن تؤدّي إلى تسليم المساحات التي سمّيت “محرّرة” إلى النظام شرطا رئيسيا في عملية المصالحة المقبلة التركية – السورية، وضمن التطبيع العربي وخروج الدول الخليجية من غرف التمويل المالي للفصائل، ما يعني أن خيار السلاح صار مستبعداً في ظلّ تحوّل أدوار (ومواقع) الدول التي كانت ترعى وجود الفصائل المسلحة في سورية إلى ضفة النظام وحماية مصالحه وتقوية أجهزته، ومنها الأمنية والعسكرية.
مع إدخال الفصائل العسكرية في حلبة التفاوض على تنظيم علاقاتها مع النظام السوري، تكون دائرة التطبيع في طور الاكتمال تقريبا، وهذه ليست الخطوة الأولى أو المباغتة للسوريين، وإنما هي لاحقة لما بدأته سابقاً، عند دخولها بالشراكة مع الكيانات السياسية المعارضة، المتمثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وانخراطها في مسار آستانة عام 2017، بعد تسليم حلب للنظام السوري، وفي لجان التفاوض، واللجنة الدستورية. ربما تسارعت عملية التطبيع مع النظام لأسباب عديدة وتطوراتٍ دفعت نحو إيجاد معادلات جديدة في الصراع السوري، وفي الصراع على سورية، أهمها:
أولا، تطورات الحرب في أوكرانيا، والاستقطاب الحاصل من حولها، بين معسكري روسيا والولايات المتحدة، إذ أدّت مآلات تلك الحرب إلى تغيرات في مواقع الدول، ليست لجهة الصراع السوري، ولكن لجهة مفهوم التموضع في معسكرات تلك الدول، وانعكس ذلك على مصير الصراع السوري، أو اتجاهات حسمه.
ثانيا، تموضع الأطراف الإقليمية إزاء الصراع السوري، على ضوء التغيّرات التي قد تحصل فيها، وذلك يشمل تركيا، في انتخاباتها التي بدت مصيرية لأول مرة بسبب تقارب نسب جماهيرية الأطراف المتصارعة على موقع الرئاسة فيها، واستخدامهم ملفّ الصراع السوري وانعكاساته في تركيا، من تورّط الجيش التركي إلى عبء اللاجئين السوريين على اقتصاد تركيا. كما أن إيران التي وجدت أن فكّ حصارها يكون بفتح بواباتها على جوارها العربي، وليس بممارسة عدائها، ما جعلها تتهيّأ لفتح صفحة جديدة مع دول المنطقة، التي تستعد، هي الأخرى، لمرحلة تنموية يعطّلها بقاء الخلافات مع إيران تحت الرماد.
انحسار المعارضة السورية، بفصائلها السياسية والعسكرية، وضعف دورها ومكانتها، إضافة إلى ارتهانها للإملاءات السياسية التركية
ثالثا، مسار التطبيع العربي مع النظام السوري، وضمن ذلك إعادته إلى جامعة الدول العربية، ودعوته إلى حضور مؤتمر القمة العربي المقبل في الرياض. وهنا لا يمكن أن نتجاهل دور إسرائيل في كيفية تعاطيها مع الواقعين العربي والدولي.
رابعا، انحسار المعارضة السورية، بفصائلها السياسية والعسكرية، وضعف دورها ومكانتها، إضافة إلى ارتهانها للإملاءات السياسية التركية، هذا إضافة إلى الفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الخارج.
خامسا، افتقاد طرف سوري قادر على استثمار أية تغيرات لصالحه، وهذا ينطبق على النظام وعلى المعارضة، فالاثنان في غاية الضعف والإنهاك وغياب الشرعية، مع تأكيد أن النظام في وضعية أقوى.
تستمدّ كل تلك العوامل قوتها، ونفوذها من حال الضعف والاستنزاف والتشتّت التي يعاني منها الشعب السوري، منذ سنوات، مع افتقاده معارضة حية وفاعلة، تعبّر عنه، وتعمل على تحقيق مشروعه الوطني، كما تستمد قوّتها من التدخلات الخارجية التي باتت مقرّرة في مصير سورية، ومستقبلها، أكثر من الأطراف السورية ذاتها، سواء كانت النظام أو المعارضة، بدليل ارتهان النظام للإملاءات الروسية والإيرانية، وارتهان المعارضة لإملاءات الداعمين الخارجيين، خصوصاً تركيا. ما يعني أن التطبيع مع النظام السوري في حقيقته تطبيعٌ مع روسيا وإيران وما تمثلانه في سورية، وهو ما يجعل من خبر اجتماع اللواء لوقا مع الفصائل المسلحة سواء كانت تابعة لقسد أو لتركيا بحضور ضباط روس، أقرب إلى استقراء المستقبل القادم لطبيعة العلاقات المحتملة، وأسلم للفصائل ذاتها لأنها لن تكون بمأمن من دون أن يكون الحضور الروسي هو الضامن لعملية انتقالها لاحقاً من الحضن الأميركي أوالتركي إلى حضن النظام “السوري”.
المصدر: العربي الجديد