في 22 شباط / فبراير لعام 1958 اجتمع رؤساء وأركان حكومتي مصر وسورية وأعلنوا توحيد القطرين المصري والسوري في دولة واحدة تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة.
كان ذلك أول عمل وحدوي حقيقي فرضته الشعوب استجابة لنداء التاريخ وحقائق العصر.
وحدة 1958 كانت فريدة في كونها تتويجًا واستجابة لمد جماهيري وليس لخطط وتكتيكات سياسية تديرها حكومات وقوى سياسية من فوق بمعزل عن إرادة الشعب.
كانت وحدة حقيقية ولدت فيها دولة واحدة من دولتين مستقلتين، دولة وحدة لايشبهها في شيء كل صور الاتحاد التي حاولت تقليدها خلال عشرات السنين ضمن مناورات سياسية فارغة المحتوى أرادت تلميع صور الحكومات أمام شعوبها مستغلة عطش الشعوب العربية للوحدة ووهج وحدة 1958 الذي لم يمت.
كانت الوحدة بذاتها انتصارًا كبيرًا، لكن ذلك الانتصار أيقظ الكثير من الأعداء، فهو تجاوز خطير للخطوط الحمر التي رسمتها سايكس بيكو للمنطقة، وبادرة يمكن أن تتدحرج لتتحول إلى نواة لدولة تضم دولًا عربية أخرى تحركت المشاعر الدفينة لشعوبها وبدأت تدفع باتجاه الوحدة.
وفي الداخل كان هناك قوى سياسية واجتماعية انحنت للتيار الشعبي الوحدوي الهادر لكنها بقيت تنتظر الفرصة للانقضاض على دولة الوحدة.
هذه الفرصة التي قدمتها أخطاء الوحدة التي تراكمت خلال ثلاث سنوات، وكان أكبرها الاستعاضة عن الحركة الجماهيرية الحرة بحكم الأجهزة البيروقراطية والأمنية.
فالديمقراطية التي أنتجت الحركة الجماهيرية في سورية والتي كانت وراء الدفع نحو الوحدة لم تعط الفرصة لحراسة تجربة الوحدة والحفاظ عليها.
حدث الانفصال في 28 أيلول / سبتمبر عام 1961 بينما كان الشعب مبعدًا عن السياسة، مكبلًا، خائفًا، فنجح الإنقلاب دون مقاومة كبيرة.
هل كان الانفصال ليحدث لو نزل الشعب للشوارع وواجه الدبابات كما حدث في تركيا عام 2016؟
لابد من الاستفادة من تلك التجربة لبناء أسس صلبة لأية وحدة حقيقية في المستقبل.
فبدون ديمقراطية لايمكن أن تنشأ وحدة حقيقية، وحدة شعوب لاوحدة حكومات، وبدون ديمقراطية لايمكن حماية الوحدة والإبقاء عليها حية قوية.
والديمقراطية لاتقوم بدون حريات، بدون حياة سياسية، بدون حكم القانون، واستقلال القضاء.
نعم مازلنا بحاجة للوحدة، فالأوطان التي صنعتها اتفاقية سايكس بيكو تعيش خطر التفكك وفقدان الاستقلال.
ومثلما هي الديمقراطية ضرورية لإعادة بناء تلك الأوطان فهي ضرورية لإعادة فتح الطريق أمام أية تجربة وحدوية حقيقية.
عظيمة هي وحدة مصر وسورية، وستبقى منارة تشع للأجيال، لن تطفئها كل تلك الحملات التي مازالت تشن ضدها، تارة بتقزيم إنجازاتها، وتارة بتضخيم أخطائها، وتارة بالهجوم على شخص عبد الناصر واستخدام ذلك الهجوم للوصول لتجربة الوحدة وتسويدها بأعين الأجيال الجديدة.
ستبقى روح الوحدة حية لأنها تعبر عن روح الشعوب العربية، ولأنها ضرورة من ضرورات العصر، والطريق الوحيدة للتحرر الحقيقي في عالم لامكان فيه سوى للكيانات الكبيرة، وليس أمام الدول الصغيرة الضعيفة سوى الاستعباد والالتحاق.
في ذكرى الوحدة بتاريخ 22 شباط/ فبراير عام 2020 انطلق موقع ” ملتقى العروبيين” ليساهم في شق الطريق أمام التيار العروبي الذي اختار الوقوف بحزم ضد الاستبداد وجنبًا إلى جنب مع الحركة الشعبية الجماهيرية التي انطلقت في سورية عام 2011، وليقطع مع أولئك الذين لطخوا سمعة ووجه التيار العروبي الناصري بوقوفهم المخزي وراء الديكتاتورية وتبريرهم للحملات الظالمة والمجازر التي ارتكبت بحق الشعب العربي السوري، وليعيد لمسألة الديمقراطية والحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان، واحترام إرادة الجماهير دورها وقيمتها التي انتهت إليها بالفعل التجربة الناصرية كما هو واضح في كلمة الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي في سورية المرحوم الدكتور جمال الأتاسي في نقده للتجربة الناصرية.
ففي عام 2000 ألقى الدكتور جمال الأتاسي كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الثامن لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي قال فيها: ” ماكانت قضايا الديمقراطية، وتعميم الثقافة الديمقراطية، والحوار والتعددية وتكريس مبادىء سيادة الحق والقانون في الدولة والمجتمع وغيرها …هي شاغلنا وشاغل أحزابنا الثورية في الخمسينات والستينات بل فكر الثورة والاستقلال الوطني والتحرر القومي والتقدم الثوري وحرق المراحل تقدميًا لتقوى على مواجهة أعداء الأمة والقوى المعادية لتقدمها “.
سيظل موقع العروبيين الأحرار أمينًا لأفضل مافي التجربة الناصرية والإنتماء العربي والإرادة الوحدوية مثلما هو أمين للإنحياز إلى جانب الحريات والديمقراطية والكفاح ضد الاستبداد والديكتاتورية ومن أجل التغيير الشامل والجذري في سورية.