يتعين وجود العلاقات الشعبية المنجدلة والمندمجة بين شعبين جارين بدلالة عمق الممارسة وفاعلياتها الميدانية على أرض الواقع. وقد ظهرت وطفت على السطح هذه العلاقات الإيجابية في مجمل الأنساق المجتمعية السورية/ التركية، من خلال تجليات الواقع الصعب والمر الذي مرت بها المجتمعات السورية في تركيا وأيضاً التركية، إبّان الزلزال الكارثي الكبير والمخيف الذي ضرب عشر ولايات تركية جنوبية، وكذلك معظم الشمال السوري، الذي يقطنه الملايين من أبناء سوريا سواء الذين هُجّروا قسرياً من قبل النظام السوري في حربه المدمرة على السوريين. أو ممن هم أصحاب القرى والمدن الأصليين الذين يعيشون وينتمون للأرض السورية في شمالي سوريا بكليته.
لحظات غاية في الصعوبة عاشها الأتراك والسوريون من جراء استفاقتهم على أصوات ليست كالأصوات، وذعر وخوف أصاب الجميع بلا استثناء، وذلك منذ الساعات الأولى للكارثة الطبيعية التي بدأت مع علامات الفجر الأولى، ومع هول المصاب وحالة الذعر الكبرى التي بدت على وجوه الناس في جنوب تركيا من أتراك وسوريين كنا نلحظ حالة التآلف والتضامن والاندماج بين الجميع، والانشغال جدياً وطبيعياً في إنقاذ أي عالق تحت الأنقاض، من حيث أن الهم والألم كان وما يزال مشتركا، فلمَ لا يكون التعاون والعمل والإنقاذ مشتركاً أيضاً، ولأنّ المستقبل هو الآخر يتموضع في جوانبه حالات المشترك البيني بين الشعبين، فقد وجدنا ذلك فعلًا وعملًا لحظيًا واقعاً وممارساً، وليس أضغاث أحلام، أو أوهاماً كما يحلو للبعض أن يصفوه.
ومن حيث أن الناس عادة ما يجتمعون ويتآلفون ويتعاونون في المصائب، فقد لاحظنا ذلك الاشتغال تعاونياً بين السوريين والأتراك على قدم وساق، وراح الناس في (غازي عنتاب) ضمن نطاق كل المرافق والأماكن، وكل الأحياء، وأمام حالات الهدم والانهيارات الكبرى التي جرت لبعض الأبنية نتيجة الزلزال المدمر، وبالطبع فمدينة عنتاب كانت إحدى الولايات المتضرّرة من زلزال 6 شباط 2023. وجدنا وتابعنا الناس تتراكض (من ترك وسوريين) لهفة وعوناً وإيثاراً لمساعدة الطواقم الإنقاذية المعنية في عمليات انتشال البشر من تحت الركام، وووجدنا أن الكثيرين جداً من أبناء سوريا المهجّرين قسراً إلى تركيا، راحو يتطوعون جماعات وفرادى للمساعدة في أي شيء يمكنهم فعله، من عمليات إنقاذ أو تبرع بالدم، أو توزيع مواد غذائية، أو إيصال من يمكن إيصاله إلى المشافي.
ويبدو أن الكارثة الكبرى التي ضربت عشر ولايات كانت فوق طاقة وقدرة الطواقم الإنقاذية التركية، مع العلم كان هناك عمليات إعداد وتهيئة تحسباً لمثل هذه الكوارث قبل أشهر، وأُطلقت عدة إنذارات وعمليات تدريبية، إلا أن حجم الكارثة الكبير والواسع حال دون إمكانية الاشتغال على ذلك، من دون مساعدات الناس المتطوعين، أو الطواقم الإسعافية الدولية، وهي التي تأخرت كثيراً في الوصول إلى أماكن ومواقع الكارثة حتى بات السوري والتركي لا ينام الليل بحثاً عن حياة ما لشخص، أو طفل أو امرأة، وقد استطاعات هذه الفرق التطوعية الكثيرة أن تسهم في إنقاذ العشرات ممن كانوا تحت الردم والركام لأيام متتابعة.
إذ لم تكن تلك الهبة الشعبية التركية السورية غير متوقعة، لا داخل تركيا ولا في مناطق الشمال السوري المنكوب، ولم يكن أحد يتصور أن الناس لن تساعد بعضها، أو تتعاون في لملمة الجراح، لكن ما رأيناه من حالات ميدانية ومساعدة شعبية للمؤسسات والهيئات المعنية بالإنقاذ فاق كل حد وجعلنا نتساءل: هل سيترك هذا التعاون والإيثار التلقائي الذي رأيناه، ملامحه في قادم الأيام على العلاقات البينية الشعبية السورية التركية؟ وهل سنشهد في قادم الأيام أيضاً ركلاً وكنساً نهائياً لكل حالات العنصرية التي طالما عانى منها السوريون خلال الأشهر أو السنوات الأخيرة؟
يبدو وبحسب القراءة المتأنية للحالات الانجدالية التعاونية الودية التي تبدت لحظة الكارثة المهولة أشرت وبشكل واضح إلى تغير جدي وحقيقي في المزاج الشعبي التركي نحو إعادة القبول والاندماج مع أهلهم المسلمين السوريين
يبدو وبحسب القراءة المتأنية للحالات الانجدالية التعاونية الودية التي تبدت لحظة الكارثة المهولة أشرت وبشكل واضح إلى تغير جدي وحقيقي في المزاج الشعبي التركي نحو إعادة القبول والاندماج مع أهلهم المسلمين السوريين، وهو ما يجب أن يبنى عليه موضوعياً وحياتياً من قبل الساسة الأتراك، وأيضاً الساسة السوريين في المعارضة السورية. وتأسيساً على ذلك فإن إعادة صياغة العلاقة على أسس موضوعية وواضحة بين السوريين والأتراك باتت مسألة ضروروية وملحة، كي لانقع مرة أخرى وفي المستقبل ضمن دائرة الخطر وحالات (العنصرة) التي كانت.
الزلزال الذي حدث كان الكارثة الكبرى بكل المقاييس، لكنه أيضاً وعبر استيعاب حالات الألم، سوف يعطي الأمل بمزيد من التعاون والمحبة والاشتغال على بناءات متجددة تشاد ليس بنيانياً في الأبنية التي انهارت فحسب، بل كذلك وهو الأهم في إعادة بناء العلاقة الأخوية السورية التركية الشعبية وفق معايير جديدة تكون قادرة على لم الصفوف للتصدي لأي كارثة داخلية أو خارجية، ضمن منطق العلاقة المستقبلية، والمصلحة المهمة التي تجمع الجميع، فهل سنشهد مثل ذلك في مستقبلات الأيام؟
ومن يقرأ التغيرات المجتمعية التي تحصل عادة من جراء الكوارث يمكنه أن يتوقع المزيد من رسم ملامح مستقبل مشترك لا بد قادم، يؤسس لعلاقة اندماجية واعية ومدركة للمصالح والمآلات، ومستوعبة لما يمكن أن يفعله الإرهاب القادم من قبل نظام بشار الأسد، أو الإرهاب القسدي والـ(ب ك ك) وهو الآخر الذي يحاول دائماً اللعب لزعزعة الثقة بين البنيان المشترك السوري التركي الشعبي المتين والمدرك لطبيعة العلاقة المستقبلية.
وإذا كان الزلزال قد أزهق الأرواح وأنتج الآلاف من المعوقين والجرحى، ودمر البنية التحتية، فإن إرادات السوريين والأتراك المشتركة والمتعاونة، يمكنها أن تعيد تشييد البناءات بكل أنواعها على أسس جديدة ووعي عقلاني مطابق وفاعل ويحمل إمكانية التغيير المتطلع نحو الأفضل والأجمل والأرقى دائماً لكلا الشعبين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا