قال لي صديقي أبو يعرب المرزوقي في ندوة جمعتنا، وهو يشير إلى أحد المشاركين في الندوة: هذا السوري خبيث يريد أن يلغي الدين بحجة خصخصته، ولكنه يجبن عن الاعتراف. لم تكن المشكلة في رأيي أن المشار إليه كان يجاهر بإلحاده، فهذا حقه الذي تكفله له أبسط حقوق الإنسان بمعناها الخام، ولكن المشكلة في امّحاء القدرة على النظر من زاوية تقرب المسافات بين من يسعى إلى تحقيق عالم حلولي مكتفٍ بذاته من دون أفق متجاوز، وبين من لا يستطيع الانفكاك من ثوابت عقيدته الدينية القائمة في ماهيتها على الإيمان بالمفارق. ليس بدعًا القول إن الجذر الكامن خلف المطالبات ليس جذرًا عقليًا مجردًا عند الطرفين، وإنما هو في أصله ذو بعد سوسيولوجي متعلق بعقدة مصالح لدى كل طرف. كنت في سن باكر ألاحظ أن غير المسلمين في مدينتي يميلون ميلًا واضحًا لبعض أقاربي ممن يقدمون أنفسهم على انهم علمانيون، ولا يجدون حرجًا في شرب الخمر في الأماكن العامة، ولا ترتدي نساؤهم الحجاب، وهو ميل يمكن بسهولة تفسيره في رغبة الإنسان الطبيعية في اللواذ بأقرب الفئات شبهًا به. وبالعودة إلى السوري الخبيث -على حد تعبير أبي يعرب-، فهو ليس أنموذجًا فريدًا، وإنما هو عينة لفئة لا بأس بحجمها ممن حسمت أمرها مع المنظومة الدينية عمومًا والإسلامية خصوصًا منذ زمن بعيد بعدّها من مخلفات الماضي الذي ينبغي تجاوزه في محاكاة ساذجة لسيرورة الحداثة الغربية، ومن دون الأخذ في الحسبان اختلاف السياقات، ولا تنوع الرؤى وتحولاتها في التجربة الغربية ذاتها. المهم أن الثورة قد وسّعت الخرق، وبات الهجوم على الإسلاميين ديدن هذه الفئة، وبات تحميلهم مسؤولية فشل الثورة هو العظمة التي لا يفتأون يقضمونها. لا شك أن الإسلاميين يتحملون وزرًا كبيرًا عمّا آلت إليه ثورة السوريين، ولا شك أن في خطابهم من المساحات المفاهيمية الرخوة ما هو كفيل بإفراز مفرزات التطرف المنتنة، ولكن الخلاف ليس على سلوكهم فحسب من طرف خصومهم، وإنما هو في الأصل رفض لمنظومتهم المتخلفة في رأيهم، والتي تدفع بالمجتمع إلى الخلف قرونًا بحسب ما يتصورون. اليساريون السوريون والقوميون وغيرهم من التيارات العلمانية -في معظمهم- لم يجربوا انتقالًا مرتبطًا بعقدة مصالح حقيقية إلى الديمقراطية، وقد انقلبوا إلى مسبّحين بحمدها على حين غرة. وليس بعيدًا ذلك العهد الذي كان نفر كبير من اليساريين السوريين يسخرون من الياس مرقص ويلقبونه بلقب: “اليأس يرقص”؛ لأنه كان مع رفيق دربه ياسين الحافظ أول صوت يساري ديمقراطي، وهو صوت يساهم في تنفيذ مؤامرة برجوازية في نظر تلك الفئة من اليساريين. وليست المحاكاة الساذجة لسيرورة الانتقال إلى الحداثة في الغرب هي الظاهرة الوحيدة الفاقعة في المشهد، ففي المقابل تجد إسلاميين يبذلون كل ما بوسعهم للتزلف للمنظومة القيمية الغربية في خطاب سطحي معنون بخطاب التنوير، ولا تفصح أدبيات معظمهم إلا عن مشهد لأشخاص يجلسون على شاطئ بحر علوم التراث، وهم يعبثون بما يلقيه اليم بالساحل من دون القدرة على الغوص في عمق البحر، واكتناه عوالمه المضيئة والمظلمة. والغريب أن أعداء المنظومة الدينية يصفقون لهؤلاء، ويمثلون الزخم الذي يدفع بهم إلى واجهات وسائل التواصل الالكترونية، وكأنهم يرون فيهم احتمالًا لتحطيم أو تليين ما يتوهمون أنه صلابة في المنظومة الدينية لا ينفع في التعامل معها إلا كسرها. وأنا أسميه وهمًا لأنه تصور مأخوذ في معظمه من ممارسات، وليس من بحث جاد في مظان هذه المنظومة والغوص في أعماقها. ويزداد الاستقطاب حدة بفعل تمكّن الإسلاميين من غير التيار الذي يسمي نفسه تنويريًا من السيطرة على جزء كبير من المشهد، وهم لا يقدمون تنازلات فيما يتعلق بما يسمونه ثوابت الدين، ولكن كثيرًا منهم يبالغ في براغماتيته عندما يكون من ثمارها مزيد من النفوذ والوعد بنفوذ أكبر. بين باحثين عن حيز لا مكان فيه لظلال الإله وتأويلات المؤمنين به، وهم متنوعون على كامل خطوط الطيف، فمنهم من يستمد موقفه من خشية من الإقصاء من طرف الأكثرية وهو لا يعدم أسبابًا حقيقية لذلك، ومنهم من يستمد موقفه من انتماء طائفي يخصف عليه قشرة علمانية لا تفلح في ستر سوءته، ومنهم من اتخذ الموقف باقتناع بفوات هذه المنظومة الدينية المهيمنة وضرورة نسفها إن لم يكن مرة واحدة فعلى مراحل، وبصدق كامل مع الذات وآخرين يجدون في حاضنتهم الاجتماعية حصنًا يقيهم كل محاولات خصومهم، ويأبون أن يتفكروا في علل فواتهم التاريخية؛ لأن ما يعنيهم في الأساس هو قدراتهم التكتيكية على الاستمرار، فتراهم حينًا مع هذه الجهة الإقليمية وحينًا آخر مع خصم لها، ومرة هم مصرون على تطبيق الشريعة ومرة لا يجدون ضيرًا في التأجيل بدوافع الضرورة والمصلحة. ليست الغاية الآن حث أي طرف على تغيير موقفه، فقد باءت محاولات كثيرة بالفشل؛ لأن صاحب العقدة وصاحب المصلحة وأسير الأيديولوجيا لا يخاطَبون بالمنطق، ولكن الغاية هو سؤال كل هذه الأطراف وأنا اسميها اطرافًا؛ لأن لكل فريق أنواعًا متعددة: في ظل هذه الخنادق، وفي ظل فقدان استقلال القرار، هل يتوهم أحدكم أنه سينتصر انتصارًا حاسمًا على خصمه ويقصيه عن المشهد؟ وإذا كان الجواب بالنفي، أليس من العبث الاستمرار في معركة صفرية، وأليس من الأجدى البحث عن سبل حقيقية لبناء فضاء للتعايش يؤتى بلبناته من الواقع بكل بؤسه وتشظيه، وليس من أدبيات نظرية عن المواطنة والهوية الجامعة؟