على خلفية الإنسحابات المتكررة وإخفاقات روسيا في حربها الأوكرانية، والتي يرد الخبراء العسكريون أحد أسبابها إلى النقص في عديد المقاتلين والإمدادات والأسلحة والذخيرة، يتساءل هؤلاء عن أسباب بقاء روسيا في سوريا وخوضها “عمليتين عسكريتين خاصتين” في آن واحد. طبعاً، يدرك الخبراء أن النقص هذا ليس السبب الوحيد والرئيسي، بل ثمة أسباب أخرى عديدة أكثر أهمية من النقص بما لايقاس، ولعل أبرزها انخفاض المعنويات والدوافع لدى المقاتلين، عدم كفاءة القيادة العسكرية وتدني مستواها الأكاديمي، سوء التنظيم، تدني مستوى التنسيق بين مختلف قطاعات القوات المسلحة، تدني القدرة على تعويض ما تدمر من العتاد والآليات والذخيرة وسواها من الأسباب.
بعض من يبحث عن أسباب بقاء روسيا في سوريا ويفترضها في تأخر التسوية السياسية، يعود إلى أسباب إنخراطها في الصراع السوري التي يراها مختلفة عن الشائع منها، والذي يخفي الأسباب الحقيقية. فقد نشر موقع Kasparov المعارض في 2 الجاري نصاً للمدون الذي ينشر بإسم “المريد” بعنوان “اللوح المقلوب”، وأرفقه بآخر ثانوي “كييف في ثلاثة أيام” ـــــ الفشل الثاني لبوتين، الأول كان في سوريا”. يقول المدون أنه، بعد لقاء موسكو قبل رأس السنة بين وزراء دفاع روسيا، تركيا وسوريا، شاع نبأ موافقة تركيا على الإنسحاب الكامل لقواتها من الأراضي السورية. لم يلق النبأ إهتماماً جدياً لكون الصراع السوري لم يعد يهم الكثيرين خارج نطاقه، على غرار الحرب الأهلية الليبية أو الصراع اليمني الذي يمتد لأكثر من نصف قرن.
على الرغم من أن وزير الدفاع التركي صرح عن الإنسحاب بكلام صريح لا لبس فيه، إلا أنه أضاف بأنه لكي تنسحب القوات التركية يجب أن تتخذ خطوات في إطار العملية السياسية، والشرط الرئيسي هو القضاء على أي تهديدات من الجماعات الإرهابية ضد تركيا. وهنا يكمن التناقض الرئيسي: تصف الحكومة السورية والقيادة الروسية مقاتلي إدلب بالإرهابيين، في حين يصف الجانب التركي، بشكل لا لبس فيه، جميع التشكيلات الكردية المسلحة بالإرهابيين. لذلك، لا تزال العملية السياسية بعيدة، ولن تتحقق قريباً شروط انسحاب القوات التركية.
لكن المدون يرى أن الأسباب “الأكثر أهمية” لانخراط روسيا في الصراع السوري “لن يذكرها، ولا ينوي أحد ذكرها”. لذلك يقول بانه مضطر للقيام ب”رحلة قصيرة” في تاريخ الصراع السوري للكشف عن تلك الأسباب.
إستهل المدون “رحلته التاريخية” بالوقوف عند تصريح لبوتين صيف العام 2011 في لقاء مع رئيس الوزراء الفرنسي آنئذٍ فرانسوا فيون نفى فيه وجود “مصالح ما ومشاريع وقواعد عسكرية كبيرة” لروسيا في سوريا، وذلك على عكس ما لفرنسا هناك من مشاريع كبيرة ومصالح.
وتعليقاً على تصريح بوتين ذاك، يقول المدون أنه، وحتى ايلول/سبتمبر 2015، لم يظهر لروسيا وجود مشاريع كبيرة وإستثمارات بالمليارات في سوريا، لكن الكرملين فجأة أصبح في أمس الحاجة إلى إرسال قوات إلى هناك. ولم يعد بوسع بوتين تناول الطعام، وأصبح بحاجة ماسة لمحاربة الإرهاب العالمي. وتحت ستار محاربة داعش، بدأت القوات الروسية على الفور عمليات تأديبية ضد المعارضة السورية، وتركت شرف محاربة داعش للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، والذي ما لبث أن هزم داعش بحلول العام 2017، “من دون أدنى مساعدة من روسيا”.
يعرض المدون روايته لأسباب دخول بوتين سوريا، فيقول بأن تركيا رفضت الموافقة على مد خطي أنابيب الغاز الروسي عبر أراضيها لأنه يتسبب بمشكلات لمصالحها في خط الغاز الأذري TANAP. ويرى أن بوتين رد على الرفض التركي بدخول سوريا ليسيطر على الحدود السورية التركية، ويمسك بين يديه بالتهديد بهجرة بين 5 و7 ملايين سوري إلى تركيا، إضافة إلى 3,5 مليون المتواجدين في تركيا. واللاجئون أداة حرب إذا أجيد استخدامها. وظهرت فكرة التلويح بمخاطر موجات المهاجرين على خلفية ذروة هذه الموجات إلى أوروبا العام 2015.
الرفض التركي القاطع لخط أـنبوبي الغاز الروسي عبر أراضيها أثار غضباً شديداً لدى الكرملين الذي كان يحلم بمضاعفة حصته في سوق الغاز الأوروبي، والتي كانت (الحصتان) تشكل مفتاح الإستراتيجية ككل. وأصبح من الواضح أن الحرب غدت حتمية، سيما وأنه على خلفية تصاعد التوتر في العلاقات التركية الروسية، تكررت رحلات الجنرال قاسم سليماني إلى موسكو(ليس أقل من ثلاث زيارات بين ربيع وصيف 2015) الذي كان قد أدرك أن الحرس الثوري بدأ يفقد مواقعه في سوريا، وأن بوسعه إستخدام روسيا لصالحه.
الحرب الخاطفة في سوريا لم تنجح، والأتراك أفهموا الكرملين بوضوح أنهم مستعدون للأشتباك المباشر وأسقطوا “طائرتنا” نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2015. الحرب المباشرة لم تكن ضمن المخطط، وليس لجبن “إستراتيجيينا العظيم، بل للرفض الحازم الذي سبق للمارشال السوفياتي نيكولاي أوغاركوف أن أصر عليه في إدخال القوات السوفياتية إلى سوريا في مجرى النزاع السوري لإسرائيلي. إقفال تركيا مجالها الجوي والبوسفور كان يعني القضاء على أي قوة عسكرية سوفياتية متمركزة في سوريا، والمواجهة المباشرة مع تركيا العام 2015 كانت تعني تحقق هذا السيناريو بالتأكيد. وسيناريو “كييف خلال ثلاثة أيام” كان الفشل الثاني لبوتين الذي لم يستخلص أي دروس من فشله الأول في سوريا العام 2015.
موقع Carnegie Politika نشر آخر العام المنصرم نصاً بعنوان “”العملية الخاصة الأخرى”. لماذا تبقى روسيا في سوريا”. يستهل الموقع نصه بالتأكيد على أن روسيا ليست عازمة على مغادرة سوريا التي تعتبر إنجازاً مهماً للسنوات الماضية وورقة رابحة إضافية من أجل الحوار مع مختلف الشركاء ـــــ من دول الشرق الأوسط حتى الغربية. إلا أن موسكو تدنى إستعدادها للتدخل في شؤون سوريا الداخلية، سواء العسكرية منها أو المالية. فغزو أوكرانيا حجب كلياً عملية روسيا الأولى في سوريا. والجبهة الأوكرانية لم تستهلك كل وقت أثير الإعلام الروسي فحسب، بل وإجتذبت كل موارد موسكو وأجبرتها على إستدعاء قوات عسكرية من الشرق الأوسط. وتشير أحداث الأشهر الأخيرة إلى أنه اصبح لروسيا قوات أقل في سوريا. إلا أن ذلك لا يعني أنها تنسحب من هناك، بل لاتزال موسكو، كما في السابق، تعتبر وجودها في سوريا رصيداً قيماً في الحوار مع الغرب والدول الإقليمية، والذي لن تتخلى عنه بهذه البساطة.
في أيار/مايو العام المنصرم صرح لافروف أن إستدعاء قوات من الشرق الأوسط حتّمه غياب المهمات الملموسة لهذه القوات هناك. فالمرحلة الحرجة في الصراع السوري أصبحت من الماضي، وهذا ما أتاح إمكانية تخفيض مستوى الوجود الروسي. ويبدو أن الجيش الروسي إنسحب من عدد من المناطق في اللاذقية، فسارع إلى إحتلالها على الفور مقاتلو حزب الله الموالي لإيران. وفي الوقت نفسه، إرتفعت وتيرة التبديل في القوات، حيث يتم تدريجياً نقل المقاتلين ذوي الخبرة إلى الجبهة الأوكرانية، ويستبدلون في سوريا بمجندين جدد. ونقل وحدات متفرقة من سوريا إلى أوكرانيا يخفض قليلاً إمكانيات موسكو التكتيكية في سوريا,
يرى الموقع أن الحل الأمثل للقيادة الروسية المنخرطة كلياً بالحرب الأوكرانية هو مصالحة الأطراف المتحاربة في سوريا. وكما أصبح معروفاً، قامت موسكو مطلع العام 2023 بمحاولات تنظيم حوار بين وزيري الخارجية السوري والتركي، والذي تعتمد علي بلاده (تركيا) آفاق حل الأزمة السورية إلى حد كبير.
المصدر: المدن