كان الأدب ومازال تاريخًا يسطّر آمال وآلام الشعوب ونبض القلم الذي ينشر الجمال الموشى بالخيال، والألم الذي يعبر عن مرارة الحقيقة ناقلًا بذلك ثقافات الأمم وقضاياهم متغلغلًا في إدراكهم الفكري والجمالي مكونًا وجدانهم وضمائرهم، فلغة الشعوب وعيًا قائمًا بحد ذاته لذا مر الأدب بفترات انتعاش غنية بالإبداع والأسلوب الفريد وفترات انتكاس وانحطاط ورغم كل الانتكاسات لم يتوقف القلم يومًا عن الإنتاج الأدبي مهما أُحيط بسوء الظروف الإنسانية والسياسية المحبطة فمن رحم الألم يولد أناس مبدعون يزرعون بأقلامهم الأمل.
فالأدب هو صورة الفكر المتلألئة المتألقة التي تتمثل بلغة لا يشوبها قبح ولا يشوهها نقص، لغة قوية تعلمنا ما فاتنا من النحو والصرف والتراكيب لغة تبني علاقات جديدة بين المفردات لم يعرفها العقل من قبل لغة تنقل تسلسل أحداث تجعلك تشعر بأنك أحد شخوص الحكاية تعيش معهم تفرح لفرحهم وتتألم لألمهم وقد يكون الأدب هادفًا يحترم عقل المتلقي أو يكون ساقطًا إبداعيًا وسلاحًا مدمرًا بنصوصه الرديئة التي تبث أفكارًا تغسل الأدمغة وتسلبها القيم فتشوه العقول وتنشر الفوضى والتفكك بين أفراد المجتمع لذا اعتبره المتخصصون انعكاسًا فنيًا للوعي والفكر عند الشعوب.
يؤثر الأدب على الفرد الذي هو جزء من مجموعة بشرية تكوّن المجتمع حيث ينتقل القارئ للأدب بصحبة الكاتب إلى عالم يبنيه الأديب بقلمه واضعًا أفكاره في حروف راقية وبيئة نسجت جدرانها وشوارعها بين خطوط الرواية أو القصيدة فيزودنا الأديب بخبراته ورؤيته وفكره لننهل منها ولتصبح فيما بعد جزءًا من وجدادنا.
فمَن غير “ابن خلدون” يقدم مؤلّفا موسوعيّا يتناول فيه أحوال البشر في مقدمته الشهيرة؟
ومَن غير الكواكبي يأخذ على عاتقه نشر الفكر الحر والثورة ضد الظلم والاستبداد
ومن غير نزار قباني ومظفر النواب وأحمد مطر والماغوط ينقلون لنا فساد الأنظمة ويعرّون أمامنا الحكام ويفضحون ظلمهم الذي استشرى في البلاد؟
وكم كتب الشعراء عن الاضطهاد والظلم وكم دقوا بأيدٍ مضرجة أبواب الحرية الحمراء وكم لامست قصائدهم آلام الأمة وأوجاع معتقليها فكانت “يا ظلام السجن خيّم إننا نهوى الظلام”
فهذا محمود درويش ينقل لنا قضية بلاده الأسيرة على مدى عقود طال أمدها؟
وهذا وليد سيف الذي أبدع في وصف معاناة اللاجئين وآهاتهم في التغريبة الفلسطينية ثم حملنا معه في رحلة إلى قصور الأندلس من خلال رباعيته الشهيرة ونزار الذي علمنا الحب والرومانسية بكلمات تزيد الحبيب ألقًا وتيهًا ودلالًا تلك الأبجدية القبانية التي أغنى بها عبد الحليم ونجاة وكاظم مكتبة الفن العربي، والمنفلوطي الذي زرع فينا حب الخير حين تقدم بشرحٍ وافرٍ عن الخُلُق والضمير في النظرات والعبرات، ونجيب محفوظ الذي أبدع في تصوير ترابط المجتمع العربي وآفاته الاجتماعية وصوّر أنّات المرأة في عهد “سي السيد”
وكم بَنَت أبيات حافظ إبراهيم قواعد تربوية في تكوين الأسرة الناجحة حين قال: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
وكم تركت أبيات أحمد شوقي في احترام المعلم أثرًا عظيمًا في المجتمعات المتقدمة فكريًّا؟
وكم اتخذنا من أبيات الإمام الشافعي حكمة تقوّم سلوكنا ومن المعري فلسفة تزيد من معرفتنا ومن المتنبي عزة تزيد من ثقتنا بأنفسنا؟
وكم نقلت الكتب أخطاء ومشاكلات تربوية وكم طرحت حلولا وعالجت أمراضًا نفسية؟
وكم تعلمنا من كتاب الكتب الذي خطه العالم القدير فجاء كاملًا سليمًا من كل نقص أو خطأ بليغًا يعجز عن بلاغته البشر كلهم مجتمعين حيث زودنا بقصص ومواعظ وعِبر كانت وما زالت نبراسًا نقتدي به في كل مكان وزمان قصص كونت وعي البشر وغيرت منهجهم واعتقاداتهم الخاطئة وهذبت عاداتهم ونقلت لنا تاريخ الأمم التي جاءت قبلنا قصص جاءت ملائمة لفكر الإنسان في ذلك الحين فانقلاب عصا سيدنا موسى-عليه السلام- إلى أفعى مثلًا كان في زمن كثر فيه السحرة والمشعوذين.
فمن منا لم يعش مع سيدنا يوسف -عليه السلام- في سجنه ثم ملكه وفرحة والده بلقائه؟ ومن منا لم يعش مع أهل الكهف في محنتهم؟ ومن لم يشعر بالآلام النفسية والجسدية للسيدة مريم العذراء أثناء حملها بسيدنا عيسى عليه السلام؟ ومن منا لم تقوّم سورة لقمان سلوكه تلك السورة التي علمتنا ما يسمى في عصرنا الحالي بقواعد اللباقة الاجتماعية (الاتكيت) ومن لم يدفع شر ” التنمر” عن نفسه وعن الآخرين بعد التفكر بسورة الحجرات ومن منا لم يتقن الصبر على حماقة الآخرين وظلمهم بعد قراءة سورة المزمل؟ وكم رُفِعَت أعمدة البيوت على ما جاء في سورة الروم فكانت المودة والرحمة بين الزوجين وكم أحسنا التعامل مع والدينا بعد سورة الإسراء وكم تعاطفنا مع المرسلين في سورة ياسين وكم فرحنا لنصرة الحق وكم حزننا بسبب الظلم وقسوة الإنسان على الإنسان؟ كل هذه القصص صقلت شخصياتنا وبنت الوعي في عقولنا فظهر جليًّا في سلوكنا فكانت قوة الإرادة والبناء فشيدنا أعظم الحضارات.
من هنا ومن إيماننا بأهمية الوعي في تقدم الأمم اخترنا عنوان مجلتنا هذه لنؤكد على دور الوعي الذي يبعدنا عن غريزة القطيع والتبعية العمياء والنقاش العقيم والجدل الذي لا فائدة منه ولا جدوى ويقينا من الآفات الاجتماعية لنكون كما أرادنا خالقنا، ولتكون مجلتنا مجدافًا يعين قارب النجاة على الإبحار عكس تيار الجهل والحمق والنرجسية ويجتث الفرقة والشقاق واليأس ويزرع الوعي ويرتقي بنا إلى مكان يليق بنا.
فلنقرأ الأدب ولنسطر أجمل المعاني ولننشر الحب ولنشرح للبشرية بأننا شعوب جميلة رغم ما مررنا به من ظلم وخذلان، ولنكتب فالكلمة نور يُبطل الظلمات، لنكتب فالمعلقات الخالدة خلود التاريخ ودرة الشعر وباكورة الإبداع وتحفة الأدب العربي كُتِبت في الجاهلية لمجتمع كان معظمه أميًّا، لنكتب حتى نجعل من الكلمة منارة تستنير بها الأجيال.
فسبحان من جعل القلم أول مخلوقاته وأطلقه في يد خير ما خلق ليخطّوا به أدبًا يسير بالبشرية نحو الخير والحرية.
المصدر: الوعي السوري