ربما جسّدت عبارة ( لا تصالحْ ) التي صدحت بها حناجر الملايين من السوريين، شعاراً يحمل في مضامينه المباشرة ردّة فعل شعبية عارمة تستنكر التوجّه التركي نحو التطبيع مع نظام الأسد، ليقين الكثير من السوريين أن هكذا مصالحة لا تنحصر نتائجها في سياق المصالح التركية فحسب، بل سوف تودي بمصير الملايين من السوريين الذين لا يجدون في هكذا مصالحة سوى أنهم عربون مجاني تقدمه تركيا لحاكم دمشق، وعلى الرغم مما تختزله العبارة السالفة من مخزون رمزي، إلّا أن ثمة من يقف في ضفة أخرى،و يرى في الشعار المظاهراتي المذكور تعبيراً لا يقارب من المأساة السورية سوى نزقها الخارجي، حين لا ينطوي إلّا على سلبية الرفض التي يمكن أن تفضي إلى العدم، ولعل هذا ما يمكن أن تترجمه تعليقات الكثير من السياسيين والناشطين الذين يرون أن سياق المواجهة مع نظام الأسد لا يمكن اختزاله بعدم المصالحة فحسب، فهذا تقزيم للقضية، بل لا بدّ من إجبار السلطة الأسدية على الامتثال للقرارات الأممية ومن ثم إقرار المحاسبة والمحاكمة لرؤوس الإجرام، بل ربما ذهب البعض إلى وجوب محاسبة القائمين على الكيانات الرسمية للمعارضة على إهدارهم للقرار الوطني السوري لحساب الجهات القائمة على أمرهم وما سوى ذلك من رؤى وتصورات، وبالمجمل ربما اعتبر الناقدون لشعار ( لا تصالح ) أن على الجماهير التي علا هتافها ينبغي أن تُتبعه – حتى يكتسي شرعيته – بتصور بديل عن المصالحة. وبناءً على هذا الفهم تغدو عبارة ( لا تصالح) لا تحتفظ سوى بدلالتها الشعاراتية التي ربما أدّى تكرارها إلى الابتذال والانحدار نحوالشعبوية. ولا شكّ أن هذه الفهم، وإن ادّعى أصحابه بالصرامة المنطقية، إلّا أنه شحيح وهزيل من حيث عدم قدرته على قراءة العبارة السالفة ضمن سياقها اللغوي الذي نبتت ثم أينعت فيه، ولا شك أيضاً أنه لا يرى في تلك العبارة سوى كيان فيزيائي صامت ( شيء وإسم ) في حين أن أيّ كيان لغوي إنما ينطوي على مفهوم وصورة سمعية ملازمة له وفقاً لفرديناند دوسوسور – 1857 – 1913 – الذي يجد أن الصورة السمعية إنما تختزل المضمون أو الأثر النفسي للعبارة، ووفقاً لهذا يبدو من العسير علينا قراءة عبارة ( لا تصالح) دون حضور شديد لمجمل المعاني والرؤى التي تضمنتها قصيدة الشاعر الراحل أمل دنقل ( 1940 – 1983) التي جاءت حافلة بنبوءات إستشرافية عظيمة، ولئن كان الشاعر قد كتب قصيدة ( لا تصالح ) في سياق تاريخي مختلف عن السياق الراهن، إذ جسّدت القصيدة في حينها ردّة فعل الذات القومية على حالة الانكسار التي ساهمت بتعزيزها سياسات الأنظمة العربية الحاكمة، إلّا أن اختلاف السياق التاريخي لا يحول دون وحدة الفكر والمواقف الإنسانية، وخاصة في مجال الفن، والشعر على وجه الخصوص، وربما هذا ما أراده أرسطو( 384 ق م – 322 ق م ) حين جعل الشعر قرين الفلسفة، ورفعه إلى منزلة أعلى من التاريخ، باعتباره محاكاة للمفاهيم والمواقف والقضايا الإنسانية التي لا يختزلها مكان ومكان مُحدّدان، فحين يقول أمل دنقل:
( أترى حين أفقأ عينيك
ثمّ أُثبتُ جوهرتين مكانهما
هل ترى؟)
ألا تلامس هذه المقاربة الشعرية حالةً فجائعية تتقوّم على إحساس الكثير من السوريين بالفقد لأبنائهم وآبائهم وأمّهاتهم ممّن قضوا في المذابح التي ارتكبها نظام التوحّش الأسدي في بلدات الحولة أو الغوطة أو التضامن أو خان شيخون أو سواها؟ ولنفترض أن سلطة دمشق قد أذعنت أو استجابات لحلّ سياسي وفقاً للقرارات الأممية كما يتوهّم الواهمون، وكما يدّعي المُصالحون، فهل ستطفئ هذه التسوية المزعومة جذوة الفقد لدى المفجوعات والمفجوعين من السوريين؟ لعل هذا التناول الشعري لطبيعة المواجهة بين المجرم والضحية تخرج بالقضية من إطارها السياسي النفعي الضيّق، وتحاول مقاربتها بأبعادها الأخلاقية والإنسانية الكبرى، وهل كانت المواجهة بين الشعب السوري والنظام الحاكم سوى مواجهة حقوقية وأخلاقية قبل أي اعتبار سياسي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يبقى للمصالحة أي معنى سوى تعزيز الفجيعة المتمثلة بمكافأة المجرم وليست سبيلاً إلى حقن الدماء كما يتذرّع أرباب ( الواقعية السياسية)؟
( سيقولون : جئناك كي تحقن الدم
جئناك، كن يا أمير الحكم
سيقولون: ها نحن أبناء عم
قل لهم : إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك )
ما هو مؤكَّد أن أمل دنقل ليس فيلسوفاً بالمعنى المنطقي للمصطلح، وكذلك ليس مُنظِّراً سياسياً، ولكنه شاعر، والشاعر فيلسوف بالطبع، إلّا أنه يفكّر ويتفلسف فنيّاً وليس منطقياً، وهو إذ يقارب حدثاً سياسياً من جانب فني أو شعري، إنما يرتقي من منظور جزئي إلى منظور عام أوسع أفقاً، وهو ما أسماه أرسطو ب( الكلّيات)، وهذا يتيح لنا قراءة النص الشعري قراءة تتجاوز الوظيفة التعبيرية للشعر، بل تبحث وتنقّب في تضاعيفه عن مضامين معرفية ولكنها ذات تجلّيات فنية بكل تأكيد :
( إن سهماً أتاني من الخلف
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم الآن صار وساماً وشارة )
وهكذا تنحو محاكاة الغدر لدى أمل دنقل من واقعة عيانية في زمن محدد، إلى مفهوم عام، ولا فرق إنْ كان الغادرُ صهيونياً مُغتصباً ، أو حاكماً عربياً جزّاراً، فكلاهما عدوٌّ للحق، وزاهقٌ للأرواح، ماحقٌ لكل أثرٍ إنساني في الحياة.
لقد قيل الكثير عن وجوب الركون إلى الواقعية والتخلّي عن أحلام التغيير التي أشرعها السوريون إبان انطلاقة ثورتهم، بذريعة تغيِّر موازين القوى وتحوّل المواقف الدولية والاختراقات الفظيعة التي طالت صفوف الثورة، وخذلان المعارضة لشعبها، وخروج القضية السورية من أيدي السوريين وووإلخ، إذ لقد توافرت جميع عوامل الإحباط في المشهد السوري، ولكن كانت صيحات الثائرين تباغت الجميع عند كل انعطافة بقضيتهم، وحين يسكت الجميع أمام تلك الصيحات ( الأعداء والحلفاء والقادة المعارضون) يحضر بقوّة قول أمل دنقل:
( لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدام
ما بنا طاقة لامتشاق الحسام
عندما يملأ الحق قلبك
تندلع النار إنْ تتنفّس
ولسان الخيانة يخرس )
ليس الفحوى الدلالي لشعار ( لا تصالح) فحسب، يعبر عن إدراك شعبي عميق لطبيعة المواجهة مع الطغيان الأسدي، بل لعل معظم الشعارات التي أطلقها الشارع السوري الثائر، بدءًا من ( الموت ولا المذلة والشعب السوري واحد والشعب يريد إسقاط النظام، وصولاً إلى – لا تصالح ) كانت أكثر تعبيراً ووعياً في دلالاتها من تنظير بعض المثقفين والساسة، إذ إنها ومنذ وقت مبكر، أفصحت عن أن مواجهة الطغيان الأسدي تتجاوز تخوم السياسة، لتتخذ أبعادها الوجودية.
المصدر: تلفزيون سوريا