حتى وقت قريب، كانت تركيا من الدول القليلة التي حافظت على دعمها السياسي والعسكري للمعارضة السورية وظلّت متمسكة بموقفها الرافض للانتفاح على نظام الأسد والتعامل معه. لكنّ كل شيء تقريباً تغيّر الآن. شرعت أنقرة نهاية العام المنصرم في مفاوضات علنية مع النظام برعاية روسية لإصلاح العلاقات معه وتستعد لعقد اجتماع جديد معه على مستوى وزراء الخارجية بمشاركة روسيا بعد النصف الثاني من الشهر الجاري بعد اجتماع ثلاثي على مستوى وزراء الدفاع وقادة الاستخبارات في موسكو الأربعاء الماضي. كما أبدى الرئيس رجب طيب أردوغان أكثر من مرّة رغبته في عقد لقاء مع بشار الأسد.
يعكس هذا التحول الجذري في السياسة التركية في سوريا كيف أن الهاجس الأمني من المشروع الانفصالي لوحدات حماية الشعب الكردية والضغط الداخلي الذي يواجه أردوغان في قضية اللاجئين مع اقتراب الانتخابات التركية أعادا تشكيل الموقف التركي من نظام الأسد. مع أن البعض يُجادل حالياً في دوافع ومكاسب الانفتاح التركي على الأسد وما إذا كان سيُعزز موقف أنقرة في صراعها مع الوحدات الكردية ويُساعدها في إعادة طوعية وآمنة للاجئين السوريين في تركيا إلى بلدهم، إلآّ أنّه أثار بالفعل تساؤلات كبيرة حول مستقبل دور تركيا في سوريا وعلاقتها بالمعارضة السورية.
بادئ ذي بدء، تختلف الحالة التركية عن الدول العربية التي أحدثت تحوّلات في الموقف من النظام. في حين أن بعض الدول كالإمارات والأردن أعادت سفاراتها إلى دمشق ولم تعد تتبنى صراحة مطلب التسوية السياسية، فإن التحول التركي لا يهدف إلى إعادة العلاقات مع دمشق بشكل طبيعي، كما أن أنقرة لا تزال متمسكة بتحقيق تسوية سياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 2254. في غضون ذلك، فإن الأهداف التي وضعتها تركيا في حوارها مع النظام تُركز بشكل أساسي على الوصول إلى تعاون أمني معه في مواجهة الوحدات الكردية وفي إعادة اللاجئين. مع ذلك، فإن التحول التركي في سوريا سيكون له آثار عميقة على مسار الصراع، ما يجعل هواجس المعارضة إزاءه مشروعة إلى حد كبير.
لدى تركيا وجود عسكري كبير في شمالي سوريا وتُشرف على الجيش الوطني الذي يضم غالبية فصائل المعارضة المسلحة. كما تُعتبر ضامناً رئيسياً للمعارضة في منصّة أستانا. مع ذلك، تبدو أنقرة واضحة في أن انسحابها العسكري من سوريا مرهون بإنهاء جذري للصراع على قاعدة التسوية السياسية. حتى في الوقت الذي بدأت فيه تركيا خلال الأشهر الماضية إرسال إشارات واضحة لرغبتها في الحوار مع دمشق والعمل على إجراء مصالحة بين النظام والمعارضة، أكّد المسؤولون الأتراك أن تحول الموقف التركي تجاه الأسد لا يعني تخلياً عن المعارضة بقدر ما يهدف إلى دفع عملية التسوية السياسية وتهيئة الأرضية المناسبة لإعادة طوعية وآمنة للاجئين فضلاً عن حاجتها إلى التعاون الأمني مع النظام وروسيا من أجل تأمين حدودها الجنوبية.
قبل كل شيء، من غير الصائب النظر إلى التحول الراهن في العلاقة بين تركيا والنظام على أنه وليد اللحظة بقدر ما كان نتيجة لسلسلة تحولات طرأت على السياسة التركية في سوريا منذ عام 2016. لعبت المتغيّرات الرئيسية التي طرأت على مسار الصراع بعد التدخل العسكري الروسي لدعم نظام الأسد في عام 2015 وتصاعد مخاطر مواجهة عسكرية بين تركيا وروسيا في أعقاب حادثة إسقاط المقاتلة الروسية إلى جانب تصاعد الهواجس التركية من تمدد الوحدات الكردية في شمالي البلاد وإعلانها إدارة ذاتية دوراً رئيسياً في تحول الاستراتيجية التركية التي سعت للتكيف مع الواقع العسكري الجديد والتركيز على مواجهة مخاطر المشروع الانفصالي. رغم الانتكاسة الكبيرة التي منيت بها الثورة السورية بعد انسحاب المعارضة من مدينة حلب، إلآّ أن انخراط أنقرة في عام 2017 في منصّة أستانا ساهم على نحو كبير في حماية ما تبقى للمعارضة من مناطق في شمال غربي البلاد وفرض على النظام وحلفائه الموافقة على اتفاق لوقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب، وهو ما ساهم في منع انهيار كامل لحالة المعارضة وحد من مخاطر حدوث كارثة إنسانية جديدة.
رغم أن انخراط تركيا في منصة أستانا فرض على المعارضة تجميد صراعها مع النظام والتفرغ لحماية المناطق المتبقية لها، إلاّ أن هذا الانخراط كان في مصلحة المعارضة على اعتبار أنّه قطع الطريق على النظام وحلفائه لاستعادة السيطرة على هذه المناطق في ذروة قوتهم. من هذا المنظور، فإن التحول التركي ساعد المعارضة في تجنب خطر الهزيمة الكاملة. علاوة على ذلك، فإن حقيقة أن الدول التي كانت داعمة للثورة السورية في بداية الحرب وتخلت عنها بعد ذلك، جعلت الدور التركي في سوريا حيوياً للمعارضة مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لم يقتصر فحسب على الحفاظ على الستاتيكو العسكري القائم في الشمال السوري منذ عام 2016، بل شمل أيضاً جانباً أمنياً وإنسانياً كبيراً في إدارة المناطق الخاضعة للسيطرة التركية من خلال إعادة تأهيلها وجعلها قابلة للحياة. من غير المرجح أن تؤدي المفاوضات التركية السورية إلى سماح تركيا للنظام بدخول مناطق المعارضة بشكل فوري على اعتبار أن الوجود التركي في هذه المناطق لا يزال يُشكل حاجة أمنية أساسية لتركيا كما يمنحها ورقة قوية للضغط على الأسد لتحقيق انتقال سياسي إذا ما رغب بانسحاب تركيا من سوريا.
قد تؤدي تفاهمات بين تركيا والنظام إلى تحقيق الأخير بعض المكاسب من خلال السيطرة على المناطق التي تُطالب أنقرة بانسحاب وحدات حماية الشعب الكردية منها وهي عين العرب كوباني ومنبج وتل رفعت، وتمكين النظام من السيطرة على المعابر مع تركيا أو استعادة بعض المناطق في شمال غربي البلاد. مع ذلك، فإن أي تفاهمات محتملة لن تؤدي في المستقبل المنظور إلى إحداث تغيير جوهري في الوجود التركي في مناطق المعارضة. في حين أن بعض الدوافع الرئيسة للتحول التركي تبدو مرتبطة بالعامل الانتخابي في تركيا وحاجة أردوغان إلى معالجة ملف اللاجئين، إلآّ أنه يعكس بشكل أساسي تغيّر الأولويات التركية في سوريا.
بهذا المعنى، فإنه حتى لو نجح أردوغان في الفوز بالانتخابات، فإن أنقرة ستمضي في هذا المسار مع النظام. يجب الأخذ بعين الاعتبار أن تراجع الضغط الداخلي على أردوغان بعد الانتخابات في حال فاز بها، قد يجعله أقل قابلية لتقديم تنازلات جوهرية للنظام. لعلك ذلك ما يُفسر تخلي الأسد عن تردده في الانفتاح على أردوغان في الوقت الراهن والقبول بالانخراط في الآلية الثلاثية بالنظر إلى أن المكاسب التي يُمكن أن يحصل عليها الآن لن تكون بمتناول اليد عندما يتراجع ضغط الانتخابات على أردوغان. أخيراً، وبغض النظر عن التأثيرات المحتملة للتحول التركي على المعارضة السورية، فإن ما يبدو مؤكداً أن ضعف المعارضة في المعادلة سيتعزز بشكل أكبر وإن بدا ذلك أمراً واقعاً بمعزل عن تحولات السياسة التركية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا