لا شك في أن حكومة نتنياهو الجديدة ستقوّض بصورة أكبر سياسة إسرائيل التي تسعى لترسيخ الاستقرار في الأراضي المحتلة.
نور عرفة زميلة في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثها على الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والعلاقات بين الشركات الخاصة والحكومة، واستراتيجيات بناء السلام، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. صدر لها مؤخرًا مقال لدى كارنيغي بعنوان Pacification Without a Political Horizon: Why Israel’s Strategy to Control the Palestinians Is Failing (تهدئة من دون أفق سياسي: لماذا تفشل الاستراتيجية الإسرائيلية في السيطرة على الفلسطينيين). أجرت “ديوان” مقابلة معها مؤخرًا لمناقشة هذا المقال، ولاستيضاح أفكارها بشأن العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية على ضوء إعلان بنيامين نتنياهو عن تشكيله حكومة جديدة في إسرائيل.
مايكل يونغ: صدر مؤخرًا مقالك الأول لدى كارنيغي. ما هي الحجّة التي تقدّمينها في المقال، وما الذي دفعك لكتابته؟
نور عرفة: على الرغم من أن الموجة الحالية للمقاومة المسلّحة في الضفة الغربية قد حظيت باهتمام إعلامي، فإن التغطية تركّزت في جزء كبير منها على الهجمات بحد ذاتها، التي يُنظَر إليها عادةً وكأنها حوادث معزولة. ولذا، أردت كتابة مقال لوضع هذه الموجة في السياق السياسي الأوسع للأراضي الفلسطينية المحتلة، ولطرح سؤال محدّد عما تكشفه لنا هذه الهجمات عن مصير الاستراتيجية الإسرائيلية التي تسعى لبسط الاستقرار وإدارة النزاع.
فكما أوضح في المقال، الهدف الأساسي الذي تسعى إليه إسرائيل منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993 هو بسط الاستقرار في الأراضي المحتلة من خلال الاعتماد على ركيزتَين أساسيتَين: استخدام تدابير التهدئة من خلال توفير “تسهيلات اقتصادية” لاحتواء الفلسطينيين؛ والتعويل على السلطة الفلسطينية لضبط الفلسطينيين والحفاظ على الاستقرار بالنيابة عن إسرائيل. ولكن، أُحاجج في المقال بأن هذه الاستراتيجية باءت بالفشل، والدليل على ذلك أعمال المقاومة المستمرة. أسلّط الضوء على أسباب فشل هذه الاستراتيجية، وأنظر أيضًا في التداعيات السياسية لهذا الأمر على المدى البعيد. وأستعرض كذلك ثلاثة سيناريوهات مستقبلية محتملة، وأوضّح أن جميع السيناريوهات غير مستدامة ولن تقود إلى الاستقرار الذي تسعى له إسرائيل، إلا حين تتوقف إسرائيل عن ممارسة القمع وتقبل بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
يونغ: تقولين إن منظومة السيطرة الإسرائيلية الحالية غير قابلة للاستدامة. مع ذلك، فهي مستمرة منذ أكثر من نصف قرن. ما هي برأيك التطورات الأساسية التي ستشهدها السنوات المقبلة والتي قد تُحدث تغييرًا في المواقف الإسرائيلية، إن كان ثمة تغيير فعلًا؟
عرفة: باعتقادي، من الممكن أن تلعب العوامل العالمية دورًا مهمًا على المدى الطويل في إرغام إسرائيل على إنهاء منظومتها الحالية القائمة على الظلم والتمييز. تحدث منذ الآن بعض التطورات التي يُرجَّح أن تقود إلى تحديات متزايدة لنظام الاحتلال الإسرائيلي. والتطور الأبرز هو تبدّل نظرة المجتمع الدولي لإسرائيل ونعتها بأنها دولة تفرض نظام أبرتهايد (أو فصل عنصري) قائمًا على الإخضاع المنهجي للفلسطينيين والسيطرة العرقية عليهم. ويأتي ذلك عقب اعتماد إطار الأبرتهايد من جانب منظمات دولية لحقوق الإنسان، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، إضافةً إلى المنظمات الفلسطينية وعدد من المنظمات الإسرائيلية.
ولهذا التحوّل في نظرة العالم إلى إسرائيل أبعاد مهمة. فبالمعنى القانوني، يُعدّ الأبرتهايد جريمة ضد الإنسانية، لذا تُحظَّر ممارسته ويُعتبر انتهاكًا للقانون الدولي. وبناءً على ذلك، تتحمّل إسرائيل مسؤولية قانونية عن ممارساتها القائمة على الأبرتهايد، وتقع على عاتق البلدان الأخرى والأمم المتحدة مسؤولية إنهاء هذا الوضع، من خلال، على سبيل المثال، اتّخاذ تدابير دولية كالعقوبات. ومن شأن الاستخدام المتزايد لهذا الإطار في المحافل الدولية أن يدفع الدول إلى ممارسة مزيدٍ من الضغوط على إسرائيل في المستقبل. ومن المرجّح أيضًا أن يولّد الإطار المناهض للأبرتهايد دعمًا وتضامنًا دوليَّين، نظرًا إلى التاريخ المعروف للنضال ضدّ الأبرتهايد في جنوب أفريقيا.
التطور الدولي الآخر الذي يُحتمَل أن يكون ذا أهمية هو التغيير في السياق الجيوسياسي. فبعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما أعقبه من إدانة عالمية لروسيا وفرض العقوبات عليها، ستجد القوى الغربية في المستقبل صعوبة في التغاضي عن الممارسات الإسرائيلية والحفاظ على مظهر من مظاهر الأخلاقيات. وسيكون ذلك صعبًا على وجه الخصوص مع انطلاقة حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتشدّدة التي تكشف للعالم عن وجه إسرائيل الحقيقي. ولذا، حذّر مراسل صحيفة هآرتس أموس هارل من أن “الاتفاقات الائتلافية بين الليكود وأحزاب الصهيونية الدينية قد يكون لها بعض التداعيات، بالإضافة إلى منحها صلاحيات كبيرة في الأراضي [المحتلة] لشريك ائتلافي متطرّف ذي أجندة عقائدية مختلفة… [قد يضع ذلك إسرائيل] في موقع الاحتكاك المتزايد مع المجتمع الدولي، ما قد يؤدّي إلى خطوات ضدها لا يمكن العودة عنها”.
في نهاية المطاف، أعتقد أن إسرائيل ستُضطر إلى وضع حدٍّ لمنظومة الظلم الحالية حين تصبح تكاليف الإبقاء عليها أعلى من منافعها. وسيتحقق ذلك عندما لا تعد إسرائيل تتمتع بحصانة غير مشروطة من المجتمع الدولي.
يونغ: بما أنك عشتِ في الضفة الغربية، هل يمكنك إطلاعنا على الديناميكيات على الأرض في صفوف الفلسطينيين هناك؟ هلّا تخبريننا أكثر عن المجموعة المعروفة باسم “عرين الأسود” مثلًا، وعما تكشفه حول الطريقة التي تتشكّل بها بعض
عرفة: الأوضاع في الضفة الغربية في حالة غليان منذ منتصف العام 2022، إذ تشهد بصورة شبه يومية غارات واعتقالات وعمليات قتل ينفّذها الجنود الإسرائيليون، وزيادة في الهجمات المسلّحة التي يشنّها الفلسطينيون، وارتفاعًا في وتيرة العنف الذي يمارسه المستوطنون. فمنذ بداية العام 2022، لقي أكثر من 200 فلسطيني و25 إسرائيليًا مصرعهم. وبعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي أدّت إلى إعادة نتنياهو إلى السلطة وتشكيل الحكومة اليمينية الأكثر تطرفًا في التاريخ الإسرائيلي، يساور الفلسطينيين شعورٌ متنامٍ بالخوف والقلق بشأن المستقبل. فقد تم إعطاء مناصب مهمة في الحكومة الإسرائيلية الجديدة لشخصيات يمينية متطرفة مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ما سيمنحهم قدرًا كبيرًا من السلطة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. تدعو هذه الشخصيات إلى زيادة استخدام العنف بحق الفلسطينيين، وتنفيذ مزيد من عمليات التوغّل في مجمّع المسجد الأقصى، وفرض ظروف أقسى على السجناء الفلسطينيين، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وضم الضفة الغربية، بالإضافة إلى إجراءات أخرى.
في هذا السياق الذي يتّسم أيضًا بتراجع شرعية السلطة الفلسطينية وافتقارها إلى استراتيجية سياسية لتأمين حقوق الفلسطينيين، اكتسبت الجماعات الفلسطينية المسلحة شعبية متزايدة. وقد تشكّل الكثير من الجماعات المسلحة الشعبية، في محاولة لملء الفراغ الذي خلّفته السلطة الفلسطينية – منها مثلًا كتائب جنين ونابلس وطوباس في شمال الضفة الغربية – إلا أن مجموعة “عرين الأسود” لا تزال من بين الأكثر شعبية. تتألف هذه المجموعة التي تتّخذ من البلدة القديمة في نابلس مقرًّا لها، من شباب في مطلع العشرينيات من العمر ينتمون لفصائل سياسية مختلفة، لكنهم قرروا تخطّي الخلافات الفئوية ورصّ صفوفهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وقد باتت المجموعة معروفة بهجماتها ضد الجنود والمستوطنين الإسرائيليين والحواجز العسكرية الإسرائيلية، وبالتالي أصبحت عرضة للاعتقالات والاغتيالات على يد إسرائيل، بالإضافة إلى اعتقال عضو رئيسي للمجموعة من قبل السلطة الفلسطينية.
ولكن على الرغم من القمع الإسرائيلي لمجموعة “عرين الأسود”، ومن قيام بعض الأعضاء بتسليم أنفسهم إلى السلطة الفلسطينية، لا تزال المجموعة تعمل في الضفة الغربية ويُعتقَد أنها ألهمت مجموعات قتالية ناشئة مثل “الكهف الأسود”. ولذا، لا تزال المقاومة المسلّحة الفلسطينية تشكّل تحدّيًا كبيرًا لإسرائيل والسلطة الفلسطينية.
يونغ: هلّا تشرحين لنا الأهمية المتزايدة للفلسطينيين الموجودين داخل حدود إسرائيل للعام 1948، وما هي الخيارات الإسرائيلية للتعامل معهم؟
عرفة: لطالما كان الفلسطينيون المواطنون في إسرائيل، الذين يشكّلون راهنًا خُمس السكان الإسرائيليين، المواطنين غير اليهود الذين لا يُرغَب بهم في “الدولة اليهودية”، واعتُبر وجودهم تهديدًا لهوية الدولة اليهودية. ومن أجل التعامل مع “المشكلة العربية”، اعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة قائمة على التهويد بهدف الحفاظ على أكثرية ديموغرافية يهودية. وقد استندت هذه السياسة إلى ركائز عدة، بما في ذلك القضاء على وإنكار الهوية الفلسطينية للفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، وطمس تاريخهم، والسعي إلى استيعابهم في المجتمع الإسرائيلي، ومحاولة شرذمتهم من خلال تعزيز الهويات المحلية والمذهبية.
كذلك، أقرّت إسرائيل عدة قوانين تسعى إلى تقييد نمو الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل وقراهم، وتهميشهم سياسيًا. فعلى سبيل المثال، يُطبَّق اليوم أكثر من 60 قانونًا يمارس التمييز بحق الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل، وتؤثّر هذه القوانين في جوانب عدة من حياتهم، بما في ذلك التوظيف، والسكن، والتعليم، ما يرسّخ فعليًا موقعهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وكان آخر هذه القوانين قانون الدولة القومية للشعب اليهودي للعام 2018 الذي يؤكّد على أن “حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يقتصر على اليهود”، ما يعزّز الهيمنة اليهودية على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.
ولكن على الرغم من هذه السياسات، ولا سيما تلك التي تسعى إلى تجريد الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل من هويتهم الفلسطينية، لا يزال يسود شعورٌ قوي بالانتماء للهوية الفلسطينية في أوساط المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. وكان ذلك واضحًا بوجهٍ خاص خلال هبة الكرامة في أيار/مايو 2021، التي اندلعت عقب المحاولات الإسرائيلية لإجلاء العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جرّاح في القدس. فخلال الانتفاضة، شارك آلاف المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل في احتجاجات أكّدوا من خلالها على هويتهم الفلسطينية وأبدوا وحدتهم مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وفي قطاع غزة، وأثبتوا أنهم يلعبون دورًا أساسيًا في النضال ضد سياسات القمع والأبرتهايد التي تمارسها إسرائيل.
وردًا على الاحتجاجات، شنّت إسرائيل حملة ترهيب استهدفت المواطنين الفلسطينيين في أراضيها، وكثّفت إجراءاتها لإنكار هويتهم الفلسطينية – مثل حظر العلم الفلسطيني. وقد تزامنت هذه الإجراءات مع حملة تحريض شنّها زعماء سياسيون ودينيون إسرائيليون ضد الفلسطينيين، واتّسعت رقعتها بصورة متزايدة خلال العقد المنصرم. وغالب الظن أن جميع هذه الإجراءات سوف تتكثّف في المستقبل. ومع تشكيل الحكومة الجديدة المنتمية إلى اليمين المتطرّف، تجدّد الكلام عن “طرد العرب”، بدفعٍ من شخصيات مثل بن غفير. ولكن من غير المرجّح أن تتخذ الحكومة الجديدة مثل هذه الإجراءات المتطرفة في المستقبل القريب، ولا سيما أن الأنظمة العربية التي عمدت إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل لن تجرؤ على التغاضي عن هذه الممارسات.
يونغ: ما هي درجة المصداقية التي يمكن أن تتّسم بها أي استراتيجية فلسطينية للمقاومة المسلحة ضدّ إسرائيل، ولا سيما إذا ارتبطت بمجموعات تحوم شكوك حول اعترافها بإسرائيل، مثل حركة حماس؟ بعبارة أخرى، إذا كانت منظومة السيطرة الإسرائيلية غير مستدامة، ألن نبلغ أيضًا ربما مرحلة تصبح فيها المقاومة الفلسطينية غير مستدامة إذا نُظِر إليها بأنها تسعى إلى هزيمة إسرائيل؟
عرفة: لطالما اتّخذت المقاومة الفلسطينية أشكالًا مختلفة، مثل المقاومة القانونية والاقتصادية والمسلّحة، بالإضافة إلى حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. والموجة الراهنة للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية ليست مبنيّة على استراتيجية، بل هي إلى حدٍّ كبير محدودة النطاق، وتقودها مجموعات مسلحة لم تحدد أهدافًا سياسية واضحة، فضلًا عن افتقارها إلى أساس تنظيمي وقيادي راسخ.
التحدي الأساسي الذي يواجهه الفلسطينيون في الوقت الراهن هو غياب تصوّر واضح للمرحلة النهائية الفلسطينية من شأنه أن يوفّر نوعًا من التوجيه بشأن أدوات المقاومة الأكثر ملاءمة للاستخدام. ففي سياق الضعف المتزايد الذي تعاني منه السلطة الفلسطينية التي تفتقر إلى الشرعية والمصداقية، بات تركيز الفلسطينيين عند مستوى القاعدة ينصبّ على المبادئ الأساسية مثل الحرية والمساواة والعدالة، ضمن إطارٍ قائم على الحقوق. ولكن التحديات الرئيسة في المستقبل ستتمثّل في رصّ الصفوف، والاتفاق على أهداف سياسية أوسع، والتنظيم على المدى البعيد.
المصدر: مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط